زكي الميلاد
نحو قراءة معرفية جديدة
-1-مالك بن نبي ونظرية الثقافة
لا يمكن الحديث عن الثقافة في العالم العربي، وعلى مستوى الفكر الإسلامي، دون التطرق والاقتراب لمالك بن نبي، الذي شغلته قضية الثقافة، وظل مسكوناً بها، ولم يفارقه الاهتمام بها طيلة حياته. وإسهاماته في هذا المجال هي الأكثر حضوراً وأهميةً على مستوى الدراسات الإسلامية، وهو المفكر الذي استطاع أن يبلور نظرية في الثقافة، ويستقل ويعرف بها. وهي النظرية التي اكتسبت شهرة بين الكتّاب والباحثين الذين ظلوا يرجعون إليها، ويعرِّفون بها في كتاباتهم وأبحاثهم.
وما زالت هذه النظرية تلفت الاهتمام، وتستوقف نظر المشتغلين في حقل الثقافة والدراسات الثقافية، وذلك لطبيعتها المتميزة من جهة، ولضآلة الإبداع والتجديد العربي والإسلامي ومحدوديته في هذا الشأن من جهة أخرى، ولكون هذه النظرية من النظريات المبكرة والجديدة في مجالها.
يضاف إلى ذلك أن مالك بن نبي قد ظل يلفت النظر والاهتمام لنظريته في الثقافة، ويجدد الحديث عنها باستمرار وفي مناسبات عديدة، ولم يتوقف عن الكتابة عنها والتذكير بها، منذ أول كتاب له تحدث فيه عن الثقافة، وهو كتاب «شروط النهضة» الصادر باللغة الفرنسية في باريس عام 1949م، إلى كتابه الذي خصصه لهذه القضية وهو كتاب «مشكلة الثقافة» الصادر باللغة العربية في القاهرة عام 1959م. وهكذا في الحديث عنها من خلال المحاضرات التي ألقاها في القاهرة ودمشق وطرابلس وصولاً إلى الجزائر.
والذي حفّز بن نبي إلى مضاعفة الاهتمام بالمسألة الثقافية، هو أنه بعد وصوله إلى القاهرة عام 1956م، وترجمة كتابيه «شروط النهضة» و «فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ» وصدورهما باللغة العربية عام 1957م م، وجد بن نبي اهتماماً من الطلاب العرب في القاهرة بأفكاره حول مفهوم الثقافة التي تطرق إليها في الكتابين المذكورين. وفي هذا الشأن يذكر عمر مسقاوي في تصديره لكتاب «مشكلة الثقافة» أن الطلاب العرب في القاهرة كانوا يرتادون مجلس بن نبي عام 1959م، وأكثرهم يأتيه مستوضحاً مفهوم الثقافة كما شرحه في كتابيه «شروط النهضة» و «فكرة الأفريقية الآسيوية».
هذا الاهتمام شجع بن نبي لأن يخصص كتاباً حول الثقافة يجمع ويشرح فيه ما توصل إليه من أفكار وتصورات، وفي هذا الصدد جاء كتابه «مشكلة الثقافة». وبعد اثني عشر عاماً على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، اعتبر بن نبي في مقدمة الطبعة الثانية، أن الأفكار التي عرضها كانت غريبة في الوسط الثقافي العربي، ولم يسبقه إليها دارس عربي من قبل، وأنه قد تناول القضية من زاوية جديدة. وفي تقديره أن غرابة الأفكار التي توصل إليها ترجع إلى سببين:
أولاً: لأنها لم تتوخ منهج الدراسات الغربية في الموضوع لأسباب منهجية.
ثانياً: لأن الأفكار المعروضة ليست في جوهرها إلاّ امتداداً وشرحاً تحليلياً من ناحية، وتركيباً من ناحية أخرى للأفكار التي قدمها في أحد فصول كتابه «شروط النهضة» الذي نشر منذ ربع قرن باللغة الفرنسية، أي عندما كان الموضوع بكراً لا بالنسبة للعالم الإسلامي فحسب، بل أيضاً في بلاد الغرب(1).
