إبراهيم مناد
جامعة مستغانم
إن حركة الاستشراق قديمة جدا، إذ إن قيامها يعود إلى 1245 م حين تقرر تدريس اللغات الشرقية من طرف مجمع الكنيسة بفيينا، وهذا لا يعني أنها وصلت إلى رقيها، بل كان بدؤها الفعلي في أواخر القرن التاسع عشر على إثر الاستعمار الذي حل بالبلاد العربية والإسلامية عامة، وبذلك فتح العديد من المؤسسات والمراكز والمعاهد لدراسة اللغات والثقافات والعادات الشرقية بأصنافها المختلفة، ليتمخض عنها انعقاد أول مؤتمر استشراقي بباريس عام 1873 م(1).
والاستشراق في حقيقته الأولى كان ذا اتجاه ديني من أجل محاربة العقيدة الإسلامية، إلا أن عظمة هذا الدين وحضارته الراقية العريقة جعلت من بعض مفكري أوربا وعلمائها – خاصة فيما يتعلق بالأندلس وصقلية – يدعون للنهل من هذه الحضارة، فنتج عن ذلك رحلات عديدة من القاصدين لطلب الحصول على هذه الثقافة.
وكل هذا كان وراءه أهداف جليلة لا يحق لنا إغفالها في هذا المقام والمقال على حد سواء، ومن بينها: القيام بدراسات عن الحضارات القديمة في بلاد الشرق، وهي دراسات أنثروبولوجية ومقارنة عمت جميع ما يتصل بالفرد العربي والإسلامي، إلى جانب محاولة الحصول – ما أمكن – على المخطوطات العربية التي يمكن أن تحوي معارف خاصة، وبالتالي تُمَكَّن من استغلالها والاستفادة منها، وذلك ما تأتى لهم؛ إذ نسمع عن كم هائل من المخطوطات في مختلف مجالات المعرفة هي حبيسة للعديد من المكتبات العالمية، أضف إلى ذلك نشر العديد من الكتب التراثية الذي سنمثل له فيما بعد، ثم بعد ذلك تنظيم مؤتمرات عالمية خاصة عن الاستشراق ونتائجه وإعادة بعثه من جديد حتى يحيط بجميع القضايا التي تخص العالم الشرقي.
وحري بنا أن نشير ههنا إلى بعض الأهداف الأخرى منها ما يتعلق بالجانب الديني والسياسي والاقتصادي كـ: دعم الاستعمار الأوربي والغربي عامة من أجل استنزاف الثروات والخيرات التي تمتلكها هذه الشعوب، وكذا التوسيع من الحركة التجارية بين القطبين الشرقي والغربي، ولا ننسى أيضا الحركة التنصيرية المتمثل في التبشير بالمسيحية لسلخ المقومات العقائدية الإسلامية الراسخة في أذهان الأفراد وقلوبهم، إلى جانب النظرة العنصرية المتمثلة في الإحساس بالتفوق الحضاري للغربيين، والسعي بكل جد إلى التعبير عن انحطاط السلالة الشرقية، وغضّ الطرف عما أنتجته الحضارة العربية الإسلامية من إنجازات خاصة العلمية والفكرية منها.
وفي أثناء هذه الفترة المبكرة من الاستشراق كان هناك اتجاهان مختلفان(2) فيما يتعلق بالأهداف والمواقف إزاء الإسلام وحضارته: كان الأول اتجاها لاهوتيا متطرفا في جدله العقيم، ناظرا إلى الإسلام من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأساطير الشعبية، في حين يمكن أن نقول عن الثاني أنه كان أقرب إلى الموضوعية مقارنة بسابقه، ويتجلى ذلك في نظرته إلى الإسلام بوصفه مهد العلوم الطبيعية والطب والفلسفة.
