وظائف الزاوية المغربية -الجزء2

 

2. 3. الاحتواء المخزني لأداء الزاوية
هناك نقطة مشتركة جمعت بين سلطة المخزن وسلطة الصوفية، وهي نفسها التي فرقت بين رؤاهما : فالسلطان وباعتباره شريف النسب، ظل مرجع الاحتكام وفوق كل اعتبار سلالي، فهو نظريا فوق الجميع. في حين ظلت قمة سند الصوفية بدورها متصلة ومتواترة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث انتساب الكثير من الصوفية إلى آل البيت وتطويع طرقهم لأن تكون استمرارا للنهج النبوي.
وهنا بالضبط سوف تتقاطع النوايا حول النقطة الجوهرية في هذا التماثل، وهي المشروعية المتنازع عليها بين بعض السلاطين وبعض المرابطين حول السلطة. وهو نزاع غالبا ما حسم إما بإرادة السلطان العسكرية أو بتسليم المرابطين بالرضى والقبول المبني على حق الخليفة على رعاياه. جاء في رسالة من السلطان المولى إسماعيل إلى ولده مولاي أحمد الذهبي “عامله على تادلا بعيد وفاة المرابط سيدي سعيد أحنصال يخبره بأن أولاد هذا الصالح قدموا إلى حضرة السلطان : (…) وقد عرفناهم بحق الخلافة وما يجب عليهم من محبتها، فإنها هي ربحهم ولا ربح من المرابطين إلا من كان يحب الخلافة التي هي ظل الله بأرضه”.
إن هذا الترغيب الواضح في حب الخلافة ما هو إلا مظهر لرقابة المخزن على الزاوية وجنوح نحو نزع أي صفة رمزية قد تتمثلها خارج دائرة سلطته، وهو ما كان يعني وضع “خطوط حمراء” في ممارسات الصوفية. والأكيد أن هذا التنافس بين الطرفين ظل حاصلا وإن في نطاق خفي، لأن إعلانه لم يكن إلا المبرر الشرعي لضرب الطرف الأضعف في المواجهة، والذي ظل-بالطبع- هو الزاوية على الدوام.
يقودنا هذا الاستنتاج إلى المنظور المخزني العام الذي تحكم في علاقة الزاوية بالجهاز السياسي والقائم على التنازل لها عن الحق في تسيير شؤونها وفي الوقت نفسه التحكم في الأدوار المفترضة في أدائها وحدود حركتها.
ولتبيان هذا المنظور المؤسس نستدل للإيضاح بواقعتين لهما أكثر من دلالة، تتعلق الأولى بطلب شيخ الزاوية الوزانية (عبد السلام الوزاني سنة 1884) للحماية الفرنسية، والثانية بطلب مماثل من شيخ الزاوية المصلوحية (محمد بن سعيد المصلوحي سنة 1893) للحصول على الحماية الإنجليزية.
إذا كانت الواقعتان المذكورتان تنطويان على موقفين مختلفين، فإن ما يهمنا هنا بالذات هو الموقف المخزني منها. فقد قدم كل شيخ زاوية ما يثبت “شرعية” طلبه للحصول على الحماية الأجنبية من وثائق خاصة وظهائر توقير واحترام وظهائر الإقطاع والإنعام ورسوم التمليك…وكان الشاهد على حجية هذه الوثائق هو قنصل الدولة الحامية. كما لوحظ أن التبرير المقدم من طرف كل شيخ كان واحدا وواضحا “لقد أراد المخزن أن يسلبنا حقوقنا وحقوق زاويتنا المكتسبة بالشرع”.
شكل هذا التبرير محاولة ذكية لانتزاع حق الحماية ضدا على إرادة المخزن، الذي عارض موقف الشيخين بالحجة الدامغة وبأسباب كثيرة. أولها وأهمها، أن شيخ الزاوية ما هو إلا “أحد أعيان الجند (…) ولا فرق بينه وبين من هو منخرط في سلك المخزنية” وبالتالي لم ينظر لأدائه، سواء بالتكليف أو التفويض أو التحكيم، إلا بإرادة صريحة من المخزن “فكان (شيخ الزاوية المصلوحية) من جملة من كلفناهم من المرابطين والأعيان لندبهم (الرحامنة) لسلوك مسلك الصلاح”. بل بين المخزن بكل وضوح دواعي رفض الحماية لشيخ الزاوية : “أما دعوى الحماية، فقد أجاب عنها سيدنا أيده الله بأنه لا يخفى أن الشروط حاكمة بأن جميع من كان متلبسا بالخدمة المخزنية بأنواعها كائنا من كان لا يسوغ حمايته سواء كان عاملا أو أمينا أو شيخا أو مقدم زاوية. وهذا المصلوحي كان مقدما على الزاوية بالأمر الشريف حسبما هو مقرر معلوم، فهو أحد الولات يعمه ما يعم سائرهم وقد تعلقت به حقوق للرعية وللمخزن، فلا يسوغ تسليم حمايته”.