ولعل هذا الانطباع بغرابة هذه الأفكار تولد عند بن نبي بعد صدور وتداول كتابه «مشكلة الثقافة» وما تشكل حول هذا الكتاب من وجهات نظر. ولهذا عبر بن نبي عن هذه الغرابة في الطبعة الثانية من الكتاب، ولم يلفت النظر إليها في الطبعة الأولى منه. وما زالت تلك الأفكار تحتفظ بقدر من الغرابة خصوصاً في ناحيتها التركيبية، أما في ناحيتها التحليلية فلم تعد لها تلك الغرابة اللافتة. ومنشأ هذه الغرابة في هذا الوقت لعله يعود إلى الغموض الذي يحيط بتلك الأفكار من جهة صعوبة معرفة كيف توصل بن نبي لبناء نظريته الثقافة بالتركيب الذي شرحه في كتاب «شروط النهضة» ثم في كتابه «مشكلة الثقافة».
-2-التحليل النفسي للثقافة
لقد عالج بن نبي مشكلة الثقافة من ناحيتين، أطلق على الناحية الأولى تسمية التحليل النفسي للثقافة، وعلى الناحية الثانية تسمية التركيب النفسي للثقافة.
في الناحية الأولى حاول بن نبي أن يتتبع بصورة سريعة وعامة بعض الملامح التاريخية التي ساهمت في تكوين مفهوم الثقافة، ومن أين جاءت كلمة الثقافة، ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟ وكيف تبلور هذا المفهوم وتطور وتحدد في الثقافة الأوروبية؟ وخلص بن نبي إلى أن فكرة الثقافة، هي فكرة حديثة جاءتنا من أوروبا، والكلمة التي أطلقت عليها هي نفسها صورة حقيقية للعبقرية الأوروبية.
والتحليل التاريخي الذي قدّمه بن نبي في هذا المجال لعله كان مهماً ولافتاً بعض الشيء في وقته، وبالذات على مستوى الكتابات والأدبيات العربية والإسلامية التي لم تكن لامعة، ولم تشهد تجديداً وتراكماً مبكراً ومهماً في هذا الشأن. أما اليوم فإن صورة ذلك التحليل التاريخي قد تغيرت من حيث أهميته وقيمته، وبات يظهر لنا وكأنه شديد العمومية والاختزال، ولا يقدم تحليلاً كاملاً ومستفيضاً، ولا حتى معمقاً في حفرياته المعرفية والتاريخية.
وأساساً لم يكن التحليل التاريخي هو الجانب المهم في حديث بن نبي عن التحليل النفسي للثقافة، الذي كان مجرد مدخل تمهيدي لتأكيد حقيقة جوهرية عند بن نبي، وهي أن كل مجتمع بحاجة إلى تكوين فهم مستقل وخاص به لطبيعة مشكلته الثقافية، أو فكرته عن الثقافة بصورة عامة، وذلك بحسب مرحلته التاريخية. فالمشكلة الثقافية في رؤية بن نبي لها نوعيتها وطبيعتها في كل مجتمع بالشكل الذي يمنع استيراد الحلول من مجتمع آخر له مرحلته التاريخية المختلفة، وليس مبنى هذه الملاحظة كما يقول بن نبي قائماً على اعتبارات دينية أو سياسية، بل هي قائمة على اعتبارات فنية خالصة(2). ولهذا يقرر بن نبي أن من المخاطرة اقتباس حلٍّ أمريكي أو حلٍّ ماركسي كيما نطبقه على أية مشكلة تواجهنا في العالم العربي والإسلامي؛ لأننا هنا أمام مجتمعات تختلف أعمارها، أو تختلف اتجاهاتها وأهدافها(3).
وهذه الفكرة هي من أكثر الأفكار رسوخاً عند بن نبي، حيث ظل يؤكد عليها باستمرار في معظم مؤلفاته وكتاباته ومحاضراته. وبقدر ما كانت راسخه لديه حاول ترسيخها في ثقافة الجيل المعاصر له، وأراد أن يحولها إلى قناعة ثابتة تساهم في بلورة منهجية التعامل مع الفكر الأوروبي. ولشدّة رسوخ هذه الفكرة عند بن نبي أصبحت من ملامح التميز في خطابه الفكري. وهو الخطاب الذي تحصن من إشكالية الاستلاب والتغريب والتماهي بالفكر الأوروبي مع شدّة تواصل بن نبي مع منابعه وفلسفاته ومذاهبه الفكرية والاجتماعية، وذلك في عصر كانت للفكر الأوروبي قوة السطوة والهيمنة التي أثرت على جيل المفكرين في عصره كلطفي السيد، وطه حسين، وساطع الحصري، وعبدالرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود وغيرهم الذين اعتنقوا مذاهب وفلسفات الفكر الأوروبي ونسبوا أنفسهم إليها، وعرفوا بها. وقد عبر بعضهم عن قوة هذه الرهبة والاستسلام والخضوع لها، كدعوة فرح أنطون في مفتتح كتابه «ابن رشد وفلسفته» إلى مجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعاً وجعلهم مسخرين لغيرهم. لذلك فإن التخلص من هذه الرهبة والسطوة كان بحاجة إلى شجاعة فكرية، وثقة عالية بالذات، وانتماء عميق للثقافة الإسلامية، وإيمان بتجديد الحضارة الإسلامية من داخل ثقافتها وعقيدتها.
