إن تصوراتنا عن العرق والأمة والجنس –أسوة بمفاهيم مقابلة لها-ماهي إلا أطر ورثناها عن فترة المماليك والإمبراطوريات. فمفاهيم مثل العبد والسيد مثلاً هي أطر ثقافية وفكرية ومجتمعية واقتصادية سادت في فترة ما من التاريخ، تاريخ معظم الجماعات البشرية شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً.
وإذا كانت هذه الأطر موروثة فلابد وأنها محل نقد، وإذا ما تم تخليص بعض المفاهيم من القيم الشائنة التي سادت طويلاً فإن مفاهيم أخرى لم تزل تثير الجدل بسبب ماضيها المثقل ومنها مفهوم العرق حيث لم يزل السؤال يطرح حول الذاتية الفردية من أنا؟ وماذا أنا؟ ولماذا أنا؟.
وهنا لابد لنا من اللجوء إلى الاستعارة خصوصاً عندما نستخدم تصنيفات عرقية ونناقش مسائل وشؤون عامة مثل العمال والسكن والتعليم والثقافة الخ…. وهنا أيضاً لابد لنا من أن نربط تاريخ العرق race بالماضي الكولونيالي المتشابك مع العلاقات البشرية فيما بينها، حيث بدأ يتشكل خطاب عرقي حين ألحت الضرورة الاقتصادية على ذلك. ففي القرن الثاني عشر كان البريطانيون ينظرون إلى الإيرلنديين على أنهم متوحشون وقبل ذلك تم استعباد الأفارقة بدءاً من القرن الثامن عشر.
فبحسب النزعة العرقية وجود العبيد هو سبب وجود الآخر “السيد”. فالمستعمر يرى البلد المستعمر (بفتح الميم) بلداً عاجزاً عن حكم نفسه بنفسه. ولم يقتصر الأمر عند ذلك بل تعداه إلى إسقاط صفات أخلاقية وجسدية دونية على الآخر الذي تمت “عرقنته”. ولكن ما الذي دعا العلماء والفلاسفة إلى المجادلة بشأن ما إذا كان العبد ينتمي إلى النوع نفسه الذي ينتمي إليه السيد المتفوق.
لقد استخدم مفهوم “العرق” –وهو مصطلح بيولوجي- في النقاشات العامة لتوصيف جماعة من البشر، تنبني روابطهم البينية على عوامل أخرى غير العلاقات الوراثية. فالتقسيم إلى فئات “العرق الإنكليزي” و”العرق اليهودي” و”العرق الإفريقي” و”العرق الفرنسي” على سبيل المثال، تبدو غير صحيحة هنا. إذ تنطوي على أن اللغة المشتركة والدين والإقامة في نفس البقعة الجغرافية والمواطنة في دولة واحدة، تخلق روابط عرقية، لكن البشر يطورون تشابهات وراثية بين بعضهم البعض ويكرسون الاختلافات عن الشعوب الأخرى بغية تأسيس عرق منفصل، وذلك عندما تفصل الحواجز التي استمرت لآلاف من السنين إحدى الجماعات عن الجماعات الأخرى.. لقد هاجر البشر عبر العالم لآلاف السنين وكانوا ينزرعون في كل شبر في بيئاتهم الجديدة، وعندما تمت الهجرات تم الاختلاط البيولوجي.
لم تمنع الفروق الجسدية ولا التحريمات الدينية والقومية الاتصال مع الغرباء – أي اختلاط الأجناس. فقد موهت العوامل البيئية والاختلاط المتداخل، الحدود بين الأجناس. وتظهر مئات الدراسات أن الخصائص الجسدية التي تميز عرقاً من عرق آخر، ليست لها معايير بيولوجية ثابتة. كما أنه ليس هناك من تقسيم حاسم للأنواع البشرية إلى أجناس، ذلك أن انتخاب الخصائص المميزة ومستويات الاختلاف عملية اعتباطية بحد ذاتها. ولذلك السبب أثبتت مقولة العرق race- كأداة لتعقب الارتقاء البشري والهجرة –عدم جدواها الآن. وعليه فقد نبذ علماء الأنثروبولوجيا هذه الفكرة برمتها. أما العلماء الذين استمروا في الإشارة إلى الأجناس البشرية فإنما يفعلون ذلك للتمييز بين التقسيمات الأساسية بين البشر. وخلافاً للمقولات الشائعة حول معنى العرق، والذي يخلط بين البيولوجيا والثقافة، يبقى الاستخدام العلمي له محدداً على الصعيد البيولوجي.