ويرى بعض الدارسين المحدثين أن اتساع رقعة الدولة العثمانية وروابطها الاقتصادية والسياسية الممتدة مع مجموعة كبيرة من الدول الأوربية والغربية، كان عاملا كبيرا في دفع حركة الدراسات الاستشراقية آنذاك مع كل ما حملته هذه الحركة من آثار إيجابية أو سلبية، ليتواصل الاهتمام بلغات العالم الإسلامي والعربي ولهجاته، وحتى الرهبان كانوا من المهتمين بدراسة اللغة العربية، ليعينوا أقوامهم على الشعوب العربية والإسلامية ليتمكنوا منهم في جميع مجالات الحياة الدينية، والفكرية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى النفسية.
والذي لم يدع الاستشراق يثمر نظراتٍ موضوعيةً، هو ارتباطه بالكنيسة ورجال الدين، ولم يتأتى ذلك إلا منذ نهاية القرن السابع عشر، حين مالت بعض الدراسات إلى الموضوعية والعلمية المحايدة للإسلام لا الطاعنة فيه، حتى إن كتاب “الديانة المحمدية” للمستشرق الهولندي “هادريان ريلاند” أدرجته الكنيسة الكاثوليكية في قائمة الكتب المحرمة، ويمنع منعا باتا تداوله لما فيه من الموضوعية والصحة، وذلك خوفا من دخول أفراد كثيرين في الإسلام. وهذه الصفة العلمية للاستشراق كانت نتيجة انفصام الهوة بينه وبين الكنيسة، وخاصة في القرن التاسع عشر.
ويرى أحد الباحثين(3) أنه إذا كان الاستشراق قد مثّل في رأيه الخطوة الأولى نحو توجه الغرب إلى رؤوس العرب والمسلمين، – وهي الخطوة الأولى التي مهدت إلى ما نواجهه الآن من غزو ثقافي – فإنه يجب التأكيد على نقطتين أساسيتين هما: – إن بعض من أتيح لهم من أبناء العرب والمسلمين أن يكونوا في الصف الأول من الساحة الفكرية والثقافية، تقع عليهم مسؤولية كبيرة في تشويه جوانب كثيرة من الفكر والثقافة الإسلامية – وذلك بحكم تتلمذهم غير المباشر- على أيدي المستشرقين وتأثرهم بكتاباتهم والأمثلة على ذلك كثيرة. – لا يمكن الجزم بأن كل الفكر الاستشراقي كان سلبيا، فقد قام بعضهم – وهم قلة – بإسهامات جليلة في التعريف بالدين الإسلامي والمسلمين مما كان له أكبر الأثر في عالمية الدعوة بين مختلف شعوب الأرض. ولكن ما يدعو للأسف أن بعض المستشرقين قد استغل الوضع لخدمة أهداف الغرب وإيديولوجيته تحت شعار “الاستشراق”.
أشهر المستشرقين في شتى الميادين ومؤلفاتهم ومظاهر تأثرهم: مما لا شك فيه، أي احتكاك بين ثقافتين أو أمتين سيؤدي حتما إلى تأثير وتأثر، وتتفاوت فيه درجات ذلك من واحد إلى آخر. فكذلك شأن المستشرقين الوافدين لدراسة الآداب الشرقية، رغم تحرّزهم مما يتصل بهذه الأمة العربية والإسلامية خاصة من حيث جوانبها الدينية والفكرية والثقافية.
فالبحوث والدراسات والكتب تشير إلى مجموعة كبيرة من المستشرقين من مختلف المشارب والجنسيات، انكبوا نحو دراسة التراث العربي والإسلامي، وبذلك يمكننا القول إننا صادقون إذا ما حكمنا بتأثر نسبة كبيرة منهم بالأدب العربي وتراثه الإسلامي، وذلك من خلال عرض مجموعة كافية منهم وما درسوه: توماس أربانيوس الهولندي، نشر العمل لعبد القاهر الجرجاني بروما 1617 م. سلفستر دي ساسي الفرنسي (ت 1838 م)، نشر كليلة ودمنة، وألفية ابن مالك، وصف مصر لعبد القادر البغدادي، وترجم بعض الكتب العربية إلى الفرنسية. فريتس كرنكوف الألماني البريطاني (ت 1953 م)، الذي حقق الأصمعيات، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وجمهرة اللغة لابن دريد. ليفي بروفنسال الفرنسي (ت 1956 م) محقق الروض المعطار للحميري، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم، وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي(4).
