محمد المازوني
مقدمة :
مثلت الوظائف المؤسسة للزاوية المغربية الصورة المثلى لهذه المؤسسة : فالزاوية كانت في الأصل مدرسة ومقر استرشاد ومستودعا مؤمنا ومحلا لإطعام الطعام وملجأ أمان. بيد أن هذه الوظائف، وبقدر ما كانت تعبر عن أدوار محددة بقدر ما كانت تخفي في طياتها أسرار تطور الزاوية وتفاعلها مع المجتمع والسلطة على حد سواء. كما أن تلك الوظائف لم تكتسب قيمتها الفعلية إلا حين تمكنت الزاوية من تقوية رساميل رمزية وسلطات معنوية، وسعت من نفوذها وأدوارها داخل المجتمع وهو ما وفر لها مسؤوليات دنيوية ودينية. انتهت الزاوية المغربية، عبر تطور وظائفها المختلفة، إلى أن تصبح مكونا ضروريا في توازن المجتمع المغربي. فقد جمعت بين ما كان ينشده الناس من أمان وحاجيات العيش، وما تنشده السلطة من استقرار سياسي واجتماعي. تكبر أدوار الزاوية لتنازع السلطة وتجد لتفي بالأقل في حدود الجماعة، تنطلق كمركز للإرشاد العلمي والصوفي لتنتهي إلى دائرة السياسة بكل ملابساتها المختلفة. قد تفقد الزاوية كل وظائفها (تعليم/ تربية صوفية) لكن أدوارها السياسية تظل مطلوبة، لتبدو وكأنها مجرد أداة سياسية تعززها مبررات التقديس المؤدية إلى تزكية رمزية للأدوار الجديدة (السياسية). فيبدو الباعث الصوفي في نهاية الأمر مجرد ذكرى في معمعان السياسية.وبسبب ذلك، تطور الجهاز الصوفي لدرجة اعتبره البعض “مشروع دولة مثالية دائم الوجود”، أعطى لدور الصوفي تشكيلا متجددا وجعل من مؤسسته مكونا من مكونات الدولة، تتطور بتطورها وتتميز بتراجعها، وهو ما أفضى في النهاية إلى حاجة الدولة لهذا الجهاز وحاجة هذا الأخير للدولة، وهي العلاقة التي تأصلت وتقوت حسب منظور كل طرف للآخر، فيما يبدو أنه تنافس مبطن حول المشروعية الرمزية لتمثل الزعامة داخل الجماعة. لكن في المقابل، يمكن النظر إلى ذلك من زاوية تبادل الأدوار : فالجهاز الصوفي يكمل الأداء السياسي فيما يضمن هذا الأخير للثاني سبل الاستمرارية وآليات الامتداد.
1. سلطة الكرامة في تثبيت الفعل الصوفي
مثلت الكرامة سلطة الولي على غيره وحجة مبينة لتزكية ولايته وصلاحه، وبفعل الأثر الإيجابي على الجماعة التي حملت على تصديقها، تسلب الكرامة من واقعيتها المكتسبة من أدوار الصوفي المحققة وبسبب حاجة الناس لتجاوز أزماتهم الذاتية أو تلك المتصلة بأوضاعهم المجتمعية. لذلك ظلت الكرامة الصورة المعبرة عن مظاهر الأزمة وتطلعا “افتراضيا” لتجاوزها. وبالرغم من تعدد أوجه الكرامة وفعل أصحابها تظل انعكاسا حقيقيا لأوضاع مجتمعية محققة، وإن عبر تعلق بها في صور مستحيلة الوقوع وبتواتر اعتقادي جعلها جزءا من ثقافة المجتمع.
بالرغم من أن الكرامة فصلت عن جسمها الواقعي لتكون لازمة في المعتقد الصوفي بما عبرت عنه من سمو ورفعة صاحبها عن كل ما يشارك به العوام من صفات ملحوظة، فإنها مع ذلك ظلت أداة لتثبيت الفعل الصوفي،فمن خلالها يفلح الصوفي في تحكيمه واسترشاده وتعليمه وتأمينه للمظلوم، ونجاحه في هذه الأدوار يكسبه رهبة ويزيده هبة وتعظيما، وبالتالي يتحول هذا التفوق الواقعي إلى تمثل رمزي يتجاوز تأثيره حدود الإدراك الحسي.
