أنثروبولوجيا التواصل في ألف ليلة وليلة
” دراسة في البنية الأسطورية لقصة (عاشقان من بني عذرة) “
عماد علي سليم أحمد الخطيب
ملخص البحث
ينقسم هذا البحث إلى قسمين، نظري وتطبيقي، يحاول البحث في القسم النظري، أن يربط بين دراسة البنية اللغوية، ودلالتها الأسطورية، من خلال مصطلحات تتداخل لتوضيح مفهوم ( أنثروبولوجية التواصل) في الحكاية القديمة. وسيتحدث البحث عن مفهوم مصطلحي الصلة والتواصل، وعوامل التواصل، ونمطي أنثروبولوجيا التواصل اللغوي وغير اللغوي، ثم حديث نظري عن البنية، والأسطورة والدلالة والأثر.
ثم يدرس القسم التطبيقي في البحث واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة، هي (عاشقان من بني عذرة)، وهي حكاية من حكايات عديدة، تشمل ثلاث ليال تقع بين الليلة (689) والليلة (691)، وسيدرس البحث أنثروبولوجية التواصل في الحكاية من خلال مشاهد ثلاثة هي:
– مشهد صورة الحب.
– مشهد صورة الموت.
– مشهد صورة التضحية.
وسيختم البحث بنتائج، وقائمة للمصادر والمراجع.
أولا : حديث في التنظير .
-1-
سيبدأ الباحث الحديث عن النظرية، بالتعريفات التي تصب في نظرية ( أنثروبولوجية التواصل)، والبداية مع مصطلح الوصل : (Conjunction)فهو واحد من تقنيات الصلة بين الذات والهدف ( ) .
(Constitutive factors of Communication) أما العوامل المؤلفة للتواصل
فهي العناصر الداخلة في أي فعل ( قولي ) تواصلي والتي لا يستغنى عنها لأداء وظيفته وقد حددها بوهلر (Büuhler) بثلاثة عناصر هي: المرسل والمتلقي والسياق، ثم اقترح ياكوبسون(Jakobson ) – فيما أصبح بعد ذلك من أكثر نماذج الاتصال تأثيرا في السرد- ستة عوامل للتواصل اللغوي، هي :
• المرسل ( باعث الرسالة أو القائم بتشفيرها ).
• المرسل إليه ( المتلقي أو القائم بحل شفرة الرسالة ).
• الرسالة نفسها.
• الشفرة التي بموجبها يتحدد معنى الرسالة.
• السياق ( المرجع الذي تشير إليه الرسالة ).
• الصلة contact (2) .
في حين يرى ( هايمز (Hymes أن عناصر التواصل تكمن في:
• الموضوع Topic) )بدلا من السياق.
• مكان وزمان المشهد (Setting) .
• المشهد scene) ).
• الموقف.
• سياق الفعل التواصلي.
ويرى (هايمز) أن مقابل كل عنصر هناك وظيفة من وظائف التواصل، وأن كل فعل تواصل ينطوي على وظيفة من هذه الوظائف(3).
: التي يقول بها (هايمز) فهي ( Contact) أما تعريف الصلة
واحدة من العوامل المؤلفة ( للفعل القولي ) للتواصل، والصلة هي التواجد الجسماني، وهي العلاقة السيكولوجية التي تسمح للمرسل والمتلقي بالدخول والبقاء في عملية الاتصال. وهكذا فإن العوامل المؤلفة لعملية التواصل أي : الوظيفة التواصلية(Phatic Function) تكون عندما يكون فعل الاتصال متعلقاً بهذه (الصلة) (4).
ويرى (ياكوبسن) أنّ حالات التواصل تحتوى على وظائف تؤديها اللغة، وهي:
• المرجعي( (The referential : وهو ما يتعلق بمحتوى الرسالة.
• المثير (The Emotive) : عندما يتعلق فعل التواصل بالمرسل أو المتكلم.