وتميز خطاب بن نبي بهذه الصفة، هو الذي قرّب إليه المثقفين والنخب الدينية، وجعله مؤثراً في التكوينات الفكرية لهؤلاء، ومصدر إلهام لهم في التمسك بالهوية الإسلامية، وإظهار التميز الثقافي.
وحديث بن نبي عن التحليل النفسي للثقافة كان بقصد تعميق التمايز الثقافي، وقد أوضح عمر مسقاوي كيف أن تداول بعض الأفكار حول الثقافة عند بعض الطلبة الذين تلقوها في محاضرات جامعية نقلاً عن اثنين من المفكرين الأمريكيين هما وليام أوجبرن ورالف لنتون كان من دوافع اهتمام بن نبي بتخصيص كتاب حول الثقافة. إلى جانب ما وقع في يده من كتاب كان رائجاً ذلك الحين، وهو كتاب «دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع» للماركسي كونستانتينوف. ويعقب مسقاوي على ذلك بقوله: «فقد جاءت أفكار بن نبي حول مفهوم الثقافة برؤية جديدة، لم تألفها المصطلحات المستوردة التي تمت صياغتها في إطار الفكر الليبرالي، أو في إطار الفكر الاشتراكي التقديم»(4).
ولهذا اعتنى بن نبي كثيراً بمناقشة أفكار وتصورات هؤلاء حول الثقافة وتعريفها، وحدّد مجالات التوافق والاختلاف معها، على أساس فني وتقني من جهة، وثقافي وتاريخي من جهة أخرى. فني وتقني يرتبط بتفاوت مستويات التطور والتقدم المدني والحضاري العام، وثقافي وتاريخي يرتبط بتمايز المكونات الثقافية والتاريخية.
وبعد أن يشرح بن نبي ما قدّمه أولئك من تعريفات للثقافة، وطبيعة السياقات الفكرية والاجتماعية التي اتصلت وتأثرت بها، يعلّق على ذلك بقوله: «لاشك أن فيما عرضناه من آراء مختلفة إشارات ثمينة، لكن هذه الإشارات على الرغم من أنها لا تقدر بثمن، ليست في الحقيقة حلاًّ لمشكلتنا. فإن للمشكلات الاجتماعية نوعيتها التاريخية. وهذا يعني أن ما يصلح لمجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه، قد تنعدم فائدته تماماً بالنسبة له في مرحلة أخرى»(5).
هذا من حيث المنهج والموقف العام، أما من حيث المعرفة وتحديد الموقف أو الرؤية تجاه الثقافة، ومحاولة الإجابة على سؤال: ما هي الثقافة؟ حتى في هذا الجانب كان منطق التفكير عند بن نبي يتحدد على قاعدة التمايز والاستقلال الثقافي، فهو لا في التعريفات المطروحة للثقافة سواء منها ما عبر عن وجهة النظر الغربية أو الماركسية ما يدعو إلى الاعتراض، وليس نقصها راجعاً إلى خطأ فيها، وإنما لأن مضمونها -كما يقول بن نبي- لا يمكن أن يعطينا مفتاح حل المشكلة في الظروف النفسية والزمنية للمجتمعات العربية والإسلامية. على الرغم من أن تلك التعريفات حسبما يرى بن نبي أنها مكتملة في فكر أصحابها بواسطة عنصر ضمني تقدمه الحضارة الغربية في جانب، والأيديولوجية الماركسية في جانب آخر. فتعريف لنتون -الذي يرى الثقافة على أنها مجموعة من الأفكار- سليم في نظر بن نبي لكنه ناقص من نواح عديدة. وتعريف أوجبرن الذي يرى الثقافة على أنها جملة من الأشياء والأفكار هو الآخر سليم أيضاً، لكنه ناقص من نواح أخرى. وهكذا التعاريف الماركسية للثقافة التي تذهب إلى أنها انعكاس للمجتمع، فهي سليمة أيضاً دون أن تكون أكثر إقناعاً في وطن تقتضي المشكلة فيه حلاًّ أساسياً. أي حيث لا تكون المشكلة مشكلة فهم وتفسير لواقع اجتماعي معين، بقدر ما هي مشكلة خلق لهذا الواقع الاجتماعي.