لقد سيطرت الدراسات العرقية فيما مضى على حقل الأنثروبولوجيا. لكن العديد من الأنثروبولوجيين كفوا عن تصنيف البشر على صعيد عرقي. وفي الوقت نفسه روج العديد من الكتاب لفكرة التفوق العرقي ونقلوا الانطباع عن علماء الأنتربولوجيا بأنهم يصادقون على أن تنسب الصفات السايكولوجية إلى الأجناس. لكنهم تجاهلوا حقيقة أن التصنيفات العلمية قد بنيت أساساً على الفروق في الخصائص المادية. كما أنهم ربطوا “رقعاً” إلى الأجناس أسيء تقديمها. فقد تم تقديم هذه الأجناس على أنها مصطلحات عرقية صالحة. “فالآري” –وهو مصطلح لغوي وليس بيولوجي- هو صاحب الصيت الأسوأ، إذ ميز هتلر بين الآريين وغير الآريين على أساس سجلات وراثية. وتبعاً للدعاية النازية فإن الأجناس الأخرى من غير الآريين كان يتم تحديدها بخصائص سايكولوجية وجسدية لصيقة بها.
إن سوء استخدام مصطلح العرق لتبرير سياسات تحسين النسل وذبح ملايين البشر، عبأ العلماء للهجوم على مفهوم العرق بحد ذاته. وكان في طليعة هؤلاء الأنتربولوجي آشلي مونتاغيو. فقد أوصى مونتاغيو بالاستبدال بمفهوم العرق race مفهوم “الجماعة الإثنية” Ethnic group . ونصح بأن هذا المفهوم الجديد سيفتح المجال لإعادة التثقيف فيما يتعلق بطبيعة الفروق الجماعية مع إعادة تصحيح المواقف العرقية1.
كما أصدرت مجموعة من علماء الاجتماع في عام 1952 كتاباً عن منظمة اليونسكو بعنوان The Statement on Race وقد استفاد هذا الكتاب من توصيات مونتاغيو في وجوب إسقاط مصطلح عرق “والاستبدال به مصطلح “جماعة إثنية” وهو مصطلح يميز الجماعات بعضها عن بعضها على الصعيد الجسدي. لقد أشار “الكتاب” إلى أن “العرق” كمصطلح بيولوجي يعطي انطباعاً بأن الفروق في الخصائص الثقافية شأن الدين والقومية واللغة والسلوك، هي فروق فطرية وغير قابلة للتغيير. أما مصطلح “الجماعة الإثنية” فيتضمن أن هذه الفروق ليست موروثة بل مكتسبة. وتم اعتماد مصطلح “الجماعة الإثنية” كمصطلح ملائم للتعبير عما يعنيه البشر عندما يتحدثون عن العرق. فبرأيهم سوف لن تتحقق الجهود المبذولة لإبطال استخدام مصطلح العرق، إلا إذا امتنع البشر عن تعريف الشعوب بالمصطلحات البيولوجية.
لكن مشكلة أخرى تظهر هنا في هذا السياق. تتعلق هذه المشكلة بتلك الجهود العقلانية التي تسعى لإحداث تغييرات في المفردة(العرق) كوسيلة لوضع حد للأذية والتمييز الناجمين عنها. وتبقى من المغالطات الجسيمة أن نقول إن الصفات (الدونية) التي تضفيها جماعة على جماعة أخرى، تتأصل في جبلة البشر. وهنا يتم تعبئة البشر بالنزعة العنصرية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ويصبح من السهل التركيز على الفروق على أنها صفات أزلية. إن النزعة العرقية تزدهر سواء زعم الشعب المضطهد (بكسر الهاء) باختلافه عن ضحاياه أو لم يزعم. لكن ولسوء الحظ لم تنجح الجهود المبذولة لتصحيح المفاهيم الجماهيرية حول العرق في التخفيف من المواقف العرقية ولا استطاعت أن توضح المعاني الحقة للعرق والتمييز العنصري. فالكثير من التشويش المرافق لمعاني “التمييز العرقي” ينبع أساساً من تضارب الآراء المتعلقة بتحديد مفهوم “العرق”. على الرغم من أن الأنثروبولوجيين يشيرون إلى العرق، فهم يقصرون هذه الإشارة على تنوع الاختلافات البشرية الأساسية.