بنزعه لكل صفة شرعية عن دور شيخ الزاوية يكون المخزن قد حدد منظوره الخاص لوظيفة شيخ الزاوية، والذي لا يعدو أن يكون مجرد خادم من خدام الحضرة السلطانية ومنخرط في سلك مخزنها. والزاوية بهذه الصفة لن تعدو أن تكون مجرد أداة مخزنية غير مستثناة من أداء سائر دواليب الدولة، مع ما ينطوي عليه هذا المنظور من ضرب صريح لاستقلاليتها المفترضة أو لجنوحها المحتمل نحو تمثل سلوك سياسي منفرد.
ولعل ما يدعم هذا المنظور الاحتوائي للمخزن هو ما استجمعته الزاوية من ثروات كانت في أغلبها مستخلصة من أدوارها السياسية والدينية، وهي في الغالب الأعم من تنازلات المخزن تحديدا. فلم يكن بمقدور زاوية وزان أو زاوية تامصلوحت مراكمة ما وصلت إليه ثروتهما العقارية إلا بفضل عطاءات المخزن العديدة والمختلفة المصادر.
من الواضح أن المخزن كان على وعي تام بهذه المقايضة المربحة للطرفين، كما أنه كان حريصا على جعلها مسترسلة ودائمة من خلال إكساب الزاوية المزيد من الامتيازات والحقوق المكتسبة بموازاة مع استمرار ولاء الزاوية وأدائها الناجح للأدوار المحددة، سواء كانت مؤقتة (انتداب للصلح) أو مهام ذات صفة مخزنية كتعيين شيخ الزاوية في مهام رسمية، كما حصل مع شيخ الزاوية الوزانية علي بن الطيب، حين ولاه المولى سليمان نائبا عنه بمنطقة الشمال وحدد له مهامه بوضوح “نحب من سيدي علي-بحق مولانا عبد الله الشريف- أن يكون حاجزا بيني وبينهم في جميع أمورهم (…) فمن فعل منهم شيئا منكرا فلتؤد به بما ظهر لك من السجن أو غيره، وها نحن وصيفنا سعيد بن العياشي أن يكون عند أمرك (…) انظر رجلا خيرا دينا عالما (…) فأوليه القضاء هناك وأقلده النظر في قضاء النواحي الدائرة به (…) وصيفنا سعيد بن العياشي يكون عند أمركم ونهيكم ولا يتعداه ولا يخالفه وأمرناه بذلك (…) وكذلك جميع عمال الغرب نريد منك أن تنظر فيهم”.
قد يبرر ظهير المولى سليمان هذا في ضوء سياسته الدينية الخاصة، لكنه مع ذلك حمل لنا الخلاصة الصريحة لمنظور المخزن في التعامل مع شيوخ الزوايا.
بيد أن هذا التوازن المحكوم بإرادة المخزن قد يختل بفعل مؤثرات خارجية (الحماية الأجنبية) أو بفعل نزوع الزاوية إلى التخلف عن أداء الأدوار المحددة لها أو انخراطها في حركة تمرد قبلي، كما حصل لزاوية تامصلوحت حين اتهم شيخها من طرف المولى عبد العزيز بأنه “من جملة المغرين لهم (الرحامنة) على الفساد، ممدا لهم الخيل والكرع والزاد حتى آل الأمر إلى التجاهر بشق العصا والدخول في ربقة من بغى وعصا”.
لعل من أهم الوسائل التي ظلت تحفظ وتقيد التوازن بين سلطة المخزن والزاوية الظهائر المخزنية الممنوحة لشيوخها، فبمجرد قراءة مضامينها نتبين أنها كانت عبارة عن مواثيق حقيقية بين المخزن والزاوية.