• التواصلي The phatic) ) : عندما يكون فعل التواصل متعلقا بالصلة بين المرسل والمتلقي .
• المثار( The connective ) : حينما يكون فعل التواصل متعلقا بالمتلقي 0
• الشفرة المستخدمة (The multilingual) في حل محتوى الرسالة (5) .
ويرى الباحث أن تعريفات الأسطورة (Myth) كثيرة، ويضبطها الباحث، وفق ما يرتبط معها في المدروس سردًا أو شعرًا، ولقد استخدمت كلمة “أسطورة” أو “حكاية خرافية” استخدامات متعددة ومختلفة على مر الأيام إلى أن وصلت إلى اصطلاحها الفني الحالي.
والأسطورة -كما يراها محمد خان- (1) عبارة عن : تفسير علاقة الإنسان بالكائنات، فالأسطورة مصدر أفكار الأولين، وملهمة الأدب، والأسطورة -عند مصطفى الجوزو- تشترك في أمرين هما: أن الأسطورة، أولاً: حكاية، وأنها، ثانياً: تتحدث في عالم وهميّ يرمز إلى أشياء وأحداث حقيقة لكن منحرفة أو مضخمة (2).
وفي التطبيق التحليلي، يأخذ الباحث برأي أن الأسطورة – برأي (شلنج) تخفي في طياتها نوعاً من المنطق الذي لا يمكن إرجاعه إلى منطق آخر(3). وهي عند كاسيرر Cassirer)) شكل حياة رمزي. فيتناول (كاسيرر) الأسطورة باعتبارها “شكلا رمزيًا أصليًا “، أي، كواحدة من تلك الأشياء، (كاللغة نفسها) التي نوسطها بين أنفسنا والعالم الخارجي لكي ندركه (1).
فيرى الباحث أن العمل في التحليل الأسطوري يبحث عن فكرة لها قيمة عند كاتبها، تجعل من اللغة صانعة بطولة ما ! وقد تكون الأسطورة صورة عن إبداع المؤلف نفسه؛ فإن هذه الصورة تخلق عالمه الذي يلتزم بوصفه، ثم بلحظة استبصار يجتمع الفعل والفكر في عملٍ يخلق نفسه في لحظة جمالية.
فهل لأسطورة ألف ليلة وليلة ذاك الوصف الذي يخلق منها صورة إبداعية لشيء من نفس مبدعها ؟
إنّ دراسة الأسطورة تحليق بالخيال بين ظلَلٍ من الغمام، مع قضاء الأمر على الأرض، وبذلك نعمل على توسيع الآفاق الفكرية، وفي الوقت نفسه نربط الدراسة بالقيم الإنسانية، والحياة الواقعية ، لِتُرْجَعْ الأمور إلى صانِعها. ففضلاً عن الآلهة والقوى غير المرئية؛ كالشياطين والجن والملائكة، هناك صورة لبشر متفوِّقين ووحوش، وأخيراً، صورة أسطرة للأدب.
