محاولة عربية أولى لبلورة رؤية «أنثروبولوجية» للعالم القديم؟
صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة التي تعنى بنشر نفائس التراث العربي بالمستوى الذي يحقق رغبة القارئ المعاصر في التحقيق العلمي وحيوية المضمون المعرفي، هذا العمل التراثي الثمين الذي يعد إبداعاً غير مسبوق، فهو أول كتاب عن شخصيات وطبائع الأمم والشعوب، أو بالأحرى يمكن اعتباره ريادة متفردة في حقل «الأنثروبولوجيا الثقافية» بامتياز، فهو يربط بين الملكات الإبداعية عند البشر والآثار العلمية للأمم والشعوب واستعدادها الفطري، وما اكتسبته من تراث السابقين.
ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب باللغة العربية أواخر القرن التاسع عشر على يد الأب لويس شيخو اليسوعي اللبناني الشهير، وقد نشره وذيله بالحواشي وأردفه بالروايات والفهارس، فيما النسخة التي بين أيدينا قدم لها الدكتور محمود إسماعيل.
يعد كتاب «طبقات الأمم» أحد الكتب النادرة التي تعرض فيها كتبة العرب لوصف العلوم بين الأمم التي سبقت عهدهم، وإن لم يبلغ صاحبه في ذلك شأو كتاب الفهرس لأبي الفرج ابن النديم، إلا أنه جمع فوائد عدة تدل على نشاط في البحث وعلى رغبة في التحصيل، ودقة نظر في التدوين، وكان أهل الأندلس يفتخرون به ويروونه لأهل الشرق.
مؤلف الكتاب هو «صاعد بن أحمد بن عبد الرحمان بن محمد بن صاعد التغلبي» قاضي طليطلة، يكنى أبا قاسم وأصله من قرطبة، روى عن أبي محمد بن حزم والفتح بن قاسم وأبي الوليد الوقشي وغيرهم.
استقضاه المأمون يحيى بن ذي النون بطليطلة، وكان متحرياً في أموره، واختار القضاء باليمين مع الشاهد الواحد في الحقوق، وبالشهادة على الخط، وقضى بذلك أيام نظره وكان من أهل المعرفة والذكاء والرواية والدراية.
ولد في المرية في سنة 430هـ (1029م)، وتوفي في طليطلة وهو قاضيها في شوال سنة اثنين وستين وأربع مئة (1070م) وصلى عليه يحي بن سعيد بن الحديد.
إلى كم أمة يذهب «بن صاعد» في تصنيفه للجنس البشري؟ عنده أن الناس كانوا في سالف الدهور وقبل تشعب القبائل وافتراق اللغات سبع أمم:
الأمة الأولى: الفرس ومسكنها في الوسط المعمور وحدت بلادها من الجبال التي في شمال العراق المتصل بعقبة حلوان والأهواز جنوباً، وكانت مملكة واحدة ولسانها واحد فارسي إلا أنهم كانوا يتباينون في شيء يسير من اللغات.
الأمة الثانية: هي الكلدانيون وهم السريانيون والبابليون وكانوا شعوباً منهم الآشوريون والأرمانيون والجرامقة، وكان لسان تلك الأمة هو السريانية وهو اللسان القديم لسان آدم عليه السلام وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط عليهم السلام.
الأمة الثالثة: اليونانيون والروم والافرنجة والصلاجقة والرخان والصقالبة والروس والبرغر، وغيرهم من الأمم التي حوالى بحر ينطش وبحيرة فاينطش وغيرها من المواضع التي في الربع الغربي والشمالي من معمور الأرض كانت مملكتهم ولغتهم واحدة.
الأمة الرابعة: القبط وهم أهل مصر وأهل الجنوب وهم أصناف السودان من الحبشة والنوبة والزنج وغيرهم من أهل المغرب وهم البرابرة ومن اتصل بهم إلى بحر إقباس الغربي المحيط، لغتهم واحدة ومملكتهم واحدة.