كترمير الفرنسي تلميذ دي ساسي (ت 1857 م)، نشر مقدمة ابن خلدون، ومنتخبات من أمثال الميداني. فرابتاج الألماني (ت 1861 م)، الذي نشر حماسة أبي تمام، وأمثال الميداني. روبنهارت دوزى الهولندي (ت 1883 م)، الذي وضع معجما عربيا يعد ذيلا للمعاجم العربية، إذ جمع فيه من الألفاظ العربية ما لم يرد فيها. نولدكه الألماني (ت 1931 م)، ألف تاريخ العرب والفرس في عهد الساسانيين، وتاريخ القرآن، وحقق تاريخ الطبري، وديوان عروة بن الورد.
جلتزير، وله مؤلفات عن الإسلام واللغة العربية بالألمانية منها: تاريخ التشريع الإسلامي، وبحث في الحديث النبوي الشريف، وبحث في آداب المناظرة والبحث عن الشيعة. كارل بروكلمان ورجيس بلاشير لكليهما تاريخ الأدب العربي… جان كانتينو، دروس في علم الأصوات العربية، ترجمة د. صالح القرمادي.
برجستراشر، الإيضاح في الوقف والابتداء لأبي بكر بن الأنباري، ومعاني القرآن للفراء، وطبقات القراء لابن الجزري، التصريف الملوكي لابن جني. و”أنا ماري شيمل” المستشرقة الألمانية التي أنصفت الإسلام، لها من المؤلفات: مختارات من مقدمة ابن خلدون بالألمانية 1951 م، وباكستان قصر ذو ألف باب بالألمانية 1955 م، والأبعاد الروحية في الإسلام 1975 م، والملك لك بالألمانية 1978 م يشمل مختارات من الأدعية الإسلامية المأثورة، والإسلام في شبه القارة الهندية الباكستانية بالإنجليزية 1980 م، ومحمد رسول الله بالألمانية 1981 م. وغير هؤلاء كثيرون من أمثال بارث، وشوارز، ومرغوليت، وأوبتنشيني، وهنري فليش.
الاستشراق في العصر الراهن:
منذ بداية الاستشراق أولى الغرب عناية خاصة للتراث العربي الإسلامي، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، ولكنه لم يُعْنَ بالأدب العربي الحديث – بصفة خاصة – عناية كافية رغم ما صدر من المستشرق جاك بيرك الفرنسي سنة 1956 م الذي حثّ فيه المستشرقين على عقد صلات وثيقة بالشرق ولغاته ليتمكنوا من فهم التيارات الجديدة في بلاد الشرق(5).
وربما يرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: العناية الكبيرة بالتراث القديم لفهم حضارة العرب من أساسها ومنبتها، وترديد العرب لبعض نظريات الغربيين في الأدب، وفي ذلك يقول عاصم حمدان: “إن نقطة الضعف التي يجدها الغرب في أدبنا، هي ترديدنا لبعض نظرياته في الأدب بعد لفظه لها بعشرات السنين ثم هو ترديد لا استيعاب ولا تمثل فيه… قدم المستشرقون النصيحة للأدباء العرب بأن يكون شعرهم عربيا خالصا، لأنه إنما يأخذ مكانته بين الآداب العالمية بتفرّده وأصالته”(6).
ومن الأسباب الأخرى التي أجهضت اهتمام المستشرقين وعنايتهم بالأدب العربي الحديث في نظرنا ما عبّر عنه سمايلوفيتش(7)، وهو: حداثة البحوث في هذا المجال. عدم تبلور الأبحاث الاستشراقية فكريا ومنهجيا. تركيز الغرب على الاهتمام فقط بالمجالات الدينية العقيدية والسياسية والاقتصادية. انعدام مؤسسة تهتم بالاتجاهات الحديثة التي توجه البحوث في العالمين العربي والإسلامي. وغيرها، لكن هذه الأسباب لم نصبح صالحة في حاضرنا على الأقل فيما يتعلق بالعشرين سنة الأخيرة.