تبدو إذن، الشروط الواقعية/الرمزية التي انطلقت منها الزوايا المعيار المحدد لمصداقية اعتقاد الناس في الكرامة، كما أن هذا الاعتقاد سيترسخ باستمرارية بأداء الزاوية لأدوارها وبما تحمله لها الظروف من نجاح وفلاح في المقاصد الرمزية والدنيوية على السواء.
تسأل الكثير عن ثنائية الصلة بين الكرامة والزاوية ومن منهما يؤسس للآخر؟ تبدو الإجابة دون جدوى إن هي أخرجت الكرامة من الفعل الصوفي المحقق وجعلتها، كما ارتضي لها الكثير من علماء التصوف أن تكون خارجة عن العادة وفي مرتبة تلي معجزة الأنبياء.
2. الوظائف المؤسسة للزاوية
إن الدعائم الأساسية لقيام الزاوية لم تخرج عن ضرورات الحياة الفعلية، فالزاوية ظلت منذ ظهورها مركزا لإطعام الطعام وحاجة في أوقات المجاعة والقحط أو حتى عند الخصاصة العادية، لذا أضحى الإطعام ملازما لها وميزة عامة لحياة روادها وسلوكا صوفيا يحتذي به المريد بعد شيخه، حتى بلغ الأمر درجة اعتبر فيها الإطعام رمزا لكرامة صاحبها، تمنحه سلطة رمزية بسبب كثرة المستفيدين منه وقلة المتوفر من الطعام، خصوصا في مجتمعات عانت من النقص في الإنتاج وتوالي الأزمات.
حولت هذه الوضعية الزاوية إلى مؤسسة اجتماعية لرعاية المحتاج وعابر السبيل، فكان من ضروريات هذه الوظيفة أن تكون لها أملاك خاصة بها أو محبسة عليها تستثمرها للوفاء بهذه الالتزامات ولتغطية الخدمات المجانية، لتتوسع في الحصول على الصدقات والهبات والزيارات.
وبحكم وظيفة الإطعام رأى البعض في مؤسسة الزاوية نوعا من “مؤسسات جيش الخلاص” الحالية، استطاعت بوظيفتها هذه أن تحول استقطاب المحتاجين إلى جاذبية الشيخ ومقره. وبالطبع، حصل كل هذا في سياق حركة منظمة محكومة بهاجس التبرك و”الزيارة” وما يفرضانه من طقوس وعطاءات مادية. فتحول الباعث المادي إلى مسلك لإكساب الزاوية شروط السلطة الرمزية ومقومات الثراء المادي بحكم “تسامح القبائل مع الزوايا في توسيع ممتلكاتها، لأنها تلجأ إلى إطعامها عند الحاجة”.
لم تقتصر الزوايا في تشكيل مؤسستها على وظيفة الإطعام، بل ثمة وظائف أخرى ساهمت بدورها في تقوية رصيدها الرمزي. فالزاوية هي في الأصل مركز للتعليم والوعظ، وقبلها كان الرباط أداة لتصحيح العقيدة والدفاع عن الملة الإسلامية ضد كل أشكال الانحراف الديني. وباعتبار الزاوية شكلا متطورا للرباط، فقد تحولت العملية التعليمية البسيطة إلى ممارسة تعليمية دينية محكمة وفق شروط أكثر وضوحا، فتمكنت الزاوية من مقروآتها وموادها المدروسة وفقهائها المقدمين للتحصيل. كما استقطبت المتعلمين من كل الآفاق موفرة لهم شروط التعليم والإقامة، بل أصبحت هذه الشروط من وظائفها الأساسية التي تحصلت بسببها على كل ما يلزم لبقاء دورها العلمي والصوفي مستمرا.