فالظهير، وإن كان يبدو وكأنه حماية معنوية للزاوية ولشيخها، فهو اعتراف سياسي له مدلولاته التي تخفي صورا مختلفة الوجوه، منها على وجه التحديد الصفة الإلزامية لتجديده كلما اعتلى سدة الحكم سلطان جديد، وهو مطلب الزاوية على الدوام لحفظ مصالحها وامتيازاتها وربما سعيها لاكتساب المزيد منها. وبالمقابل يكون الظهير المجدد ردا إيجابيا من المخزن لاعتراف الزاوية بشرعية السلطان الجديد، وبالتالي يتحول الظهير إلى ما يشبه الميثاق السياسي الذي يحفظ للمخزن ولاء الزاوية في مقابل تعزيز مكانتها داخل مناطق نفوذها الروحية والقبلية.
وبما أننا أصبحنا نتحدث عن ميثاق ضمني، فإن الأدوار المفترضة للزاوية لا تتم إلا عبر ما أسماه البعض بـ”التوكيل المخزني” وإن لم يكن هذا التوكيل صريحا على الدوام، وهو ما يحد من استقلالية الزاوية ويظهرها وكأنها لا تتحرك بمحض أرادتها أو وفق مكانتها النافذة داخل مجالها الروحي والقبلي، بل “إن اعتراف المخزن بتلك الوكالة هو في الواقع تزكية لسمعة الزاوية داخل مجال نفوذها”.
لقد بينت دراسة العديد من الوثائق والمراسلات المتبادلة بين المخزن وبعض الزوايا الكبرى، أن هذه الأخيرة ومهما كبر حجمها وتوسع نطاق نفوذها، تبقى رهينة الخيارات المخزنية ومقيدة بحاجتها الدائمة لدعم السلطة للحفاظ على مكاسبها المادية والروحية، وأحيانا لحمايتها من تهديدات القبائل أو تحرشات أعوان السلطة. وهو الوضع الذي يضعف الرأي القائل باستقلالية الزاوية، رغم ما قد يتوفر لبعضها من إمكانيات مادية ودعم المؤيدين من أتباعها والمنتسبين إليها.
من الخيارات المخزنية لاحتواء الزوايا تلك المتعلقة بمحاولات الزج بها في مختلف المعارك السياسية، إما بغاية إضعاف مرتكزاتها المادية أو بهدف توريطها في معمعان السياسة المكشوف والمنطوي على الكثير من المغامرات المحفوفة بالمخاطر، كالعمل على انتدابها للتوسط في منازعات المخزن من القبائل المتمردة. وبفشل مهمة الانتداب تحمل الزاوية مسؤولية ذلك، بالإدعاء بأنها كانت متآمرة ضد المخزن مع الطرف الثائر.
في الواقع، إن مثل هذا الادعاء ما هو إلا مؤشر على نية المخزن تلبيس الزاوية كامل المسؤولية فيما حدث وخطوة ذكية للتضييق بها في أفق إعلان خروجها عن صف السلطة ودخول ربقة الفساد والبغي، إضافة إلى اتهامها بالخروج عن الجماعة…وقد أفلح المخزن بهذا الأسلوب وفي الكثير من المناسبات، من الإيقاع بالعديد من شيوخ الزوايا بفضل امتلاكه لآلية السياسية الدينية وتحكمه في دواليب الأجهزة المتحكمة فيها من علماء وفقهاء. وهذا الأسلوب تقليدي في الممارسة المخزنية برز بوضوح، منذ العهد السعدي الأول، وتبلور بصورة جلية في العهد الإسماعيلي.
فقد أدرك المولى إسماعيل قوة مؤسسة الزاوية، فانتهج أسلوبا متطورا لإدماجها ضمن استراتيجية الاحتواء والتدجين، وهو الأسلوب الذي مكنه من “التحكم في القاعدة المادية للزاوية، دون أن يمس بشرعية تواجدها الفعلي”، لأن بقاء الزاوية ممتلكة لكافة مقوماتها البشرية والاقتصادية كان يخدم المخزن، باعتبارها إحدى الضرورات السياسية لتوازنه العام. وقد أثمرت هذه الاستراتيجية في جر زوايا كبرى وقوية إلى صف الدولة وتهميش أخرى، ضمن نفس النسق العام القائم على الحرص المخزني في تثبيت سلطته سواء كانت تلك الزوايا حليفة أو “متمردة” أو حتى وإن كانت فاشلة فيما أوكل إليها من أدوار.