وعن علاقة الأسطورة بالأنثروبولوجيا، نتحدث عن أنها تحوي عناصر أساسية لحقيقة الإنسان ووجوده، وتضع الإنسان في كل زمان ومكان أمام مرآة صافية مصقولة يرى فيها وجهه السليم وحقيقة وجوده، بفعل تنامي القوة الخيالية للإنسان، وتفكيره التأمليّ، قفزت القوى الطبيعية والكونية في إطار حياة ذلك الإنسان البدائي -من كينونتها الأولى كقوى متمثلة في عناصر الطبيعة نفسها، إلى آلهة مجسدة، ومشخصة تتحرك على مسرح خيال ذلك الإنسان، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أمور وجوده، كما أنها تعيش معه وتجاذبه أطراف حياته وتشاركه في تصميمها؛ إذ يتألف الكلام الإنساني من سلسلة من الأصوات الصادرة طواعيةً واختياراً عن الإنسان في الموقف اللغوي المعين. والإشارة إلى الموقف اللغوي هنا تعني أن هُناك في الصورة شخصاً أو أشخاصاً آخرين يستقبلون هذه الأصوات التي تربطهم بالمتكلّمَ ربطاً اجتماعياً من شأنه أن يؤدّي إلى التعاون وتسيير دفة الأمور وتصريف شئون الحياة، أو التي تؤثر في هؤلاء السامعين تأثيراً يقتضي منهم سلوكاً معيناً أو ردّ فعل من نوع خاص. وتعني هذه الإشارة كذلك: أنَّ الأصوات يجب أنْ تكون مرتبة على نسق خاص، وأن تكون جارية على سنن المعهود لدى أهل البيئة المعينة. ومعنى ذلك بالضرورة أنّ اللغة لا يتحقق وجودها دون حضور متكلّم وسامع: موجودين معاً في مكان واحد وزمان واحد. أو بعبارة أخرى -كما صرّح بذلك (جاردنر)- الكلام لا يتحقق إلاّ بأربعة جوانب: المتكلمّ والسامع والكلمات والشيء المتحدّث عنه (2).
وهكذا يرى الباحث أن البحث في أسطرة حكاية ألف ليلة وليلة يكون في مراحل يجمله في النقاط التالية :
• البحث في العمل الفنّي لغويًا.
• الدلالة بالدلالة المكانية والزمانية المصاحبة للدلالة اللغوية.
• البحث في أشكال الصورة الفنية، وربطها بالحيز الزماني، المكاني واللغوي.
ويترتب على هذا أنّ المعنى لا ينفصل عن اللفظ إذا كنّا نتحدث عن معنى اللفظ بما هو عنصر من عنصري الصورة الجزئية الأولى، وهو ينفصل عنه إذا كنا نتحدَّث عن المعنى الذي يُكَوِّن الصورة الكلية الثانية. فإذا كانت الصورة الثانية هي ما وراء السطح، فعلى أي شيء إذن تدل في العمل اللغوي، كان طبيعيا أن يخيل إلينا أن الصورة الأولى في اللغة لا بُدَّ أن تكون في تنسيقها الصوتي فحسب، ذلك أن الدلالة المكانية (أو المفهومة) للألفاظ هي المعاني التي تدلّ عليها هذه الألفاظ (1). ومن الناحية الأدبية، ففي الأسطورة: صورة اجتماعية، وجانب قصصي لمجريات الأحداث، ووجه رمزي متعلق بالمستقبل. وهناك “عفوية” للتفكير لدى الأفراد في مجتمعاتها تكمن في اللاشعور أو العقل الباطني وليس في العقل الواعي. وعلى هذا الأساس فالتصورات اللاعقلانية أو غير الموضوعية التي تجري في ذهن جماعات الأسطورة تمثل حالة ذهنية كامنة في اللاشعور عندهم، وهذا يرجع إلى غموض المستقبل وكثافة صافية من الاحتمالات الخطرة المهددة لمختلف جوانب حياتهم القلقة (2).
