لقد تم عمداً تجهيل “الجامعة” ، لأن ما أعرضه من أفكار ، قد ينطبق (إلى حد ما) على طلاب أي جامعة “رسمية” ، فاقتضى التوضيح .
الفكرة الأولى : تتمحور حول التبادل مع المادة التي يتعلمها الطلاب ، ومع الكتاب أو المراجع التي استُخدمت لتقديمها .
إن الفكرة المقترحة ترتبط بعلاقة الطالب مع الكتاب ، مع المصادر ، وأخيراً مع الملزمات (أو الملزمة) التي يعتمدها أستاذ المادة لأسباب خاصة به ، من دون أي مراقبة ، فيقع الطالب في وهدة التجهيل الأيديولوجي ، حيث ينتقي الأستاذ ما يستهويه ، ويستبعد ما ينبذه ، دون أي شرط أكاديمي !
بالطبع ليس المطلوب إشرافاً على أساتذة الجامعة ، لكن لا بد من تنسيقٍ ما لتحديد الخيارات الأكاديمية المعرفية الأوسع أمام الطالب .
إذن ، ومع تخطي فكرة الملزمة – وإن كان معظم الطلبة لا يتخطونها ، بل يلتزمونها (أو نصفها) ككتاب مقدس ، فتُختصر العملية التربوية الجامعية بعدة صفحات !! – لنستكشف حال الطلاب مع الكتاب ، وليس المقصود الكتاب الثقافي العام ، بل الكتاب الأكاديمي ، إذ نجدهم في غربة عنه !
هذه الغربة تتمظهر بأكثر من شكل ، فمعارض الكتاب التي تضمّها (أحياناً) قاعات الجامعة ، يشترى منها كتب الأبراج والطبخ ، وفي أحسن الأحوال كتب دينية ! أما المراجع التي تهم الطالب المتخصص ، فغير موجودة ، وإذا وُجدت لا تشترى !!
كما أن زائري مكتبة الجامعة ، بأغلبهم ، يبحثون عن كتاب أو كتيّب – والأفضل أن يكون بحثاً سابقاً – ليجمعوا منه معطيات حول بحثهم . إذن فالمكتبة لا تزار لمجرد القراءة والإطلاع ، بل لتجميع بعض المقتطفات من كتب حدّدها الأستاذ المشرف !
أيضاً إن رفض الطلاب لفكرة المراجع التي يحدّدها (أحياناً) بعض الأساتذة ، تعلن بوضوح عن علاقة تبادلية سلبية مع الكتاب ، مما يؤسس بالتالي لنظرة الطلاب نحو تخصصهم وجامعتهم ، وكم تقدم لهم هذه الجامعة أماناً للمستقبل !
إن الجامعة التي بدأ ينحدر مستواها بسبب ظروف وعوائق ، أساسها القرار السياسي الذي أعلن تخليه عن الجامعة ، تاركاً إياها مسرحاً للفئات والطوائف ، فتوقفت عن كونها جامعة للوطن ، لتنقسم فروعاً تبعاً للإنقسام الطائفي/الفئوي/السياسي !
إن علاقة طالب الجامعة – خاصة في الإختصاصات الإجتماعية والإنسانية – مع الكتاب ، من المفترض أن تكون علاقة تبادل إيجابي ، بما يؤسس للفكر النقدي البحثي ، وبما يشكل نهضة معرفية ، تغيّر من أسس هذا المجتمع .
لكن ، يبدو أنه أمر سياسي مطلوب ، أن تُفرَّغ الجامعة من خبراتها ، وأن تُعمّم الأمية المعرفية/الأكاديمية على طلابها ، كما أن تُشدّد العوائق أمام المجدّين منهم !!
لذا ، يمكن القول ، أن القرار السياسي قد نجح في تحقيق غايته ، فطلاب الجامعة بأغلبيتهم لا يقرأون ، بل ينتظرون من يحدّد لهم ما يقرأونه وكيف يفهمونه !