لقد حرص الشيوخ المقدمين للتربية الصوفية والتعليم الديني على تطوير أدائهم وبلورة هذا الأداء في صورة تلقين مجسد لشخصيتهم الصوفية القائمة على سمات التسليم والبركة، وهما القناة الخفية لما يمكن اعتباره الكمال في الوظيفة التعليمية التي يفيض عطاؤها على المريد المتعلم الآخذ من علم شيخه، أخذ الضمان المتعطش والمرتوي من بحار علم الشيخ الواسعة. وهذه المعرفة محددة في الظاهر، خفية بسر صاحبها في الغالب الأعم.
فشيخ الزاوية، وهو معلم أول، هو صاحب علم وسر، علم الطريقة والسلوك وقدوة في العمل ومقصد المريد، يحمل في شخصه النموذج الصالح لحياة الناس وكراماته ومناقبه دليل على رغبته في الصلاح والإصلاح : إصلاح الناس في أمور العلم والدين وولايته قدوة في السلوك. وهكذا تصبح الوظيفة التعليمية مزدوجة الأداء : تفقيه الناس في أمور الدين وتقديم الأصلح عبر الصلاح، لذلك يصعب التمييز بين سمات الصلاح والولاية والأداء التعليمي والسلوكي.
تسأل الكثير من المهتمين بتاريخ التصوف المغربي عن صلات هذه الوظائف بتطبيق الشريعة في مجالات الزاوية؟ هل الزاوية هي القـناة الوظيفية الكفيلة بتطبيقها؟ أم أنها مجرد اجتهاد مبسط لتمثل الشريـعة في مجالات ظـل استيعابها لها محدودا؟
فمنهم من رأى في شيخ الزاوية مجرد فقيه أو طالب علم أخذ ببعض مبادئ الشريعة وحفظ القرآن، ليتمثل في وسطه صورة العالم المتمكن في مجال أمي وبالتالي تكون أفضليته نسبية بحسب أمية المجال، وبطبيعة الحال يقصد هنا بالمجال البادية تحديدا، لأن للحواضر علماؤها المتفقهون والعارفون بأمور الشريعة. أم أن الزاوية بوظيفتها التعليمية لم تكن سوى أداة لتجسيد حكم الشرع المجتهد فيه بحسب ثقافة الشيخ ضد الشرع المنظم بقواعده والممثلة لسلطة الدولة؟.
وبحسب نفس الرأي فإن هذه الثنائية تتم عبر قناتين، فالزاوية غالبا ما تلجأ إلى إضفاء شرعية النسب على شيوخها لتثبيت ارتباط مجالها القبلي بالشرع، وهو تأكيد صريح على أن أداءها العلمي والصوفي وفق تلك الشرعية، يدمجها في النسق السني الذي يحرص الشيخ على جعله علامة مميزة لعلمه وبالتالي ربط ذلك العلم بالإسلام الشرعي. وهي حجة تحمي الزاوية من كل محاولات إخراجها عن نطاق المشروعية الدينية والسياسية كذلك، وبالتالي توفر لأدائها العلمي الحماية والبقاء ضمن الجماعة.
بالطبع قد تكون هذه الآراء معبرة عن نظرة عامة للزاوية في عموم أدائها وبصرف النظر عن التجارب المحددة، لكن هذا الأداء لم ينظر إليه من طرف المخزن أو العلماء والفقهاء بنفس الصورة،وكثيرا من الأحيان ما تم تقييمه خارج نطاق الشرع نفسه. فكثير من شيوخ الزوايا تم ابتداعهم وعانى بعضهم من التعذيب والامتحان وتمت مناظرة البعض الآخر من طرف العلماء. إنها المراقبة المسترسلة للأداء العلمي للزوايا، ونظر المخزن والعلماء إليها لا يمثل نهجا في إقصاء أدائها، بل هو محاولة لضبط آليات التحكم في وظيفة التعليم وبالطبع في الأداء العام لسلطة الزاوية.