كشفت السياسة الدينية للمولى إسماعيل عن حضور فعلي للمخزن وعن امتلاكه للمبادرة في التحكم في آلياتها، وكلما كان حضوره قويا كلما كان ضبطه لحال الزوايا موفقا، خصوصا في التعامل مع الزوايا الكبرى التي كانت تمتلك القوة والنفوذ وتسيطر على المواقع الحساسة. وهو ما مكنه من استثمار كل هذه الخصائص في أدوار سياسية بالغة الخطورة، بل مكنه استثماره الموفق لهذه السياسة من تحويل الكثير من الشيوخ إلى مستشارين مقربين ووسطاء لنقل السلطة، أو لنقل موظفين مخزنيين من الطراز العالي.
بالرغم من هذه الوضعية المثالية، فإن المخزن لم يكن لينظر إلى استشاراتهم أو انتدابهم أو تحكيمهم، إلا من منظور التبعية له وليس من باب مد يد المساعدة من طرف زعماء مستقلين، مما يضرب في الصميم -وفق المنظور المخزني- مسألة السيادة المفترضة للزوايا، حتى وإن ظهرت على بعض الزوايا معالم سيادة مفترضة، فإن ذلك لا يتم إلا عبر إيحاء مخزني مباشر أو إيعاز مبطن منه.
لذلك حرص السلاطين، وعلى الدوام، على تزكية زعامة الزوايا مهما كبر حجمها أو صغر، عبر ظهير التعيين والتولية والحسم فيما ينشأ من خلافات بين أبناء الزاوية، وبالفصل لصالح من يكون أكثر حظوة ومصلحة للمخزن. بل دأب المخزن على التدخل في خلافات الميراث وتقسيم أصول الزاويا.
إن كل هذه المعطيات تدعو فعلا إلى إعادة توطين مؤسسة الزاوية داخل النسيج المجتعي المغربي، وكلام مثل القول بأنها “دولة في دولة” أو “تمثل حقيقي للنظام القبلي” أو “كيانات سياسية تمارس العرف في غياب سلطة الشرع”، أو القول بأنها “صورة لنظام السيبة”… هي مجرد تأويلات تحتاج إلى مزيد فحص وتدقيق في مجمل ما يرتبط بهذه المؤسسة من تاريخ خاص بها ووثائق رسمية وعرفية. وبطبيعة الحال كل ذلك ضمن تحليل بعيد عن النظرة النمطية والتحليل الأحادي الجانب.
لقد أخطأ الداعون إلى النظرية الانقسامية حين بلوروا نظرية جزئية عن القداسة في الجنوب الشرقي المغربي وجعلوها مقياسا لتحليل هذه الظاهرة في شموليتها وعلى صعيد المغرب بأكمله دون تحديد زمني دقيق أو عبر تراكم تجارب مختلفة، وهو-في تقديرنا- الفيصل بين التحليل الانتروبولوجي ونظيره التاريخي.
لهذا فالنظر إلى مؤسسة الزاوية بعيدا عن السياقات التاريخية المحيطة بها، يجعلنا نقيم دراسة تاريخها تقييما سطحيا وبدون أرضية واقعية. ودراسة التاريخ الخاص بكل زاوية هو الكفيل بتمكيننا من معرفة الجوانب الحقيقية بها.
فبالرغم من أن مؤسسة الزاوية تبدو في الظاهر مجرد فضاء روحي يغلب على أدائه الطابع الديني، إلا أنها، وفي خضم تطور تاريخي تفاعلي، تحولت إلى آلية مستحكمة وضابطة للتوازن الاجتماعي والسياسي، سواء بمحض إرادتها وتطلعها أو بتركيب مخزني محكم ومنظم لوظائفها الأصلية.
لقد كشفت المحصلة التاريخية أن جل الزوايا الكبرى أضحت مزيجا عجيبا يكتنز تراثا صوفيا وأداء سياسيا واجتماعيا بل أحيانا اقتصاديا، كما جاء تمثلها وتمثيلها للسلطة في صورة عملة من وجهين مختلفين. ولعل هذا بالتأكيد ما كان يرمي إليه المخزن في نهاية المطاف.
هذه النتيجة أملتها-كما أشرنا سلفا- الشروط الذاتية للزاوية وأدوارها والمهام التي أوكلت إليها، وهي التي أفرزت ضرورات مادية واضحة جعلت الزاوية في حاجة دائمة إليها. كما أن الرغبة في الحفاظ عليها وتنميتها أجبرها على البحث عن سبل أوصلتها إلى امتحان السلطة السياسية والتداخل معها، باعتبارها (السلطة) كانت الضامن الفعلي لتمتعها بمختلف الامتيازات والمصالح التي توفرها لها.