وسيعتمد الباحث في تحليله للأسطورة على ما تقدم من تعريفات، ثم يدمج كونها ( فكرة، وقصة، وحكاية، ولها دلالة، ولها سرد مميز، وتحوي الخارق وما هو فوق الطبيعي، إضافة للتعريف الذي يربطها بالسرد، في أنها :
سرد تقليدي يتعلق في العادة بالاعتقاد الذي يعبر عن الوضع المثالي للأشياء ويبرره، ووفقا لـ (ليفى ستروس) فإن بنية الأسطورة يمكن أن يعبر عنها بمجموعة رباعية من المتشابهات تتعلق بزوج من الميتيمات المتباينة Mythemes ) ). بتركيبة تولد لنا دلالة الأسطورة حيث يتم فيها تبسيط نوع من التناقض غير القابل للنقض بتعليقه بآخر أكثر شيوعا (3). وفي إطار فكرة التواصل عرض (ليفي ستروس) نهجه في كتابه الشهير الابنة الأساسية للقرابة ( Les structures) (١٩٤٩) elementaires de la Parente والذي اكتشف فيه ” أن البنية الأساسية لكل نظم القرابة تقوم على أساس التبادل أيا كان الشكل الذي يتخذه ” أي سواء أكان عاما أم خاصا ملموسا أم رمزيا أم مباشرا أم غير مباشر.. فالعلاقات الاجتماعية في نظام أنثروبولوجيا جديدة لعالم متغير لا بد أن تفهم في إطار عملية التبادل والاتصال وأن يتم دراسة طبيعة العمليات العقلية لفكر الإنسان(4). وذاك الذي يعنيه الباحث في الجانب التطبيقي لفكرة أنثروبولوجية التواصل، وهو يجيب عن تساؤل :
هل كتبت قصص ألف ليلة وليلة لهدف تحقيق أنثروبولوجية التواصل بين الشعوب ؟
ويمكن دراسة أنثروبولوجية التواصل، من خلال تعريف العلاقة التواصلية (Phatic function ) التي تعني كونها :
إحدى وظائف التواصل التي يتم وفقا لها بناء وتوجيه أي فعل اتصالي أو قولي، وحين يوجه فعل التواصل نحو الصلة أو العلاقة ( بدلا من الوظائف الأخرى للتواصل ) فإنه يؤدي في الغالب وظيفة تواصلية، وبالذات في مقاطع السرد التي تركز على الصلة السيكولوجية بين السارد والمسرود له يمكن أن تؤدى وظيفة تواصلية (1) 0 ولذلك سيقف الباحث مع مفهوم أنثروبولوجية التواصل، من خلال مفاهيم السرد. ومعنى الحكاية.
-2-
تعد (أنثروبولوجية التواصل) التي يتبناها إيف وينكن (Yves Winkin )، واحدة من مفاهيم التواصل. وقد اهتم بها غير واحد من علماء النفس والإثنولوجيا بدلالة تعدد وجوه التعبير.. ولها نمطان، ولكل أنماطه، ومنها:
• الحركية Kinesique ، وأسسها الأنثروبولوجي الأمريكي راي بير دو يستل (Ray Birdwistl)، و تعني الحركية ” دراسة التواصل عبر حركات الجسد “.
• الجوارية Proxemique ، و أسسها الأنثروبولوجي الفرنسي إدوارد . ت . هال (E.T.Hall)، و تعني الجوارية ” تدبير الفرد لفضائه وللمسافات التي تفصل بين الشخوص ضمن سيرورة تواصلية “.
• الشكل الموسع لأنثروبولوجيا التواصل، ويتبناه (إيف وينكن) مثل ما يجري في ميادين العمل من اجتماع أو مقابلة أو في البيت. وذلك قصده فهم الكيفية التي يصوغ بها السياق و الثقافة أنماط التواصل.
أما التواصل اللغوي وهو الأهم و يقدم دور الكلمة التي تشكل البنية، وما عرف بلغة الالتماس والإنذار والتحذير وعلامات التحية وغيرها من البنى. إلا أن الكلمة ارتقت بالإنسان إلى دائرة ذهنية جديدة تكاثفت ضمنها قدراته التواصلية. فصار من الممكن حينئذ طرح الأسئلة وحكاية القصص وإيجاد عوالم متخيلة، بمعنى إقصاء الذات المتكلمة من التواصل المباشر والفوري. فاللغة أداة فريدة من نوعها تجعل المرء يعبر عن لامتناهية من الإرساليات المتنوعة. و يقول عالم الألسنيات أندريه مارتيني ((Andre Martinet، بأن اللغة فريدة بما تتأسس عليه من ( شكل مزدوج) أي بناؤها من وحدات ذات معنى تشكلها الكلمات، وتتكون هذه الوحدات نفسها من وحدات صوتية أصغر(2).
