من وحي (القشابة) والجلباب


عبد اللطيف المصدق

الأصل في الجلباب المغربي المشهور والمعروف أن يكون قطعة ملتحمة نسجت من صوف، قبل أن يفصلها الخياط إلى أجزاء تابعة لتضاريس جسم صاحبها حسب خطوط طوله وعرضه ثم ليعود فيضمها إلى بعضها البعض بالرتق والخياطة عن طريق (البرشمان).
ويعد (البرشمان) من أقدم التقنيات التي اكتشفها المغاربة الأولون لخياطة الجلابيب. وفيها قدر كبير من الخبرة بعلم الحساب وفك شفرة تداخل الخيوط والمزاوجة بينها حسب نمط التنسيق والتزويق الذي يعرضه الخياط التقليدي أو الذي يقترحه الزبون صاحب الخرقة الصوفية التي استبدلت فيما بعد بالقماش العادي المعروف عند العوام في بلادنا ب(التركال) الخفيف أو الثقيل.
وحكاية الجلباب أو (الجلابة) حكاية طويلة كحكاية الخبز اليومي لأنهما معا ثمرة مجهود مشترك بين عطاء الطبيعة ومجهود النساء والرجال وحتى الأطفال الذين كانت توكل إليهم مهمة حمل (وصلة) أو (صينية) الخبز على رؤوسهم الصغيرة إلى فران الدرب أو الحومة.
ومن منا لم يحمل في صغره وصلة خبز البيت أو حتى الجيران إلى أقرب أو أبعد فران.. !!
هناك أطفال صغار على عهدنا – نحن جيل المخضرمين – ربما أصيبوا بالصلع المبكر من كثرة حمل الوصلات الخشبية الثقيلة على رؤوسهم ، وخاصة إذا كان عدد أفراد العائلة كبيرا يضم إلى جانب الآباء والأجداد الأبناء الأحفاد وحتى الأصهار والأعمام والأخوال.
وخلال رحلة الذهاب والإياب المحصورة بين البيت والفران كان الأطفال الصغار يتعلمون كثيرا من فنون اللعب والتوازن… أما إذا وقعت الوصلة على الأرض واختلط العجين بالتراب فتلك خطيئة كبرى قد لا تجبر إلا بالحرمان الشديد والعقوبة المغلظة.
كان يحدث كل هذا قبل أن يتم الاستغناء عن فران الحومة وعن وصلة الخبز وعن سُخرة الأطفال وتعويض ذلك كله بتأسيس المخابز العصرية التي قد تطرح آليا خبزا مستديرا أو مستطيلا أو ملفوفا بالآلاف المؤلفة ولكنه قد يفتقر إلى نكهة الخبز البلدي.
أما الطريقة التي كان يتعرف بها صاحب الفران على خبز بيوت الحومة كلها، دون أن يختلط بعضه ببعض فتلك حكاية أخرى… وربما من هنا جاء المثل المعروف عند المغاربة: ( أنا فران وقاد بحومة).
إنه المشهد ذاته يتكرر في تفاصيل حكاية الجلابة؛ فالرجل من جهة رعي الماشية وجز صوفها في أوقات معلومة من السنة الفلاحية قبل نسجها على النول الخشبي، والنساء من جهة غسل الصوف (الجزة) وتنظيفها من الوذح وتجفيفها بأشعة الشمس في العراء أو على السطوح ثم غزلها بالمغزل الخشبي في هيأة خيوط طويلة تشكل اللحمة والسدا لنسيجها، ثم يأتي الدور في الأخير على الأطفال الصغار عند الخياطة لضرب البرشمان.
فإذا غفا ذلك الطفل عن المعلم الخياط بسبب التعب أو النوم أو أخطأ أو كرر الضربة البرشمانية انهالت عليه من حيث لا يدري لعنة أو سبة أو حتى ضربة قوية تعيد إليه وعيه وانتباهه… !!
وهناك أطفال كثر تورمت مؤخراتهم وركبهم من كثرة الزحف بالدبر أو الركبتين على تراب الأرض والحصير تبعا لحركة قضيب البرشمان. فكثيرا ما كان يتعاطى الفقهاء في الكتاتيب والجوامع لمهنة الخياطة التقليدية أيضا. وكان صبية الكناب و(محاضرة) الجامع يتنابون على ضرب البرشمان أمام حضرة الفقيه.