2. 1. حرم الزاوية أو المجال المقدس لرمزية الزاوية
من الوظائف التي شكلت ركيزة أساسية في تمثل الزاوية للسلطة الرمزية، وظيفة الحرم أو المأمن المقدس. فقد مارست الزوايا على الدوام هذه الوظيفة الحساسة حتى صارت في الاعتقاد الشعبي سلطة لا تنازعها في ممارستها أي سلطة أخرى مهما كان وزنها أو تأثيرها. وأثبتت الممارسة أن مجال الزاوية، وبالخصوص ضريح وليها وكيفما كان حجمها، ظل مجالا حرما وملاذا لكل معتصم مهما كانت دواعي التجائه أو اعتصامه حتى وإن كان جانيا أو مجنيا عليه. كما آوت الزاوية بحرمها أمن الناس “تجاه كل صروف الخطر أو الخوف أو الجور، مهما كانت مصادرها : تجاه الطبيعة والجارح من الحيوان أو البشر. لكن أكثر أنواع الحماية وأشدها أثرا في الناس هي تلك التي تضع بين الفرد وبين السلطة حجابا”.
والحرم في عرف الزوايا لا يقتصر على ضريح الولي، بل شمل كل حدود الزاوية وأحيانا مجالات نفوذها من عزبان وممتلكات محبسة وخاصة. إذا كان نظر شيوخ الزوايا لمسألة الحرم يعتبر من مكوناتها المقدسة، والتي لا يجب خرقها، فإن للمخزن-على الدوام- مبرراته لفحص هذه النظرة وأحيانا لتصحيح مدلولاتها الشرعية والسياسية كذلك. فالمولى سليمان، وفي رسالة إلى سيدي علي بن أحمد الحسني الوزاني، نبه إلى أن المغزى من حرم الزاوية والمقصد منه”(…) أني إنما أردت لمن يكون بزاوية وزان واقف مع الشرع المطاع، ويكون كالشهاب يحميها من الشياطين (…) لا فارا بخربة أو محدثا يأوي لتلك البقعة الطاهرة (…) وحقيقة الزاوية أن يلجأ إليها كل هارب إلى الله من ظالم، وليست مهربا للظالمين”. ومثل هذا التنبيه غالبا ما كان مسوغا شرعيا لدحض حرم بعض الزوايا، وفي مناسبات كثيرة اخترقت السلطة هذا الحرم، خصوصا في حالات المنازعات…
رغم ذلك ظلت الزاوية تحتفظ لنفسها بهذا الحق المكتسب حتى بين الأمراء المتنازعين، حيث آوت الكثير من أدعياء العرش أو الثائرين من الأمراء. واستثمرت على طول الوقت حمايتها لتقوية نفوذها بالتشديد في الحرص على جعل الحرم من مهامها الأساسية. وبفعل هذا الحرص رأى بعض المؤرخين أن مسألة حرم الزاوية شكلت واحدة من أهم وظائف الجهاز الصوفي وأكثرها خطرا، بل تبقى في نظرهم رمزا لممارسة الزاوية لسلطة تنظيمية واضحة، خصوصا وأن هذه الممارسة استوجبت بحسب دور الحماية تنظيما محكما، عبرت عنه التشريعات الرسمية نفسها، التي ألزمت بتمكين الزاوية من تلك الوظيفة على الأقل لكونها كانت تخدم دور السلطة في الكثير من المنازعات عبر توفير ظهائر التوفير والاحترام، وما كان يترتب على اكتسابها من نفوذ وتمثل لسلطة فعلية في نطاق الزاوية.
وظيفة التحكيم أو “الاستقلال المفترض”
من الوظائف الأساسية التي اضطلعت بها الزاوية وظيفة التحكيم، والتي لم تكن أقل أهمية من باقي الوظائف السالفة، بل لعل أكثرها حساسية وأفيدها لسلطة الزاوية. فقد مكنت سمات المرابط ووضعه الاعتباري من جعله وسيطا مقبولا وحكما ترتضي لوساطته كل الأطراف، بل كان عامل وفاق وفصل في كل ما كان ينشأ من نزاعات أو خلافات قبلية أو سياسية.