لقد أثبتت التجربة أن توازي المصالح بين المؤسسة المخزنية والزاوية لم يكن ليقود على الدوام إلى نفس الغايات، فغاية المخزن مؤسسة على قواعد السياسة وضوابطها المحكمة، بينما ظلت غاية الزاوية قائمة على مصالحها المادية ونفوذها الروحي. ومتى اختلت هذه المعادلة أصبحت الزاوية خارج الدائرة التي رسمها لها المخزن، مما يعرض الزاوية لفقدان مصالحها المكتسبة أصلا من نتاج أدوارها المختلفة .
وهنا تبدو بوضوح أهمية الرعاية السياسية كضرورة حيوية بالنسبة للزاوية، لذلك وجدنا أن بعض الزوايا الكبرى بادرت بعد فشلها في أدائها المفترض، إلى البحث عن تعويض لسلطة المخزن وذلك بالارتماء في أحضان الأجانب، مع ما انطوت عليه خطوتها هذه من تمرير محكم لمخططات المستعمر. فانقلبت أدوارها من فاعل في الدولة إلى معول لتقويض سلطتها، مع العلم أن هذه السلطة هي نفسها التي كانت صاحبة الفضل فيما وصلت إليه تلك الزوايا من جاه و نفوذ ومناعة، وهي نفس الشروط والمعايير التي استند إليها الأجانب في تحديد واختيار القوى الأساسية الداخلية المزمع توظيفها في مخططاتهم.
لقد نجحت هذه الاستراتيجية في توظيف بعض الزوايا التي قدمت خدمات من أجل تمرير طلائع الاستعمار والتجسس على المخزن، لتقويض كيانه من الداخل، فبدا وكأن المخزن قدم “صنيعه على طابق من فضة” لمن كان يمهد لتقويض أركانه.
خلاصة
تبين من خلال دراسة تجارب بعض الزوايا المغربية، أن هذه الأخيرة مهما بلغت من القوة والنفوذ، لا يمكنها أن تمثل سلطة فعلية دون إرادة السلطة السياسية، مخزنية كانت أو استعمارية. كما أن إدراك المخزن لأداء الزاوية جعله يستثمر نفوذها داخل القبائل لتثبيت سلطته وخلق توازن سياسي داخلي، وبالتالي أضحت الوظيفة السياسية للزاوية هي الآلية الوظيفية التي نجحت فيها وفاقت بها كل الوظائف الأصلية (تعليم/ تصوف)، بل أضحت المبادئ الرمزية المؤسسة للعديد من الزاويا مجرد ذكرى تحفظها ذاكرة المحبين وأبناء الشيخ المفترضين. ولعل من غرائب الصدف أننا صادفنا أن العديد من الزوايا لم تعد تحتفظ لنفسها من تراثها الصوفي غير ذكري كرامات ومناقب الشيوخ المؤسسين، حتى أن الكثير منها خسر حتى روحانية القداسة التي انبنت عليها مؤسساتها، فتحول الشيوخ المتأخرون من رجالات الله والزهد والتصوف إلى ما يشبه “رجال أعمال”، يكدون في تسيير إقطاعاتهم وينظرون في أمور عزبانهم ويتصارعون من أجل الحفاظ عليها وإثبات أحقيتهم في امتلاك الامتيازات والحقوق ونوبات السقي، بل وجدنا منهم من أنشأ مشاريع زراعية عصرية بالاشتراك مع أجانب.
هامش حول راهنية النقاش في قضية السياسي و المقدس في تاريخ المغرب الحديث
اشتغل الكثير من الباحثين المغاربة في الآونة الأخيرة على قضية التلازم العضوي بين المكون السياسي والديني في بناء الدولة المغربية، فكثر الحديث عن هذه العلاقة في سياقات مختلفة، منها ما هو تاريخي صرف ومنها ما هو سياسي عام، لدرجة أصبحت معها هذه القضية قضية الساعة وزمن السياسي. تكاثرت الدراسات والتحليلات فتباينت التأويلات باختلاف نوازع أصحابها ومقاصدهم المبطنة حينا والمكشوفة حينا آخر .