فهل يمكن أن نعد حكايات ( ألف ليلة و ليلة ) من الحكايات الأسطورية ؟ وهل يمكن أن نسميها بالحكاية؟ وما هي الحكاية؟
الحكاية هي عالم من الحكي الداخلي Intradiegetic)) يتعلق بالمادة المحكية أو المبنى الحكائي المقدم في سرد أولي داخلي بوساطة سارد من عالم الحكي الخارجي، فنرى راويا ينتمي إلى المادة المحكية، وينتمي في الوقت نفسه إلى المادة المحكية (intradiegetic) باعتباره يمثل شخصية في المادة المحكية التي يقدمها. وإن المنتمى إلى عالم الحكي الداخلي لا يعادل السارد المتجانس homdiegetic) ) ونحن نبحث عمن يقوم بوظيفة سارد من خارج مادة الحكى(heterodiegetic) ، ووظيفته هنا أنه لا يحكى حكايته الخاصة، ولكنه ينتمي إلى المادة المحكية وهو الذي يعبر عن شخصية السرد الإطاري الذي ليس من وظائفه في الحكي(1) .
يظن الباحث أن الحكاية الأسطورية الحديثة لها خصوصية في بنائها الفني، ورسم شخصياتها، والفكرة الأساسية التي تبلورها واستعمال العنصر الخارق في صياغتها.. وتقترب منها حكاية ( ألف ليلة و ليلة ) رغم أنها براوٍ واحد، ولكنه راوٍ فنان ذو موهبة وحرفي يتحكم في تكوين عمله، ويرجع ذلك إلى تأثره بالمناخ الثقافي والفكري الذي كان سائداً حين ألفت ( ألف ليلة و ليلة ) ! مما يجعل تكوين الحكاية الأسطورية في ألف ليلة و ليلة متأثرا بالحركات الفكرية في مجتمعها المتلقي. ويظن الباحث أن الأسطورة تخرج من إطارها الزماني أو المكاني لتكون صالحة أن تقال في مناسبات عدة، وهذا سر اهتمام النقاد بها، و أنها تصلح أن تقال في مناسبة تشبه تلك التي قيلت فيها. و نقف عند الدافع وراء نسجها.
وهل ثمة شبه بين الحكاية الأسطورية الحديثة وقصص ألف ليلة وليلة؟
لعل الدافع وراء الحكاية الأسطورية هو تقديم أحداث الحكاية، بسلسلة الأحداث المتتالية المختلفة التي تشكل بناءها، التي تقودها إلى نهايتها… وهي بذلك لا تقدم عالماً كاملاً مليئاً بالإيحاءات التي لا نهاية لها. ثم إنها تقدم مجالا من ( وجهة النظر) من خلال النظر إلى (وجهة نظر الراوي)، وربما يكون في هذا شيء من التضييق على وجهة نظر القارئ / الناقد. بل ربما يقف الراوي نفسه موقف المتفرج الذي يصف الأحداث، لكنه من النادر أن يعلق عليها – كما سيظهر في النص والتحليل القادمين- . ثم إن العنصر الخارق فيها يظهر الحدث الخارق الذي يدهش القارئ، لكنه يتركه مندهشاً دون أن يفهم أبعاده، فهما مباشرا.. لأن الحدث الخارق في مثل هذه الحكايات كثيراً ما يعجز عن الإيحاء بأبعاد غير قائمة في النص، أو دلالات خارجة عن إطار المفقود من النص؛ لأنه ربما قد تؤدي الدلالات في نص الحكاية الأسطورية غرضاً محدوداً في المكان الذي وضعت فيه(2).