الأمة الخامسة: أجناس الترك من الجريجية وكيماك والتغزغز والخزر والسرير وجيلان وخوززان وطيلسان وكشك وبرطاس، كانت لغتهم واحدة ومملكتهم واحدة.
الأمة السادسة: الهند والسند ومن اتصل بهم.
الأمة السابعة: الصين ومن اتصل بهم من سكان بلاد عامور بن يافث بن نوح السلام.
هذه الأمم السبع كانت محيطة بجميع البشر، وكانوا جميعاً صائبة يعبدون الأصنام تمثيلاً بالجواهر العلوية والأشخاص الفلكية من الكواكب السبعة وغيرها، ثم افترقت هذه الأمم السبع وتشعبت لغاتها وتباينت أديانها.
يحدثنا القاضي صاعد عن العرب وعلومهم، فيذهب إلى أن العرب منهم فرقتان، بائدة وباقية، فأما الفرقة البائدة فكانت أقمار ضخمة كعاد وثمود وطسم وجديس والعمالقة وجرهم، هؤلاء أبادهم الزمان وأفناهم الدهر بعد أن سلف لهم في الأرض ملك جليل وخبر مشهور لا ينكر لهم ذلك أحد من أهل العلم بالقرون الماضية والأجيال، ولتقادم انقراضهم ذهبت حقائق أخبارهم وانقطعت عنا أسباب العلم بآثارهم.
وأما الفرقة الباقية فهي متفرقة من جذعين قحطان وعدنان، ويضمهما جميعاً حالان، حال الجاهلية وحال الإسلام.
وأما بلاد العرب فهي معروفة بجزيرة العرب، وسميت بذلك لأن البحر محيط بها من جهاتها الثلاث التي هي المغرب والجنوب والمشرق ففي مغربها خليج جدة والجار والقلزم والخارج من البحر الكبير بحر الزنج والهند، وفي جنوبها بحر عدن وهو البحر الكبير، وفي شرقها خليج عمان والبحرين والبصرة وأرض فارس والخارج أيضاً من بحر الهند.
يلفت مقدم الكتاب الدكتور محمود إسماعيل في مقدمته القيمة الى أن صاعد الأندلسي كان معاصراً لطور الازدهار وباكورة طور الانحطاط في الدولة الإسلامية في الأندلس، وأن كتابه «طبقات الأمم» يقدم بامتياز شهادة على بلوغ الفكر الإسلامي أوج الإبداع في أواخر عصر الازدهار، كما كانت محنته شهادة أخرى على ولوج هذا الفكر باب الاضمحلال والانهيار.
كان صاعد أنجب تلاميذ ابن حزم الأندلسي الفقيه والشاعر والمؤرخ الأندلسي الشهير، وحسبه أنه جدد المذهب الظاهري الذي أصله داوود الأصفهاني، إذ إنه حوله «من البيان إلى البرهان»، فاستعاض عن القياس الصوري باستخدام العقل وبديهياته في استنباط الدليل على صحة الأحكام.
يعن لنا أن نتساءل، هل كتاب «طبقات الأمم» هو المحاولة الأولى عربياً لبلورة رؤية «أنثروبولوجية عربية» إن جاز التعبير؟
الشاهد أن ابن حزم سبقه في ذلك، فقد كان له كتاب شهير في هذا المضمار «جمهرة أنساب العرب»، الذي أفاد منه صاعد بطبيعة الحال، كما أفاد من سابقيه بالمثل، لكن مؤلفاتهم لم تتجاوز التعريف بالأصول العرقية ليس إلا، علماً بأن كتاباتهم اتسمت بالانحياز للعنصر العربي كرد فعل لظاهرة الشعوبية التي تفاقم خطرها خلال العصر العباسي، ناهيك بالتعصب الديني والمذهبي الذي يظهر في كتب الملل والنحل.