وتقوم وظيفة التحكيم على مبدأ المسالمة، الذي ميز نشاط الولي وقناعة المتنازعين في الاعتراف له بهذه الصفة. وهي الصفة التي منحته قدرا كبيرا من الجرأة التي رأى فيها الكثير نوعا من المكاشفة في أمور الدنيا، وهو ما يزكي في الغالب رأيه ويجعل كل الأطراف تقبل وترضى بأحكامه. وهي في منظورأصحابها كرامات ظاهرة تسهل حل ما استعصى حله بطرق سلمية وبحكمة ربانية، وهو ما يمثل عنوان بركة الولي الخفية ومفتاح توفيقه.
لم ينحصر دور المرابط التحكيمي على الدوام في أمور السياسية وقضاياها أو في النزاعات الضيقة، بل شمل كذلك أمور العلم والفقه وأحيانا العلوم الشرعية، على قلة علم الكثير من المرابطين. ولم يكن هذا الأمر سبيلا للطعن في دورهم، فمثلا صادفنا تحكيم مرابطين محدودي الأثر في الفصل في أمور العقيدة ومع ذلك ظل تعلق الناس بهم في هذا الجانب أمرا ثابتا.
إلا أن الذي استأثر بدور المرابطين التحكيمي ظل الفصل في قضايا ذات صبغة دنيوية، إذ تحولت الزوايا إلى ما يشبه “محكمة للفصل والصلح وترتيب المواثيق وضبط الاتفاقيات (…) وبسبب هذا الدور غالبا ما أجبر السكان على الإذعان لسلطة المرابط القضائية، إما رغبة أو رهبة”.
بالرجوع إلى دراسات الانتروبولوجيين نلاحظ أن وظيفة التحكيم كانت إحدى القضايا التي استوقفت نظرهم في وظائف الزاوية، مما جعلهم يعملون على تشخيصها وضبط آلياتها إلى حد اعتبارها الوظيفة الأكثر فاعلية في أدوار الزاوية، باعتبار أثرها السياسي والمكاسب المترتبة عليه لفائدة الزاوية.
فظاهريا، يبدو تحكيم المرابط شيئا مألوفا في المجتمع المغربي القائم على قاعدة التمايز القبلي بسبب مكانة المرابط ضمن الهرم الاجتماعي العام وعدم ارتباطها الفعلي-نظريا بأية مجموعة قبلية بعينها، كما أن دوره كان مرغوبا فيه من طرف كل مكونات هذا المجتمع.
لكن واقع الحال لم يكن ليقصي المرابط ومؤسسته الدينية من المغامرة السياسة أو الانحياز، وهذا ما يضع مسألة حياد المرابط التي دافع عنها الانتروبولوجيون موضع الشك والتساؤل. فقد أثبتت التجارب تورط العديد من شيوخ الزوايا في مغامرات سياسية أو عسكرية مكشوفة (أحنصال/ الدلاء…)، كانت وراءها ضرورات سياسية أو اقتصادية، وبالتالي تبدو وظيفة التحكيم المبني على قاعدة الحياد أمرا نسبيا، بل هناك من جردها حتى من طابعها الرمزي المعترف به من المجتمع و جعلها مجرد استعانة، إما من جهة المخزن أو من جهة القبائل بمن كان مقبولا ومؤثرا، وليس مالكا لحق التفرد بها.
بالرجوع دائما للنظرية الانقسامية نستشف البعد النمطي في النظر للدور التحكيمي للأولياء، ذلك أن توازن العنف وما تفرضه وظيفة التحكيم التي يقوم بها الصلحاء من الاعتدال، هما العاملان الضامنان للنظام داخل المجتمع الانقسامي ولقدر من الأمن والاستقرار مما يجعل من هذه الوظيفة مكونا ضروريا في مجتمع تنعدم فيه التراتبية وتقسيم العمل. كما أن نظام هذا المجتمع الرئاسي ظل ضعيفا، وبالتالي تعمل هذه البنية الانقسامية ونفوذ الصلحاء على الحد من سلطة رئيس القبيلة.