لم يعد النقاش مجال بحث أكاديمي وعلمي بقدر ما تحول إلى حلبة للجدال بين مقلد أصيلومجدد حداثي. تكلم المؤرخ كالسياسي عن الزاوية، البعض جعلها منظورة في صورة الحزب والبعض الآخر اكتفى بوصفها كيانا دينيا لا يجب أن يحمل أكثر مما أفرزته التجارب التاريخية.
نقاشات ونقاشات مضادة، والهدف واحد : ماذا تمثل الزاوية في حقيقة التاريخ وفي راهنية المرحلة الحالية، هل هي حزب بلبوس عصري تحول فيه المريدون إلى مناضلين من أجل حق سياسي معلوم؟ أم هل تدل “الفورة” التي عرفتها بعض الطرق الصوفية الحالية على أن الزاوية والشيخ والمريد لم ينتهوا، فاستساغ بعض “المريدين المسيسين” حلاوة القول حين بشروا بانبعاث عصر صوفي جديد وكرامات متجددة وشيوخ طرق ملهمة بأسرار ربانية؟ ألم نسمع بالطرقية الجديدة ونلمح الأتباع المجددين، بعضهم أصحاب فكر حداثي ورؤى مستقبلية…؟
تساءل الكثير عن حقيقة الزاوية كمركز خفي للسلطة السياسية وكملجأ أمان لتوازناتها وعن المشروعية المفترضة التي قد تمثلها بحيويتها “النضالية” المستحدثة في الساحة السياسية الحالية.
اقتنع البعض أن مجال تأثير نفوذ الزاوية محدود بمحدودية الزمان الذي ظهرت فيه، فيما رأى فيها البعض الآخر الأرضية الخصبة لكل تجدد فكري مادمت توفر للمنتسب إليها فرص الرقي والخلاص الروحيين.
تحدث الكثير عن صوت الرقابة الذي كانت تمثله القوى الدينية في مغرب الأمس وكأننا بهم يرغبون في بقائه مسترسلا ولو في سجال خفي قد تغلفه نوايا خيرة خفية.
ماذا تبقى من نقاش إلا الحديث عن ثنائية الصلات، ثنائية ملتبسة في الحدود وفي إدراك المفاهيم السياسية والدينية، تحول الحديث إلى صراع سياسي/ديني بلبوس سياسي، بأسماء ومعاني وربما بمفاهيم جديدة. فكانت المحصلة ثراء العطاء وتنوع التأويلات وكثرة الاجتهادات، وهو ما أعطى فرصا جديدا لخلق نقاش جديد في قضية ظلت محكومة بجدلية الخلاف.
من المؤكد أن استمرارية الفعل الصوفي ظلت تمثل عنصر تشكيل حقيقي لتاريخ المغرب الحديث وفاعلا مؤثرا فيه، بل مثل هذا الفعل جزءا من هذا التاريخ، لدرجة أن قراءة هذا التاريخ بمعزل عن أثر الفعل الصوفي لا تعدو أن تكون مجرد قراءة مختزلة ونسبية النظر، حتى أن البعض حكم على ثقافتنا بأنها “ثقافة التصوف والتاريخ والذكر والذكرى”.
ولأن المعادلة معقدة بحكم ما يثيره هذا التداخل من تعارض في المواقف والرؤى، فقد تلازمت مطالب السياسي في النظر إلى الحقل الديني مع طموح الديني في ركوب سفينة السياسي وإن “بخرقات” المتصوفة و”كراماتهم”.
هل علينا الاقتناع بأن الفعل الصوفي هو الفاعل المؤثر في كل تاريخ المغرب، كما حاول إقناعنا بذلك الكثير من المؤرخين الأجانب؟ أم هو مجرد لحظة تاريخية مجددة لهذا التاريخ؟ لنتساءل في الأخير ما هي الدولة المغربية بدون الفعل الصوفي؟
سؤال كبير أثير منذ بداية القرن20 ومازال يثري نقاشنا الحالي. جاءت إجابات الكتابة الكولونيالية على هامش مخططاتهم الاستعمارية لفهم الظاهرة الصوفية في عمقها المجتمعي والتاريخي والسياسي، فانبثقت عنها تحليلات ورؤى وقناعات استجابت لما كان يخطط له من مشاريع مستقبلية. فجاءت مبررة بمنطق الاستكشاف والاستعلام والحرص على معرفة الواقع المرتقب التعامل معه.