ورغم كل ذلك، لا بدّ أن ننصف الاستشراق في أنه أعطى دفعا قويا للتراث العربي بإحيائه، إذ يرى د.محمد عبد المنعم خفاجي(8) “أن الاستشراق أفاد الثقافة العربية فوائدَ عديدةً منها: نشر الثقافة العربية في أوربا، وترجمة كثير من كتب التراث العربي إلى اللغات الأخرى، وكذا تصحيح فكرة الشعوب الأوربية عن العرب والإسلام، وكذلك نشر كثير من كتب التراث نشرا علميا، أضف إلى ذلك كتابة العديد من المؤلفات النفيسة عن الحضارة العربية والإسلامية، ويمكن زيادة الاستفادة من بعض العلماء المستشرقين في كثير من الميادين الثقافية في البلاد العربية”.
وفي الأخير ودونما إطالة نورد مجموعة من الأعمال(9) تتمثل في ندوات ومؤتمرات ومحاضرات وكتب استشراقية حول دراسة الأدب العربي الحديث: مؤتمر الأصالة والحداثة في اللغة والأدب العربي، جامعة أكستر بقسم الدراسات الإسلامية الذي أسسه محمد عبد الحي شعبان والذي عُقد المؤتمر بمناسبة مرور عامين عللا وفاته، وخُصّص للشعر التقليدي الحديث والشعر العامي والتأثير الغربي في الأدب العربي. ندوة عن الأدب العربي بعنوان فهم العالم العربي من خلال الأدب، مركز الدراسات العربي المعاصرة، جامعة جورج تاون واشنطن 1995 م. مؤتمر العقل والأخلاق والمناهج في الشرق الأوسط وشمال إفريقية، بودابست المجر من 18 إلى 22 سبتمبر 1995 م. المؤتمر الدولي الرابع للآداب المقارنة، القاهرة ديسمبر 1996 م. المؤتمر العالمي الخامس والثلاثون للدراسات الآسيوية والشمال إفريقية، بودابست المجر من 07 إلى 12 جويلية 1997 م.
ومن بين الدراسات الحديثة نجد كلاّ من: الموضوع والشكل في أعمال توفيق الحكيم، أكسفورد 1970 م. دراسة لسانية للغة الشعر الحديث، جامعة لندن 1971 م. دراسة نقدية لموضوعات شعر الرصافي، الدباغ، جامعة جلاسجو 1977 م. ظهور وتطور القصة القصيرة المصرية (1881 – 1970 م)، عبد الدايم، جامعة لندن 1979 م. النساء العربيات الروائيات، جوزيف زيدان.
نرجو مستقبلا أن يُكشف النقاب بصفة شاملة ومستوفية للعلمية المرجوة من الدراسات الاستشراقة الحديثة خاصة فيما يتعلق باللغة والأدب العربيين.
الهوامش:
1 – قاسم السامرائي: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، 1403 هـ، ص 68.
2 – محمود حمدي زقزوق: الأزمنة التي نشط فيها الاستشراق، مجلة المنهل، ص 203. وينظر، نجيب العقيقي المستشرقون، دار المعارف، القاهرة 1981.
3 – ساعد خضر العرابي الحارثي: الاستشراق هل وجه الإعلام الوجهة التي يريدها، مجلة المنهل، مرجع سابق، ص 195.
4 – محمد عبد المنعم خفاجي: حركة الاستشراق، مجلة المنهل، العدد 471 أبريل – مايو 1989، ص 199.
5 – حمدان عاصم: لماذا ومتى يهتم الأوربيون بتراثنا، صحيفة المدينة المنورة، ليوم 22/11/1989، ص 45 – 71.
6 – أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار الفكر، القاهرة 1998، ص 56 – 78.
7 – محمد عبد المنعم خفاجي: حركة الاستشراق، مرجع سابق، ص 199.
8 – الأدب العربي الحديث في الكتابات الاستشراقية، مرجع سابق.
9 – أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، مرجع سابق، ص 80 – 95. وينظر، الأدب العربي الحديث في الكتابات الاستشراقية.
قد يهمك « تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط » لـ(زكاري لوكمان)، فهو كتاب ممتاز في رأيي: http://bit.ly/aoqcej