وهذا ما يجعل بعض النقاد الغربيين يسمون الحكاية الأسطورية الحديثة modren fairy tale بـِ ( الخرافة ) fantasy ، كما يفعل مانلاف(1)، إذ يستعمل المصطلحين على قدم المساواة . ولأن ترجمة كلمة ( fantasy ) لا يوجد لها في اللغة العربية رديف.. فهناك من يسميها بالقصة العجائبية أو ( بحكاية الجان )، ومن هنا فقد فضلت منى مؤنس (2) أن تسمي قصص ألف ليلة وليلة بـالحكاية الأسطورية الحديثة .. و تقول إنه بالرغم من طول المصطلح فهو على الأقل يوضح المعنى المقصود، ثم إنه يوحي بأنه شكل متطور للحكاية الأسطورية التقليدية ( Traditional Fariy Tale )، التي بها يعرف السرد الإطار.
فما معناه ؟ وما علاقته بتحليل البنية الأسطورية لحكايات ألف ليلة وليلة؟
:(Frame narrative) ونقف الآن مع السرد الإطار
وهو سرد يطمر فيه سرد آخر، سرد يؤدى وظيفة إطار لسرد آخر وذلك بقيامه بوظيفة القاعدة أو الخلفية التي ينطلق منها، ويسمى أيضا (السرد المطمور)، ولعل أعظم مثل للسرد الإطار / المطمور في تراثنا هو قصص ألف ليلة وليلة. فالكثير من الحكايات تنطمر فيها حكايات أخرى (3).
ومن هنا فيريد الباحث عند دراسة نظام العلاقات القائمة في بينة الحكاية، التي يفترض دخول الأسطورة عليها، أن يقف على :
1- البنية التي تشكل النظام الأدبي للحكاية.
2- الخطاب الأدبي الذي تقدمه الحكاية.
3- أسلوب التواصل الأنثروبولوجي إلى كل ماله علاقة بالبنية الزمانية والمكانية والسردية، في تحصيل معنييّ اللغة والكلام، كما عند (دي دو سير) .
ولقد فرق ( دي سوسير ) بين اللغة و الكلام؛ فافترض أن اللغة هي القوانين والأنظمة العامة التي تحكم إنتاج الكلام، وأن اللغة منظومة اجتماعية لا شعورية كما عدها ذات شعور عيني يخضع للدراسة والتصنيف(4) . كما افترض ( دي سو سير) أن الكلام هو التطبيق الفعلي للقوانين والأنظمة التي تحكمها اللغة، وأنه اختيار فردي مقصود، وأنه مستوى مشخص يبدو عصياً على الدراسة إلا في ضوء اللغة نفسها (5).
وإن هذا الباحث يفترض علاقات ثنائية بين التزامن والتعاقب ويدرسها في لحظة الإجراء التحليلي كما يلي :
1- التزامن هو لحظة السكون الحيادي للذات أثناء الكتابة .
2- التعاقب هو لحظة تحويل الحركة إلى سكونات تغيب الذات أثناء الكتابة .
وهذا يعنى أن هذا البحث يهتم ببنية التزامن والتعاقب أي: بنية ( الذات وتغييب الذات ) فيما قد يبدو ظاهراً في الحكاية .
ولقد لعب النقد الفلسفي للبنيوية دوراً بالمعنى الذي أفادته لغة النموذج الإجرائي للبنية. فكان للفلسفة دورها في تعريف من يكتب نصاً أومن ينطق بخطابات النص، فافترضت الفلسفة النقدية للبنيوية ثلاث افتراضات جميعها ترتبط بالإنسان، وهو المقصود الأول بالتواصل الأنثروبولوجي، وهي :
1- أن الإنسان هو معيار كل شيء.
2- الإنسان موضوع دقيق.
3- الإنسان مجال مشترك يمكن أن يدرس.
