يتيم .. عالم الأنثروبولوجيا البحريني الأول
د.عبد الله المدني
يعتبر علم الأنثروبولوجيا ــ وهو علم يختص بالإنسان قديمه وحديثه ويناقش تطوره وتراثه وبيئته وفكره ومجتمعه وقيمه ومصالحه ــ من العلوم الحديثة نسبيًا، فقد كان ظهوره رسميا كعلم مستقل قبل نحو 120 عامًا تقريبًا. ومذاك راح يتداخل مع العلوم الإنسانية الأخرى كعلوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع والآثار تداخلًا متشعبًا، ويصنع تاريخه في مجالات البحث والدراسة، ويخلق أساتذته المتخصصون وسط ظروف ومتغيرات صعبة ناجمة عن سرعة إيقاع العصر وتأثر الشعوب والأمم والاقوام والمجتمعات بهذه المتغيرات الهائلة.
نقول هذا ونحن ندرك أن الاهتمام بدراسة المجتمعات البشرية بدأ منذ القدم حينما اهتم بها المؤرخ الإغريقي هيرودوتس والشاعر الروماني لوكريتوس وصولًا إلى المؤرخين العرب والمسلمين من أمثال المسعودي والبيروني وابن خلدون وغيرهم. لكن يمكن اعتبار القرن 18 ميلادي هو نقطة البدء غير الرسمية للأنثروبولوجيا بظهور آراء ونظريات مونتيسكيو وهيوم وجان جاك روسو، أما تطور العلم أكثر فأكثر بصورة أكاديمية فحدث حينما فرضت الثورة الثقافية والعلمية ضرورة إنشاء فرع معرفي جديد ينظر إلى الإنسان بطريقة شاملة ويبحث في أصوله ومفاهيمه وعلاقته بالحياة والمجتمع الذي يعيش فيه، خصوصًا مع ظهور شخصيات مثل العالم البريطاني إدوارد تايلور E.Tylor في أوائل سبعينات القرن 19، والذي رأى أن أساليب حياة الشعوب وتنوعها وتغيرها بحاجة للدراسة والبحث كونها ثقافة وحضارة. على أنه في منطقة الخليج لم يتم الاهتمام بهذا العلم ولم يظهر أساطينه إلا في فترة متأخرة نسبيًا من القرن العشرين.
لكن ما مناسبة هذا الحديث؟
لم يكن ما تقدمنا به إلا توطئة للحديث عن واحد من الاثروبولوجيين الخليجيين المتبحرين في هذا العلم وهو الصديق الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم الذي يتربع اليوم على عرش الأنثروبولوجيا في منطقة الخليج جنبًا إلى جنب مع زملائه سعد الصويان وثريا التركي في السعودية ويعقوب يوسف الكندري في الكويت، وآمنه عبدالله بوشهاب في الإمارات.
ولد يتيم في المحرق ابنًا أكبر لعائلة امتهنت الغوص كسائر عائلات مدينتي المحرق والحد. إذ بدأ والده حياته «سيبًا» (الشخص الذي يسحب الغيص من قاع البحر بواسطة الحبال) وكذا أعمامه الذين اشتغلوا على مراكب لصيد اللؤلؤ تابعة لعائلات مثل المّسلم واليوشع والسادة. كان ميلاده في سنة 1953، أما نشأته فكانت في فريجين من فرجان (أحياء) المحرق الشهيرة: أولهما فريج «البوخميس» وهو من أكبر وأشهر فرجان المحرق لما تحتويه من مبان قديمة شاهدة على الطراز المعماري الخليجي القديم. أما الفريج الثاني فهو فريج «بن خاطر» الذي شهد حدثًا تاريخيًا هامًا تمثل في استضافة مسجدها للإمام عبدالرحمن آل سعود وولده ذي السنوات العشر عبدالعزيز في عام 1891، قبل أن يتعرف عليهما الوجيه «محمد بن حسن الخاطر» ويستضيفهما في داره إلى صبيحة اليوم التالي التي قادهما فيها إلى حاكم البحرين وتوابعها آنذاك الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، حيث أكرم الأخير وفادتهما ووعد بتلبية طلب الإمام لجهة مساعدته بالمال والسلاح لاسترداد ملك أبيه وأجداده.