وإذا ما سلم المرء بأن هناك العديد من الأعراق ضمن كل تقسيم من التقسيمات الأساسية للبشرية، عندئذٍ يمكن أن نلبس الممارسات التمييزية للبيض ضد السود والسود ضد السود، قبعة النزعة العنصرية. ولكن ماذا إذا كان هناك فقط ثلاثة أجناس بشرية رئيسية؟.. عندما يبدأ السود والبيض والآسيويون التمييز ضد بعضهم البعض، نستطيع القول بوجود تطبيق محكم للنزعة العنصرية. أما إذا كانت الجناس غير موجودة، فذلك يستتبع أن النزعة العرقية غير موجودة أيضاً. دون اتفاق وإجماع بين الأنثروبولوجيين والمعنيين بمسألة الأجناس، يصبح تحديد النزعة العنصرية غير دقيق. لقد تطور وكما أسلفنا مفهوم هذه النزعة من النموذج النازي متخذاً ثلاث مقدمات: الأولى الإعلان عن أن الأغلبية من الشعب تتميز عن الأقلية. والثانية عملية عقلنة للتمييز العنصري تتأسس على نظريات التفوق العرقي. أما الثالثة فتبني مقولتها على تحريم الزواج المختلط الذي يفسد الطهارة العرقية للجماعة العرقية المتفوقة المزعومة. لكن هذه الملامح لا تحتاج لأن تظهر في سياسة التمييز العنصري. إن تضمين هذه الملامح في مفاهيم متعلقة بالعنصرية تهيء السبل لإخفاء الممارسات العنصرية. وليس هناك اليوم من يبرر اضطهاد أغلبية لأقلية ما. فاللجوء إلى مقولات الدونية الوراثية أو مخاطر الزواج المختلط، إنما يؤكد تطابق هذه المزاعم مع النموذج النازي. فقد كانت محاولات نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقية تهدف إلى تبرير قوانين الأبارتيد Apartheid بالقول إن نظام الفصل هذا يساهم في تطوير أفضل للسود والبيض على السواء. تم رفع شعار “أفصل لكن أعدل وفي الولايات المتحدة الأميركية تم ولوقت طويل تجنب اندماج الطلاب السوء والبيض في قاعات الدراسة. وحتى 1970 استبعد اليهود الأثيوبيون من حق الهجرة إلى “إسرائيل” بدعوى أن يهوديتهم غير أصيلة. كما تم تفعيل قوانين الهجرة البريطانية ضد الآسيويين والعرب. فبعض السياسيين هناك يقولون بعجز “هؤلاء “عن التكيف مع الحضارة الجديدة. وبسبب اقتران التمييز العرقي بالإبادة النازية فإن تهمة التمييز العنصري تم تحريفها بالتظاهر بالدوافع الخيرة للتمييز العنصري.
هل العنصرية ظاهرة أزلية منذ فجر التاريخ؟
أم هي مجرد ظاهرة طارئة حديثة؟
إذا كنا من القائلين بوجهة النظر الأولى فإن ذلك يعني أن العنصرية مرت بمراحل تاريخية عديدة طورت عبرها أساليبها وأشكالها تبعاً للظرف التاريخي الراهن كما أن ذلك يوحي بأن الطبيعة البشرية هي وفي صلبها طبيعة عدائية آثمة، غذت وتغذي مشاعر العداء تجاه الآخر. أما إذا كنا من المناصرين لوجهة النظر الأخرى عندها يجب التسليم بأن العنصرية ظاهرة حداثوية خلقتها الاكتشافات العلمية والفتوحات الجغرافية التي مهدت الطريق إلى الدولة الحديثة وبالتالي إلى الدولة الكولونيالية التي أسست لفكرة انغلاق المركزية الأوربية على ذاتها، “فيما بعد المركزية الأمريكية”، ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولاً إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين حيث بلغت ذروتها في النازية التي اعتبرت آخر قلاعها الحصينة. لكن وبعد أن وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها وبدأت بعض الدول القومية في استعادة استقلالها بزغت بوادر عنصرية جديدة في الشكل والمضمون اعتمدت الأشكال التقليدية القائمة آنذاك (الأبارتيد في جنوب أفريقية)، واضطهاد الزنوج قريب العهد في الولايات المتحدة) مع تلوينات حداثية –مضمون واحد بأشكال متعددة مثل عنصرية الحركة الصهيونية التي تمارس على العرب.
1-انظر مونتاغيو، Man’s Most Dangerous Myth : The Fallacy of race (New York: Colombia University Press, 1946.