بقلم : د. رامي ناصر
مرة أخرى نعود بالكلام إلى تراثنا وموروثنا الشعبي وأهمية دراسته ، والوعي بالخطوات الآيلة للمحافظة عليه من خلال فهمه ، تثميره وتفعيله .
قد يبادر البعض إلى السؤال عن مدى أهمية الحفاظ على التراث اليوم والجدوى أو الفائدة من تداول هذا الموضوع بإعتبار أنه من مخلفات ثقافة الماضي ، في عصر التقانة والميديا والثقافة المعولمة .
إن التراث ليس من مخلفات ثقافة الماضي كما يتوهم الكثيرون . إنه إستمرار الماضي في الحاضر ، من حيث الدين ، اللغة ، الأدب ، العادات ، التقاليد ، الأعراف ، القيم ، الأغاني ، الأمثال ، الحكايات ، الأساطير ، والحرف .
إذا فهو يشكل بنياناً موضوعياً ناشئاً عن ظروف إجتماعية ، إقتصادية ، ثقافية ، سياسية ، وتاريخية ويعبر بكليّته عن ماهية ذاتيّة لشخصية الشعب أي هويته الثقافية .
من هنا ضرورة صياغة معرفة علمية بالتراث من خلال قراءته قراءة تركيبية ، تقوم على الجمع والتصنيف والأرشفة ، تليها مرحلة البحث وتحليل المعطيات التراثية . نبتغي من هذه القراءة ليس مجرد الحفاظ على التراث بالإقتصار على عمليات جمعه وتسجيله كمجرد تركة نقوم بصياغتها وجردها متحفيّا . المقصود بذلك ألا نعيد نسخ وإنتاج المفردات التراثية بشكل تقليدي ، تبقي على الشكل دون المضون . وذلك بتأسيس علاقة إبداعية مع التراث قائمة على فعل تحرر وتحرير من الأشكال الجامدة ، تعطي الباحث إستقلالاً ذاتياً يفتح الباب أمامه لإمكانية دراسة التراث وإستلهام دلالاته .
إن تأسيس تلك المعرفة يشترط الأمور التالية :
- عدم إعتباره عائقا أمام التقدم ووصفه بالجمود والتخلف .
- عدم وصف مضمونه بالبدع والخرافات وذلك بقصد تحريمه .
- عدم تقييده في إطار محلي أو طائفي وإعتباره عامل إنفصال إجتماعي وثقافي ونزع عنه صفة التنوع والتعددية الثقافية .
- عدم توظيفه تبريرا أو خدمة لمواقف سياسية تفقده مضمونه وأهدافه وأدواره .
- عدم إستبدال تجليات التراث المعاشة بتصورات أخرى تسقط عليه تؤدي إلى تشويه مضمونه الثقافي والرمزي وذلك بإعطائه ترميزات حداثية وعناصر دخيلة تخضعه لعملية إعادة طلاء تحوله إلى مقتنى متحفي صرف .
- عدم تسويق المادة التراثية كبضاعة دون أي إعتبار لقيمتها الرمزية ، بقصد إرضاء رغبة وذوق السائح بإخضاع مفردات التراث إلى التذويق .
- عدم إختزال المضمون التراثي إلى عوالم مصغرة تؤدي إلى مسخه على حساب الوظيفة الإجتماعية الأصلية .
- عدم جواز دراسته بعيدا عن مكان وزمان والبيئة التي تشكلت فيها عناصره ، هذا ما يعكس عمق الإنفصام بين المادة التراثية وبين دارسيها .
ويتطلب النجاح تضافر الجهود على كافة المستويات :
1) المنزل : إعادة إحياء العلاقة التفاعلية مع كبار السن ، نظرا لأهميتها في فهم تكون الشخصية الثقافية ، فالتلفزيون كوسيط ثقافي مثلاً يجعل المشاهد مجرد متلقي دون أي علاقة تفاعل . وهذا يؤكد مدى أهمية فهم المادة التراثية كمقدمة لفهم الذات وضرورتها لبنائها .
2) المدرسة :
– إدخال المادة التراثية في النشاطات اللاصفيّة كالحكايات والأغاني الشعبية والمسرح الشعبي مع شرح وتفسير مضمونها الثقافي الرمزي والتربوي ، والهدف بناء علاقة تفاعلية بين الطالب وتراثه ، لا جعله مجرد سامع ومشاهد ومتلقي وذلك من خلال المناقشة والتعليقات وإبداء الرأي .