فعلاقة الأنثروبولوجيا بالإنسان معروفة من تعريف علم الأنثروبولوجيا، وأنه مصطلح يعني باللغة اليونانية علم الإنسان، ويدرس نشأة الإنسان وتطوره وتميزه، كما أنه يقسم الجماعات الإنسانية إلى سلالات وفق أسس بيولوجية، ويدرس ثقافة الإنسان ونشاطه .
وللدخول في تعريف الأنثروبولوجيا، فإنّ لفظة أنثروبولوجيا ((Anthropology، هي كلمة معربة عن الإنكليزية ومشتقّة من الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : أنثروبوس(Anthropos) ، ومعناه ” الإنسان ” و لوجوس ((Locos، ومعناه ” علم “. وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ ” علم الإنسان ” أي العلم الذي يدرس الإنسان(1) .
ولذلك، تعرّف الأنثروبولوجيا، بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة معيّنة .. ويقوم بأعمال متعدّدة، ويسلك سلوكاً محدّداً (2) .
ف الأنثروبولوجيا بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة، ومنها الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة التي تشمل : التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني(3).
فهل يجوز للتحليل أن ينطلق من هذا النموذج اللغوي الذي تمثله الحكاية التي وصلتنا الآن للانطلاق إلى التحليل الذي يبحث في عمق الإطار السردي وليس سطحه ؟
ثم سيبحث التحليل في نمطين للصورة، هما :
1- الصورة الكلية وهي تلك البنية المقصودة لذاتها التي تكون مركزاً وهيئة معبرة وموحية في آن معًا.
2- الصورة الجزئية التي تنطلق تأويلاتها من الصورة الكلية.
ثم سيقف التحليل أسطوريا عند :
1- الدلالة المقصودة.
2- الأثر، وهو الدال الناتج عن مؤثرإبداعيّ.
ومفهوم الأثر هو الذي أسس له (دريدا) في التفكيكية ويعده أساسًا إجرائيًا للفهم النقدي باعتباره القيمة الجمالية التي تسعى وراءها النصوص الإبداعية. ويسعى إلى تلقفها كل متلقٍ للإبداع ذلك؛ لأن الأثر هو التشكل الناتج عن الكتابة بالفحص الاستبدالي(1).
إن الأثر الذي يريده الباحث في هذه الحكاية: هو ذاك الذي ترسله بنية الفعل نحو المتلقي؛ فالفعل له وظائف لغوية يؤديها من أجل بعث التواصل، من خلال كونه :
1- يحرك العبارة.
2- يؤسس الجملة.
3- يبعث الدلالة في التركيب.
والمقصود من ذلك هو البحث في الغاية والمغزى من بعث التواصل الأنثروبولوجي الذي هو ليس شيئا خارجاً عن مضمون بنية الحكاية، لكنه أثر فعلي لكل ما هو مؤثر علينا.
وبعد،
فيريد هذا التحليل أن يستفيد من نظرية التواصل الأنثروبولوجية، من جانبين :
الأول : من تحليل بنية التواصل الأنثروبولوجية؛ بالبحث عن تسلسل تلك البنية بين أركان الحكاية.
الثاني : من ربط تلك البنية مع الصورة الأسطورية؛ وذلك بالبحث عن مغزاها.
والبنية التي يريدها الباحث هي البنية الأدبية التي هي شكل من أشكال انفتاح عالم اللاشعور على الخارج، وترتبط بالرؤية الاجتماعية في تحليل الحكاية، كما ظهرت عند دعاة البنيوية التكوينية وفي مقدمتهم (جورج لوكاش)، و(لوسين جولدمان)، على أساس أن النقد الأدبي يتبلور في شكل منهجية سوسيولوجية وفلسفية لإضاءة البنيات الدالة(2). كما يؤكد الباحث على أنه لن يدرس السرد والزمان والمكان باعتبارهما أداة له، من وجهة نظر النقد القصصي الحديث، بل سيكون للسرد موقفه من تحرك البنية لخلق تواصل أنثروبولوجي كما هي النظرية المعمول بها.