يتذكر يتيم في حوار أجرته معه مجلة رمضانيات (14/8/2010) أنه عاش في ظل والد عصامي منفتح على مختلف أطياف المجتمع البحريني، ومؤمن بالعلم كسلاح مستقبلي، وذي خصلة حميدة تمثلت في ترك الحرية أمام أولاده ليختاروا مسارهم في الحياة مع غرس بذرة الاعتماد على النفس فيهم. وقد تجلت الجزئية الأخيرة في دفع أبنائه للعمل صيفًا من أجل صقل شخصياتهم واكتساب المهارات العملية، أو تسجيلهم في مدارس صيفية خاصة من أجل تعلم مهارات تتطلبها سوق العمل مثل الطباعة على الآلة الكاتبة. ويضيف الدكتور يتيم هنا ما مفاده أن انفتاح والده على كل الناس وتكوين علاقات طيبة معهم بعيدا عن العنصرية والتمييز والانغلاق ساعده لاحقًا حينما اشتغل كعامل في شركة النفط، ثم حينما صار جنديًا برتبة عريف ضمن «فيلق البحرين العسكري» تحت قيادة المرحوم الشيخ خليفة بن محمد بن عيسى بن علي آل خليفة مدير الشرطة آنذاك. حيث كان يعمل في هذين القطاعين ضباط من الإنجليز والعراقيين وجنود وموظفون من جنسيات وأعراق متنوعة. بعد ذلك اتجه والده عبدالرحمن يتيم إلى التجارة التي ظل يمارسها إلى أن وافته المنية في بداية التسعينات من القرن العشرين.
وهكذا نشأ الرجل تنشأة حسنة وقويمة على يد والده، ثم درس وفقًا لنظام التعليم القديم الذي كان عماده الكتاتيب التقليدية، فتعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة في سنوات طفولته المبكرة على يد المطوع «أمين القاسمي» والمطوعة «لطيفة الغزالي»، وكان هذا في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات. بعدها انتقل للدراسة في المدارس النظامية الابتدائية والمتوسطة فتنقل ما بين المدرسة الشمالية والشرقية والجنوبية ومدرسة طارق بن زياد الاعدادية وصولًا إلى مدرسة الهداية الخليفية التي أنهى فيها دراسته الثانوية. وما بين هذا وذاك خرج يتيم مبكرًا للعمل في مدينة المنامة، وذلك من باب الاعتماد على الذات وكسب المعرفة والمهارات والاحتكاك بالناس، فعمل في النجارة والبناء والصباغة وغيرها من المهن جنبًا إلى جنب مع من كانوا يكبرونه سنًا فأفاد واستفاد على نحو ما كان يفعله الجيل الذهبي من أبناء البحرين والخليج. كما أنه، مدفوع بحب الفضول والاكتشاف، انضم إلى فرقة الكشافة بمدرسته الثانوية، فاتيحت له فرصة السفر مبكرًا في رحلات كشفية خارجية إلى السودان ومصر والعراق مع رفيق صباه آنذاك المرحوم الدكتور عبدالكريم مصطفي بوعلاي.
لقد ولـّدت تلك التجارب رغم صغرها وقصرها شعلة المغامرة والمبادرة في نفس صاحبنا لذا نراه يصمم فور الانتهاء من مرحلة الدراسة الثانوية على مواصلة تعليمه الجامعي في خارج البحرين، رغم قلة الحيلة والإمكانات المادية ورهبة مغادرة المجتمع الذي اعتاد العيش بين جدرانه وحواريه البسيطة.
وعليه تقدم للحصول على بعثة دراسية للالتحاق بجامعة بيروت الأمريكية وكاد أن يذهب إلى المدينة التي كانت وقتذاك ملء الاسماع والابصار، بل كانت تـُوصف بجنة الله على أرضه بهدف الدراسة في واحدة من أفضل جامعات لبنان والوطن العربي. غير أن ما منعه هو حرصه على ملازمة زملاء مدرسته الثانوية وعدم التفريط في صداقتهم. وحينما وجد أن «الربع» وفي مقدمتهم صديقه الحميم عبدالمنعم ابراهيم (مدير تحرير صحيفة أخبار الخليج البحرينية الحالي) متجهين للدراسة في جامعة الكويت وقضاء السنوات التالية من أعمارهم في جو ثقافي واجتماعي مشابه لأجواء البحرين، تشجع للتشبه بهم فكان التحاقه بجامعة الكويت على نفقة والده في عام 1972.