فيما لم تحرك المؤرخ المغربي نفس الدواعي، ومع ذلك إنساق وراء نفس الأسئلة لا ليصل إلى نفس النتائج ونفس المعرفة، بل ليناقضها ويفندها بالدليل التاريخي وحجة المنهج العلمي، متسلحا بهمة الوطني الغيور على تارخه. فاضطر إلى الخوض في الرد و التصحيح، ليجد نفسه قارئا جديدا لتاريخ المغرب بأكمله بدعوى البحث في تاريخ التصوف.
جاء التأسيس لتاريخ الزاوية المغربية مبنيا على إعادة قراءة مصادره وأصوله وإشكالياته، فتمت العودة إلى مناقشة مفاهيم ثابتة في التاريخ الديني من قبيل المرابطة والزاوية والصلاح والولاية والمقدس والمؤسس ومشروعية السلطة الدينية وآثارها المختلفة، فالطرقية والطرق والممارسة الصوفية بين سلوك العوام وعلم الفقهاء والعلماء.
و بالتالي، ترتب على هذه القراءات المجددة تصورات ومعالجات تاريخية مستحدثة، أخذت في بعضها بمنهجية المؤرخ المحترف الذي لا يقبل إلا السؤال ولا يعتمد غير الأصول المحققة. فلم يعد المصدر المقنع مجرد تراث الصوفية وآثارهم وإنتاجهم فحسب، بل شمل كل أصول تاريخ المغرب بأكمله، فبدا وكأن هذا الجهد العلمي أصبح قراءة لكل تاريخ المغرب بدعوى البحث في تاريخ التصوف أو فرع منه أو تجربة مستخلصة من مساره العام.

الهوامش والإحالات :

-هذا على الأقل هذا ما استنتجه المستكشفون الأوروبيون في أول اكتشاف لهم للزاوية المغربية، تراجع في هذا الصدد أعمال ميشو بلير الكثيرة. عن هذا السوسيولوجي يراجع، مجلة أبحاث، عدد 9 – 10، 1986.
-الشاذلي (عبد اللطيف)، التصوف والمجتمع، نماذج من القرن العاشر الهجري، سلا، 1989، ص 125.
– شكلت الكتابة الصوفية في شمولية إنتاجها الإطار المعرفي لتمثل سلطة الصوفية ووظائفهم، سلطة تأرجحت بين سمات التقديس والاعتقاد المفرط في تبرير المناقب والكرامات وواقعية الفعل الصوفي. وحتى وإن تغلب المنظور اللاواقعي لهذا الفعل، ظلت هذه الكتابة مصدر استقراء حقيقي وتأويل ممكن لأدوار محققة لا تتجاوز حدود الممكن الوقوع. وبالتالي قد لا تنطوي على الدوام على صور لذلك المحمول الغيبي الذي لف مضمون الكثير من كتب تراجم الأولياء.
– التوفيق (أحمد)، مساهمة في دراسة المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إينولتان 1850 – 1912)، البيضاء، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1978، جزآن، ج 2، ص 94.
– ابن الزيات (يوسف التادلي)، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، الرباط، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1984، الباب السابع في إثبات كرامات الأولياء، ص 54- 55( تحقيق أحمد التوفيق).
– اشتهر إبراهيم بن احمد الأمغاري صاحب زاوية كيك، وهي فرع للزاوية المصلوحية، بكرامة الإطعام. تراجع ترجمته في : الإفراني (محمد السوسي)، صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، ط.ح، د.ت، ص 199.
– التوفيق، ن.م، ج 2، ص93.
– الشاذلي، ن.م ، ص125.
– التوفيق، ن.م، ج 2 ، ص94.
10- Laroui (A) , Les origines sociales et culturelles du Nationalisme Marocaine, Maspéro, Paris, 1980, pp ، 150-154.
– ضريف، مؤسسة الزاوية بالمغرب الإسلامي، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، ص 55.
– التوفيق، ن.م، ج 2، ص92.
– الشاذلي، ن.م، ص189.
– رسالة مؤرخة في ذي الحجة من عام 1210 هـ.
– الشاذلي، ن.م، ص 188.
التوفيق، ن.م، ج 2 ، ص93.
– بالتحديد النظرية الانقسامية، يراجع في هذا الصدد : الأنتربولوجيا والتاريخ : حالة المغرب العربي، البيضاء، دار توبقال للنشر، 1988.(ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق).
– العروي، الأصول، ص141.