وما يريد بن نبي التوصل إليه هو أننا لا يمكن أن نتصور تعريفاً للثقافة يتحدد من زاوية نظرية فحسب، بل لابد أن يضاف إليه البعد العملي أو التربوي. وعليه كما يقول بن نبي فلو افترضنا أن تعريفاً معيناً توفر له شروط الصحة، ولكنه في ذاته مقتصر على الجانب النظري، لم يكن في رأينا كافياً لبلد لا تساعد ظروفه العامة على تكملة مضمونه بطريقة ضمنية. فعندما يضع أمريكي مشكلة الثقافة في إطار نظري، فإن مضمون الثقافة الأمريكية محدد من قبل بحكم الظروف العامة الناتجة عن الحضارة الغربية. وعندما يذهب ماركسي المذهب نفسه في تعريفها، فإن مضمون الثقافة التي يعرفها مكمل ضمناً بفضل الأيديولوجية الماركسية. أما عندما يُراد تعريف الثقافة تعريفاً نظرياً في مجتمع ليس فيه ما يكمل هذا التعريف ضمناً، سواء بما توفر لديه من تراث تاريخي أو أيديولوجي، فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً. وبذلك -وهذه هي النتيجة التي يخلص إليها بن نبي- نجد أنفسنا منساقين مع طبيعة المشكلة الخاصة بالبلاد العربية والإسلامية إلى تطبيق منهج آخر، هو المنهج الذي يستخدم في تعريف الشيء المعقد.
وهذا الشيء المعقد يقصد به بن نبي أننا أمام تعريف الثقافة نجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننظر للمشكلة في ثلاثة اتجاهات، حتى يتسنى لنا -كما يرى- ضمَّ عناصرها النفسية وعناصرها الاجتماعية، وتقرير العلاقة بين هذه العناصر في إطار صياغة تربوية تجعل من تعريف الثقافة قابلاً للتنفيذ.
والخلاصة أن بن نبي الذي افتتح حديثه عن الثقافة ووجد أن هذه الكلمة لم تكتسب قوة التحديد في اللغة العربية، كالذي هو موجود في الثقافة الأوروبية، وأننا مضطرون من أجل هذا حسب قوله لأن نقرنها بكلمة الثقافة بالمعنى الأوروبي. كان من السهولة لمثل هذه النتيجة أن تقود بن نبي إلى الخضوع للثقافة الأوروبية والاستسلام لها، وتدفع به نحو التغريب والاستلاب كما دفعت بالكثيرين قبله وبعده. وهذا الذي لم يحصل مع بن نبي فقد ظل يقاوم التغريب والاستلاب والاستسلام للثقافة الأوروبية، وبذل جهداً في سبيل تعزيز التمايز والاستقلال الثقافي. وكان يكافح من أجل أن نستقل في فهمنا للثقافة، وتحليلنا لمشكلة الثقافة، وهذا هو الغرض من حديثه عن التحليل النفسي للثقافة.
وما يؤكد قيمة هذا الاهتمام بالتمايز الثقافي عند بن نبي، هو أنه لا ينطلق من خلفية القطيعة والانقطاع الكلي والتام مع الثقافات والفلسفات الأوروبية، كما أنه لا يتشكل على خلفيات ساذجة أو ضحلة من حيث التكوينات المعرفية والمنهجية.
الهوامش:
?(1) انظر كتاب: مشكلة الثقافة. مالك بن نبي، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2000م، ص11.
(2) المصدر نفسه. ص139.
(3) المصدر نفسه. ص37.
(4) المصدر نفسه. ص8.
(5) المصدر نفسه. ص36.