– السعي إلى إكتشاف المواهب والإبداعات ، دعمها ، تثميرها وتوفير شروط نجاحها وإستمرارها .
– تخصيص زيارات ميدانية تتيح للطالب المشاركة والمساهمة في الحفاظ على المادة التراثية .
3) الجامعة :
– الإهتمام بالفروع التي تدرس التراث بكافة مناحيه كالآداب والفنون والآثار والتاريخ والأنثروبولوجيا وغيرها من الفروع وتدريب الباحثين على الملاحظة ، التدوين ، تحليل السلوك والمعطيات الميدانية ، ليتمكنوا من بحث وفهم الإفتراضات الثقافية (قيم ، عادات ، تقاليد ، معتقدات …) .
-التركيز على المقاربة النسبية للمادة التراثية ، فلا وجود لثقافة أدنى أو أرقى ، فلا نحكم على قيم الآخر إنطلاقاً من قيمنا ومعاييرنا الثقافية .
– إعتماد وتفعيل تجربة “المختبرات البحثية للمادة التراثية” نظراً لأهمية هذه التجربة في المحافظة على المادة التراثية ، تحليلها ، فهمها ، وجعلها مادة حية بمتناول الباحثين والدارسين والمهتمين .
4) العمل (الإنتاج) :
تحول العمل الحرفي التراثي من قيمة إبداعية تلبي حاجات وضرورات المجتمع بالإعتماد على ما توفره البيئة من مواد ووسائل ، إلى مجرد إنتاج ربحي دون أي إمكانات إبداعية في ظل إنعدام التعاون والتشارك بين الحرفيين .
من هنا ضرورة طرح الاسئلة التالية: ماذا ننتج ؟ كيف ننتج ؟ لماذا ننتج ؟ على سبيل المثال لا الحصر . ففي طفرة العودة إلى التراث ، نلاحظ أن الهدف مادي بحت وبتقنيات حديثة تجعل الإنتاج قريباً من التصنيع دون أي إعتبار للمضمون الرمزي والثقافي والإجتماعي لهذا الموضوع .
5) الحيز العام أو المجتمع :
شكلت الأعياد الدينية والمحلّية والأغاني الجماعية والعمل الجمعي ومهرجانات الأسواق مناسبات لتطاهرات ثقافية ، فالحكواتي وراوي السيرة والمقلداتي والأراجوز والمثل الشعبي والحرف التقليدية كانت حافلة بالقيم التي تعبر عن ضمير ووجدان الجماعة الشعبية . كل هذه القيم فقدناها اليوم في عصر التهميش والإستبعاد والإستهلاك والثقافة المستوردة .
في الختام نطرح السؤال هل لاتزال لدينا إمكانية لرصد وتحليل وفهم قيم تراثنا في ظل حضارة عالمية طاغية تبغي السيطرة على مقدرات الشعوب وإلغاء هويتها الحضارية وإبداعها الذاتي ؟
ونستلهم الجواب من شاعر شعبي مصري قوله :
لا كل من لف العمامة يزينها
ولا كل من هرّج يصيغ كلام
كاتب المقال : د. رامي ناصر : باحث أنثروبولوجي من لبنان ، خبير في دراسة الواقع وإعداد خطط التنمية الإستراتيجية ، مسؤول فريق إعداد الخطط في وكالة التخطيط والتنمية – البقاع (لبنان) ، مشارك ومعد لأكثر من ورقة بحثية في الأنثروبولوجيا الثقافية وفي التاريخ الريفي ، مهتم بمواضيع التراث الشعبي والتراث الثقافي اللامادي .
للإستزادة أنظر :
1. عن الثقافة في موجهة التهميش ، مقالة لزياد ماجد ، جريدة السفير اللبنانية ، بيروت ، تاريخ 24/شباط/1998 .
2. التراث الشعبي وسؤال الحاضر ، محمد حافظ دياب ، المجلة العربية للثقافة ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، تونس ، السنة 18 ، العدد 36 ، مارس/سبتمبر/1999 . (عدد خاص حول : المأثور الشعبي في الوطن العربي) .
3. إشكاليّة التراث والمعاصرة ، مقالة لطارق زيادة ، مجلة الأزمنة ، إنترسبيس للنشر ، قبرص ، المجلد الثاني ، العدد 9 ، مارس/إبريل/1988 .