وكان يحدث كل هذا أيضا قبل أن ينتقل كثير من خياطي الملابس الرجالية والنسائية إلى طور الصناعة والمكننة البرشمانية.
والجلباب هو اللباس الوحيد الذي يوحد عموم المغاربة ويلف أجسادهم وفق طبيعة التضاريس الجغرافية المتنوعة المحيطة بهم من الاتجاهات الأربع؛ فقد يتنوع المغاربة في لون بشرتهم ولكناتهم وعاداتهم، ولكنهم يتوحدون جميعا في لباس الجلباب. ولو نطقت (الجلابة) لكانت خير معبر عن حالهم ولزودتنا من أخبارهم القديمة بالعجب العجاب … !!
والطريف المحير في قصة الجلباب أو (الجلابة) هو (القب) الذي اهتدى المغاربة الأولون إلى اختراعه وجعله جزء لا يتجزأ من الجلابة.
و(القب) هو الجزء العلوي الذي ألحقه مصممو الجلابة الأوائل بها؛ فهو منها بمثابة الرأس من الجسد، وإن كنا نعلم أن العادة قد جرت بأن تكون الملحقات في الهوامش الجانبية أو في المؤخرة والذيل.
ويستحيل أن نتصور جلبابا في المغرب بدون هذا (القب)، وإلا فإنها تتحول إلى مجرد قميص عادي. ومن هنا فإن مفهوم (الجلابة) لايكتمل إلا بوجود (القب)، وهذا ما يجعل الجلباب المغربي يختلف اختلافا كليا عن مفهوم (الجلابية) لدى إخواننا المصريين أو (العباية) عند إخواننا في الخليج العربي.
وإلى عهد قريب، وقبل أن يستفحل اللباس والهندام العصري المستورد والمعولم، كان جل لباس المغاربة عبارة عن جلباب، سواء بالنسبة للكبار والصغار أو النساء والرجال. وصور الأرشيف التي تنتمي إلى زمن التصوير بالأبيض والأسود خير دليل على ذلك.
ول(القـُب) قابلية كبيرة للتوسع أو التضييق حسب الرغبة، وقد أخذ بعين الاعتبار عند تصميمه أن يستوعب رأس صاحبه وعمامتة أو طربوشه أيضا.
غير أن للمغاربة مآرب أخرى في هذا (القـُب) العجيب، بالإضافة إلى وقاية الجمجمة من الحر والزمهرير؛ فمنهم من يضع فيه زاده أو نقوده، ومنهم من يضع فيه كتابا أو صحيفة، و حتى وثائق ملكية وأوراق هوية، وإن اقتضت الضرورة القصوى سكينا أو مـُدية.
وقد يعلق بعض الإخوة المغاربة على هذا الإدراج بقولهم باللسان المغربي الدارج: (وسير تعاود لقبك)، من باب الاستلطاف أو من باب الجفاء والاستخفاف. غير أن في هذا القول الذي أدرجناه تكمن صورة رمزية خفية تشير إلى هذا التوحد الغريب القائم في ذهنية المغاربة ببن الجسد الآدمي والجلابة؛ فهي بالنسبة إليه بمثابة القالب وهو بالنسبة إليها بمثابة المثال.
كما أن هذا القول الذي استشهدنا به لا يقصد (القـُب) لذاته كما يبدو من أول وهلة، وإنما يقصد الرأس الذي يحتويه، ولا يقصد الرأس كرأس وإنما يقصد المخ الذي بداخله، ولايقصد المخ لذاته وإنما الفهم الذي جبل عليه. وكأنما المغربي بكل هذه الفذلكة اللغوية قد اختزل عقله ومصيره في (قبه).
ومن هنا أيضا، وارتباطا بموضوع الجلابة، كانت أريحية المغاربة واسعة لسعة حلمهم وقوة احتمالهم لأشكال القهر والخصاصة والفقر، وللنقد اللاذع وحتى للسخرية. أو ربما لأنهم قد استوعبوا عبر التاريخ البعيد كل دروس وعبر الجلابة و(القشابة) الواسعة.