-كلنير (إرنست)،” السلطة السياسية والوظيفة الدينية في البوادي المغربية”، ضمن “الأنتربولوجيا والتاريخ” سابق الذكر، ص 43 -59.
– نفسه
– الحمودي (عبد الله)،” الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية والقداسة : ملاحظات حول أطروحات كلنير”، ضمن “الأنتربولوجيا والتاريخ”، سابق الذكر، ص 60-86.
– الحمودي، ن.م، ص75.
– الإفراني (محمد السوسي)، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1998، ص90 -91.
– الشاذلي، ن.م، ص123.
– مفتاح (محمد)، التيار الصوفي والمجتمع في الأندلس والمغرب أثناء القرن الثامن الهجري، أطروحة دولة مرقونة، كلية الآداب بالرباط، 1981، ج 1، ص80.
– هذا على الأقل ما تم استخلاصه من مواقف العديد من شيوخ الزوايا الكبرى، وهي مواقف لم تكن دائما منسجمة مع منظور السلطة.
– من وثائق زاوية كرول، من رسالة للمولى إسماعيل إلى ولده أحمد الذهبي. يراجع : التوفيق، ن.م ،ج2، ص 80.
– يمثل هذا التبرير الحجة التي استند عليه شيخ الزاوية المصلوحية للدفاع عن نفسه في طلب الحماية البريطانية.
– من رسالة للسلطان المولى عبد العزيز إلى محمد الطريس، مؤرخة في 12 ذو الحجة 1312 / 6 يونيه 1895.
– نفسها.
– أحمد بن موسى إلى محمد اللبادي، 5 شوال 1314/ 9 مارس 1897، ضمن دراسة بن الصغير (خالد) المغرب وبريطانيا العظمى ما بين 1886 و 1904، أطروحة دولة مرقونة، كلية الآداب بالرباط، 2001، ص 485.
– العروي، ن.م، ص 146. الشاذلي، ن.م، ص196.
– ظهير مؤرخ في أواخر في متم محرم الحرام عام مائتين بعد الألف، يراجع في، الضعيف (محمد)، تاريخ الضعيف، الرباط، دار المأثورات، 1987، ص 189-190(تحقيق وتعليق أحمد العماري).
– رسالة السلطان عبد العزيز إلى محمد الطريس، سابقة الذكر.
– كما هو حاصل في مراسلة المولى عبد العزيز السالفة الذكر.
-العروي، ن.م، ص 145.
– نفسه.
– حالة شيخ الزاوية المصلوحية، محمد بن سعيد، إبان تمرد الرحامنة بعيد وفاة المولى الحسن المشار إلية أعلاه.
– ضريف، ن.م، ص91.
– العروي، ن.م، ص145.
– الشاذلي، ن.م، ص125.
– يبسط العروي في هذا الباب حالة الزاوية الوزانية، فبعد أن فقد عبد السلام الوزاني تأثيره في البلاط وتراجعت مداخيل زاويته، وحيث أنه لم يكن بإمكانه العيش من دون دعم السلطة السياسية، حاول أن يجد في القطاع الجزائري ما فقده في المغرب حيث أفلح هناك، لأن مصلحة فرنسا تطابقت مع مصالحه. العروي، ن.م ، ص133
– يراجع في هذا الصدد التقرير الهام الذي أنجزه دوتي حول الوضعية السياسية بحوز مراكش، D outté ( Ed ), Situation politique du Houz au 1er Janvier 1907, Hérodote. No 11, 3éme Trim, 1978
– وهنا ندرك لماذا ظل المخزن يعارض بشدة منح الحماية الأجنبية لشيوخ الزوايا، لأن مسؤولية هؤلاء كانت تضعهم في زمرة من كان متلبسا بالخدمة المخزنية.
-من ذلك مشروع معصرة زيتون عصرية أقامها شيخ الزاوية المصلوحية بالحوز في نهاية القرن التاسع عشر بتعاون مع تاجر فرنسي يدعى لانييل Langnel، ومشاريع شيخ الزاوية الوزانية الاقتصادية مع الفرنسيين في الشمال.
– محمد ضريف و عبد الله العروي و آخرون .
– العروي، خواطر الصباح : يوميات ( 1967 – 1973 )، الدار البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي، 2001، ص 68.
– على وجه التحديد ميشو بيلير ودراك وغيرهما من رواد المدرسة التاريخية الكولونيالية.