في الكويت، التي كانت آنذاك واحدة من أهم قلاع الفنون والأدب والثقافة بتونعاتها المختلفة في منطقة الخليج، التحق يتيم بكلية الآداب لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع، بسبب ميوله التي كانت أدبية أكثر منها علمية منذ المرحلة الثانوية. ناهيك أن كلية الآداب بجامعة الكويت كانت وقتذاك تزخر بثلة من كبار الأساتذة المصريين والعراقيين من رموز علمي الفلسفة والاجتماع ممن ترعرعوا وتعلموا واكتسبوا خبراتهم في ظل النظامين الملكيين المصري والعراقي.
وفي الكويت انكب صاحبنا على تحقيق الهدف الذي جاء من أجله وهو التحصيل العلمي، لكنه في الوقت نفسه كان طالبًا ناشطًا وقياديًا في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة البحرين ــ فرع الكويت، حيث تعد فترة السبعينيات سنوات العصر الذهبي لسيادة الأفكار والتيارات اليسارية والقومية في جامعة الكويت، والتي كاد يتيم أن يتأثر بها لولا غلبة لغة العقل والمنطق السليم على خياراته.
بعد تخرجه من جامعة الكويت في عام 1976، توجه يتيم إلى دولة الإمارات للعمل هناك، وقد أمضى فيها حوالي عقد من الزمان عمل خلالها باحثًا أول ومحاضرًا في دائرة الصحة والخدمات الطبية بحكومة دبي، عاد بعدها إلى البحرين في عام 1984، ليعمل مساعدًا للدكتورة هالة أحمد العمران التي كانت تشغل وقتئذ منصب مدير شؤون الطلاب بكلية الخليج للتكنولوجيا. وقتها كانت جامعة بيروت الأمريكية تتولى الإشراف على مشروع التطوير الأكاديمي لهذه الكلية التي صارت لاحقًا جزءًا من جامعة البحرين.
في عام 1986 ابتعثت جامعة البحرين عبدالله يتيم لإكمال تعليمه العالي. غير أن وجهته كانت هذه المرة خارج حدود منطقة الخليج والبلاد العربية، إذ سافر إلى بريطانيا للدراسة في جامعة أدنبره. وكان هذا في حد ذاته منعطفًا مفصليًا في حياته لأنه من جهة ساهم في تنويع ثقافته وتعريفه بما هو سائد خارج حدود الخليج من مظاهر ثقافية واجتماعية وفنية راقية، ومن جهة أخرى ساهم في ريادته العلمية كونه اختار التخصص في حقل معرفي إنساني لم يكن وقتذاك موضع اهتمام كبير من قبل أقرانه وهو تخصص الإنثروبولوجيا. فكان أنْ دخل بهذا الاختيار تاريخ البحرين كأول مواطن يتخصص في الانثروبولوجيا وينال فيه أعلى الدرجات العلمية، معطوفة على أعمال ودراسات ميدانية.
أنهى يتيم تحصيله الجامعي العالي، وتخرج من جامعة أدنبرة الأسكتلندية في عام 1991، حاملًا شهادة دكتوراه الفلسفة في الإنثروبولوجيا، وأيضا زمالة الكلية الملكية البريطانية للأنثروبولوجيا (نال فيما بعد زمالة الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط وعضوية كل من الجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا والجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيا الاجتماعية والجمعية الأمريكية لدراسات الشرق الأوسط).
وأثناء دراسته في بريطانيا، وكجزء من أبحاثه الميدانية لنيل درجة الدكتوراه، أمضى يتيم عامين ما بين 1987 ــ 1988 بين بدو جبال الحجر أو من يسمون بـ «أهل الحيـَر» في الإمارات العربية المتحدة. وجبال الحجر ــ لمن لم يسمع بها ــ سلسلة من الجبال الممتدة من سلطة عمان إلى الأجزاء الشمالية من دولة الإمارات. وفي الإمارات تمتد في رأس الخيمة والشارقة والفجيرة بطول 80 كيلومترا وعرض 32 كيلومترا وتتخللها الوديان والأخاديد الزراعية. وقد اعترف يتيم في حوار مع «مجلة البحرين الثقافية» أن عمله في الإمارات في عقدي السبعينات والثمانينات ساعدته في أبحاثه الميدانية اللاحقة وأكسبته خبرة في شؤون هذه المنطقة التي تفتقر إلى مراجع تاريخية إنثروبولوجية محكمة
عاد يتيم إلى وطنه ليعمل بجامعة البحرين أستاذًا مساعدًا للإنثروبولوجيا ما بين عامي 1991 و 1996. وقد تخلل هذه الفترة، وتحديدًا في عام 1996 صدور قرار بتعيينه عميدًا لشؤون الطلبة بجامعة البحرين وعضوًا في مجلس الجامعة. وفي مارس 1996، صدر مرسوم أميري بتعيينه وكيلًا مساعدًا بوزارة الإعلام لشؤون الثقافة والتراث الوطني، فتولى بتلك الصفة الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والآداب، ورئاسة تحرير «مجلة البحرين الثقافية». وظل يمارس هذه الوظائف، في ظل وزير إعلام مثقف هو الأستاذ محمد إبراهيم المطوع، مذاك وحتى مايو سنة 2002 وهو التاريخ الذي صدر فيه مرسوم ملكي آخر قضى بتعيينه وكيلًا مساعدًا بوزارة الإعلام لشؤون المطبوعات والنشر. وتشاء الصدف هنا أن يكون عمله تحت قيادة زميل وصديق آخر له هو وزير الإعلام الأسبق الأستاذ نبيل بن يعقوب الحمر.