كيف لنا أن نلمس العقلانية والموضوعية التي تميز بها بن صاعد، وأي طريق نتلمس من أجل فهم لماذا كان العرب والمسلمون في تلك الأوقات في درجة من الازدهار الفكري لاسيما في الأندلس؟
الشاهد أنه وخلافاً للرؤية المتعصبة والمتحجرة السابقة، فقد سلك صاعد الأندلسي نهجاً جديداً، قوامه ومعياره درجة الإلهام في تطوير العلوم والمعارف، وفق رؤية هيومانية – إنسانية – وموضوعية في آن، وغالب الأمر أن الرجل تأثر بمقولة الفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي: «ينبغي الا نستحي الحق من أين يأتي، وان أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا في الملة».
تلك الحكمة التي أخذ بها ابن رشد فيما بعد حين قال: «إن كان غيرنا قد فحص عن ذلك – يقصد الحق – فتبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قال من تقدمنا في ذلك، سواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا، أم غير مشارك في الملة».
من هنا تأتي قيمة كتاب «طبقات الأمم» الذي ترجم عملياً تلك الرؤية الفلسفية المستنيرة، بلغة فلسفية مراقبة، إذ ربط صاعد الأندلسي بين الملكات الإبداعية عند البشر والآثار العلمية للأمم والشعوب، واستعدادها الفطري، وما اكتسبته من تراث السابقين.
لذلك صنفت الأمم صنفين، صنف بدائي وآخر متحضر، وهي الفكرة نفسها التي نسج عليها أرنولد توينبي منوال مشروعه «دراسة التاريخ».
لعل أعظم ما في كتاب «طبقات الأمم» هو ما أورده المؤلف في الباب الثاني والذي جاء تحت عنوان: «اختلاف الأمم وطبقاتها بالاشغال»، إذ نراه يقول: «وجدنا هذه الأمم على كثرة فرقها وتخالف مذاهبها طبقتين، فطبقة عنيت بالعلم فظهرت منها ضروب العلوم وصدرت عنها فنون المعارف، وطبقة لم تعن بالعلم عناية تستحق بها اسمه بعد من أمثلته، فلم ينقل عنها فائدة حكمة ولا رويت عنها نتيجة فكرة، أما الطبقة التي عنيت بالعلوم فثمانٍ: أمم الهند والفرس، الكلدانيون والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب.
وأما الطبقة التي لم تعن بالعلوم فبقية الأمم بعد من ذكرنا من الصين وياجوج وماجوج والترك وأصناف السودان من الحبشة والنوبة والزنج وعانة وغيرهم (هذا بالتأكيد قبل أن تتغير الأوضاع وتتبدل الطباع كما يقول الجبرتي).
يصف ابن صاعد الطبقة التي عنيت بالعلوم بأنهم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده ولأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة الصانعة لنوع الإنسان والمقومة لطبعه، وفي عرضه للأمم المتحضرة عرف بأصولها العرقية، ومواطنها وأخبارها وإنجازتها في مجال العلم والمعرفة، دونما أدنى تحيز أو جحود ولم يكتف صاعد الأندلسي برصد إنجازات الأمم ووصفها، فحسب، بل وقف على الأسباب والعلل الكامنة وراءها، مفيداً من معلوماته الجغرافية والفلكية في هذا الصدد.
ما الذي يفيدنا به كتاب «طبقات الأمم» في حاضر أيامنا المأزومة؟
قطعاً يفتح الباب واسعاً لمعرفة الذات والأهم تحديد موقعنا من الآخر، بهدف الانعتاق من إسار الأزمة الطاحنة التي تعتور عالمنا العربي المعاصر… الكتاب ضرب من ضروب التراث العربي الإسلامي الحافل بنماذج يمكننا تحيينها كبديل نافع لمواجهة أخطار التطرف الديني الذي ينهل من معين تراث عصور الانحطاط .