ووجود الولي في منأى عن النزاعات الانقسامية يجعله ضامنا لاستمرارية مجتمع مهدد بالانفجار من جراء تلك النزاعات، كما يمثل صلة وصل بين القبائل والجماعة الإسلامية. ووفق نفس النظرة، فإن الأولياء هم الذين يضمنون الاستقرار داخل بنية غير مستقرة ويمتصون مخزون اللامساواة الكامن لدى فئات العوام”.
يبدو من خلال النظرية الإنقسامية غياب للسلطة أو صور لتمثلها من جهة، وإقصاء الأولياء عن نطاق السياق الاجتماعي واعتبارهم مجرد كيان موازي للبنية الاجتماعية لوجودهم داخل نظام تراتبي وهرمية معترف بها.
ولدحض التأويلات الانقسامية المتعلقة بسكونية الحياد المفترض للصلحاء وجنوحهم الدائم للسلم، انبرى أكثر من مهتم بتجارب الزوايا إلى الرد من خلال نماذج حية، كشفت عن انخراط العديد من شيوخ الزوايا (زاوية أحنصال والدلاء مثلا) في نزاعات من أجل تثبيت سلطة زواياهم الدنيوية وسعيهم لتحويل رأسمالها الرمزي إلى فعل سياسي مؤسس.
من الباحثين الذين ردوا بقوة على منظري الإنقسامية في هذا الجانب، عبد الله الحمودي الذي يقترح تناول انخراط بعض شيوخ الزوايا في معمعان المواجهة الدموية في سياق صيرورتها التاريخية، وذلك بتمييز هذا الانخراط ضمن مستويين اثنين :
أ. محلي، ويتمثل في نشاط الولي لتكوين شبكة من الموالين والأتباع، يلتزمون بالحياد إزاء الصراعات المحلية لكسب الأنصار، وفيه يكون التحكيم من أهم الوظائف التي يباشرونها، وتشكل المسالمة أبرز سمات الصلاح.
– أما المستوى الثاني، فيأخذ بعدا جهويا أو وطنيا يخوض فيه الولي مغامرة على نطاق واسع، حيث يتم التخلي عن وظيفة التحكيم التي تصبح ثانوية .
ويعزو هذا التحول إلى الالتباس الموجود بين القداسة و السياسية، والذي يستغله المرابط استغلالا ذكيا، يجعله يباشر الدعوة ويجهز الجيوش ليخوض بعد ذلك مغامرة الحكم .
تحيلنا المغامرات السياسية لبعض شيوخ الزاويا إلى منظور مؤسس سنه الحكام السعديون الأوائل، وخصوصا محمد الشيخ المهدي، حين باشروا سياسية قمعية ضد أرباب الزوايا المتصدرين للمشيخة بدعوى الخوف من تحول دورهم الصوفي إلى بدرة للدعوة وركوب السياسية.
وقد أحسن بعض المؤرخين القريبين من الأحداث، محمد الإفراني على وجه التحديد، في تقدير نوايا الأمراء السعديين، حين برروا تخوفهم من أن الإمارة السعدية نفسها انطلقت إلى السياسية من تربة الزاوية، بل لم يقدر لها النجاح إلا بدعم قوي وتعبئة منظمة من شيوخ الزوايا الجزوليين. وبالطبع قد تمثل هذه التجربة إحالة صريحة للالتباس المتحدث عنه سلفا بين القداسة والسياسة.
كيف تصورت المؤسسة المخزنية وظيفة التحكيم كما برزت في الممارسة الفعلية؟ و هل اعتبرتها حقا مكتسبا للزاوية ووظيفة مكملة لأدائها الديني؟ أم أنها مجرد تنازل ضمني عن حق من حقوقها الشرعية ؟ أم هي إحالة معبرة عن نزوع مكشوف بين قوتين متنافستين؟
في واقع الأمر، تفترض الإجابة المقنعة استعراض نماذج حية و مختلفة من تاريخ الزوايا حتى نتبين صورة هذه الوظيفة في منظور السلطة السياسية، لكن محدودية دراستنا تحد من ذلك، لذا سيتم التركيز على معالجة هذه القضية ضمن تحليل عام.