كانت تلك الفترة هي فترة الإصلاحات الدستورية والسياسية التي أعقبت موافقة الغالبية الساحقة من البحرينيين على ميثاق العمل الوطني، فكان من الضروري أن يواكب تلك الإصلاحات أسلوب جديد في عمل قطاع المطبوعات والنشر، وكان الدكتور يتيم أهلًا لذلك بما راكمه من علم وخبرة واطلاع واحتكاك. فنراه على سبيل المثال يساهم في إعداد قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، وقانون حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، وقانون الإعلام المرئي والمسموع، ونراه من جهة أخرى يُحدث تغييرات هامة جدًا داخل أروقة إدارة المطبوعات والنشر بإلغاء الكثير من الإجراءات البروقراطية، فقد عمد إلى ترك باب مكتبه مفتوحًا لاستقبال كل ذي شكوى، وسن سنة حميدة لجهة احترام المبدعين والمؤلفين والتخفيف عليهم فيما يخص الحصول على إجازات الطباعة والنشر، وقد واصلت تلك الأدارة من بعده هذه السياسية الحميدة. وخلال تلك الفترة، أي في عام 2002، منحه جلاله الملك المفدى وسام الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، تقديرًا لسنوات خدمته بالوزارة.
بعد تلك السنوات من العمل الحكومي، ترك يتيم وزارة الإعلام في عام 2010، عائدًا إلى قواعده الأكاديمية بجامعة البحرين محاضرًا في تاريخ البحرين وباحثًا أكاديميًا في «مركز دراسات البحرين» التابع للجامعة، حيث كان لي شرف مشاركته في العديد من أعمال المركز، وأيضا محاضرًا في علم الأنثروبولوجيا، الذي كان هو من وضع مناهجه وقواعد تدريسه في الجامعة وسط ظروف صعبة ناجمة من تشكيك البعض في هذا العلم ووصفه بأنه معبر للخطابات الاستعمارية والتبشيرية الغربية.
للدكتور يتيم العديد من المؤلفات مثل: «البحرين، المجتمع والثقافة: دراسات أنثروبولوجية»، «الخليج العربي، الثقافة والمجتمع: دراسات أنثروبولوجية»، «كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الأنثروبولوجي المعاصر»، «المنامة المدينة العربية: دراسة نقدية أنثروبولوجية»، «بدو جبال الحجر الإماراتيون: دراسة أنثروبولوجية تاريخية»، وكتاب «دفاتر أنثروبولوجية: سير وحوارات».
وصفه الكاتب والناقد البحريني الراحل محمد البنكي في حوار نشره في «مجلة البحرين الثقافية» (العدد الخامس 1995) بـ «آفة الكتب»، وأضاف أنه «أستاذ الأنثروبولوجيا المساعد الذي يذكرك ــ كلما نسيت ــ بأن زمان الموسوعية لم ينقض عهده بعد، وأن بين أبناء هذا البلد من لا يأخذ العلوم إلا بحقها، جدية ومثابرة وتتبع وإنهماك، لا يأبه للأضواء الإعلامية أو يحفل بفرض الحضور».
ولا يفوتنا أخيرًا التذكير ببصمات الرجل، خلال عمله في قطاع الفنون والثقافة بوزارة الإعلام، لجهة المساهمة في تأسيس فرقة البحرين الموسيقية التي تفتخر البحرين بها وبعازفيها اليوم.
* نقلا عن “الأيام“