ارتبطت وظيفة التحكيم في بعض صورها بقاعدة حرم الزاوية، حيث كانت الزوايا في الكثير من مناطق المغرب تمثل مراكز آمنة لتشييد المخازن الجماعية وعقد الأسواق الأسبوعية ومرور المسالك التجارية، وهي الوضعية التي أهلتها لتبؤ مركز وسط بين القبائل وامتلاك سلطة معنوية لفض النزاعات المحلية أو ذات الطبيعة التجارية. كما كانت تسهر على ضمان حركة التنقل بين مجالات الرحل والمستقرين، وكثيرا ما اتخذت بعض مواقعها نقاط تماس جغرافي بين الكتل القبلية. وقد جلبت هذه الأدوار للزاوية سمعة واحتراما، وباعتبارها من الأدوار التي كانت تدخل في إطار التوازن العام للمجتمع، فقد تمت مكافأتها على ذلك لكونها لم تكن تمارس مهمة التحكيم والوساطة بالمجان.
فقد تحصل شيوخ الزوايا لقاء ذلك على “امتيازات مالية وغير مالية، فهم معفون من الضرائب والكلف والسخرة ويتلقون الزكاة والأعشار في مجموعتهم ويتمتعون بإقطاعات وعناية سياسية”. وحملتهم هذه الوضعية إلى مستوى جديد قد نتلمس فيه تمثلا مبطنا للسلطة، باعتبار أن شيخ الزاوية”أصبح موظفا تابعا للسلطة السياسية (…) وفي أبسط الأحوال جابيا للضرائب متقاضي لأجرته (…) وفي مستوى أدنى ضمن بنياتها السياسية”.
إذا كان الأمر يبدو كذلك، فإن هذا التمثل للسلطة لم ينظر إليه بنفس النظرة من كلا الطرفين : المخزن والزاوية. فقد أظهرت التجربة أن الزاوية كانت تحرص على الظهور بمظهر المستقل عن إرادة المخزن، وأن ما كانت تتحصل عليه من امتيازات مخزنية ما هو إلا نصيبها من خدماتها المجتمعية المنسجمة مع النسق العام للبيئة المحلية وللتقاليد الدينية، وبالتالي لا يعني خضوعها لسلطة المخزن الارتباط العضوي به بل أن ذلك الارتباط كان نابعا من القواعد الشرعية للحكم في الإسلام المؤسسة على شروط الإمامة. وهي على كل حال نفس القواعد التي تمنح حق الاعتراض على ما قد يكون خروجا عن الشرع لمن شاء من رعية الأمة المتمكنين.
وهنا تظهر، في الغالب، مواقف الصلحاء في معارضة السلطة السياسية، وهي المواقف التي تمثل في الواقع-ردود أفعال منسجمة مع البيئة الفكرية المعاشة والتي تمنحهم سلطة الرقابة وحق المعارضة ضد جور العمال وتطاول القواد على حقوق الناس عبر سلطتهم الروحية وبأسلوبهم الخاص والمتمثل في الكرامات والمناقب، وهي أساليب تبعدهم عن المجابهة السافرة التي قد تجرهم نحو متاهات غير مضمونة. بينما تكسبهم أساليبهم المسالمة مزيدا من الاعتبار وولاء الأتباع وحيطة المعارضين.
بهذا الأسلوب المسالم تمكنت الزوايا من تثبيت سلطتها الرمزية وتقوية قدسية مواقف شيوخها، ولعل من النتائج المباشرة لذلك توسيع فرص الامتداد واكتناز المزيد من الرساميل الرمزية ضمن مجالات نفوذ الزوايا. وبدل أن يظهر شيخ الزاوية مجرد حكم يأوي إليه المتنازعون، أصبح مدافعا عن حقوق جماعته ضد السلطة أو ضد من يمثلها، وبالتالي تعزز مكانته وتقوي لديه القناعة في المزيد من الاستقلالية عن المؤسسة السياسية