وللخروج من هذا المأزق ، لا بد من إعادة تأهيل للكادر التعليمي ، كما للمناهج الموضوعة ، مع مراقبة ومحاسبة دائمين ، وبذلك فقط يمكن أن نعيد ثقة الطلاب بجامعتهم ، أســــــاتذتهم ، كما بالتخصص الذي التزموه معبّراً عن ذواتهم ، محقّقاً لآمالهم ، وأساساً مشكلاً لهويتهم الإجتماعية .
الفكرة الثانية هي تبادلية الطلاب مع المحاضر/الأستاذ ، وعلاقتهم به ، ومدى تأثيرها (التفاعلي) على المادة التي يقدمها .
للأسف ، يمكن القول أنها علاقة تنبني على تسلط من قبل المحاضر (أحياناً) ، ومن قبل بعض النماذج الطلابية أحياناً أخرى !
إن الإقتراب من ثقافة الجيل الشاب ، ضروري للخروج من أزمة الهوية ، كما لتأسيس هوية ذاتية يشوبها الإحترام للمعرفة وليس للمصلحة !
إن معايشة الجيل الشاب ، بهمومه وأحلامه وظروفه وعوائقه ، ضرورية للتمكن من إيصال الرسالة التربوية السليمة ، وبالتالي بناء مجتمع المعرفة .
إن بناء البشر ، أرقى مستوى من بناء الحجر ، لكن السياسات التي تتجاهل البنية المعرفية ، توصل لحالة الجهل والأمية على صعيد خريجي الجامعة ، إذ لا يملك الطالب وجهة نظر ، ولا يقدر على الإدلاء بدلوه لجهل مستحكم ، حجته وذريعته : لم نتعلمه في الجامعة !
وكيف يمكن لملزمة تقل (أغلب الأحيان) عن خمسين صفحة ، أن تؤسس لجيل المعرفة ، الذي يمكنه أن يبني الدولة القادرة المتمكنة ؟ وكيف يمكن لهذا الجيل المشاركة بنهضة وتنمية مجتمعه ، وهو يعايش ضموراً معرفياً – حتى لا أقول خواءً – ؟!
إن علاقة الطالب مع أستاذه ضرورية ، لتحديد مدى استجابة الطلبة للمادة (كما لكمّ المراجع المطلوب) ، فمن خلال العلاقة الطيبة يقدر المحاضر على توسيع آفاق طلابه ، ومن خلال قبولهم له كمثال وقدوة يمكن احتذاء خطوه ، والسعي في طريق العلم/البحث ، الطويل والصعب والشاق !
لذا ، لا بد من إعادة النظر في الهيئة التعليمية ، فمن خلال ذلك ، يمكن البدء بوضع اللبنة الحقيقية للجامعة .
إضافة لارتباط المستويات التعليمية المختلفة ببعضها منذ بدايات التأسيس ، في مراحل التعليم الأساسي ، إلى الثانوي ، وحتى الجامعي ، لكي يشعر الطالب بارتباط معرفي متكامل ، فلا يشعر بأنه أضاع وقتاً على تفاصيل أنهكته ، دون أن يكون بحاجة لها في حياته !
وهذه مسؤولية جماعية ، من المعيب تركها للسياسيين دون غيرهم ، لضرورة ابتعاد هذا التنسيق المتواتر/المتراكم عن السياسة ومصالحها ، فيدمّر مستقبل أجيال للحفاظ على كرسي !
الفكرة الثالثة ، والتي أعتبرها خصيصة جامعية ، هي تبادلية الطلاب بين بعضهم البعض ، حيث يتعايش ويتزامل الطلاب في المستويات التعليمية الأدنى ، لكن ما يعيشونه في الجامعة من صراعات ومآزم وعلاقات ، ينبني على مستوى أعمق ، ويؤسس لنضج إنساني يسم الطالب بميسمه حياته كلها !
وفي هذه الفكرة ، نجد أن الجامعة ، لطائفيتها ، قد أعاقت نمو العلاقات السليمة التي يمكن لها أن تؤسس لنضج سوي ، يتكامل من خلاله الطالب بشكل يتوازى مع معرفته الأكاديمية !
إلا أن الغياب المعرفي الأكاديمي ، قد توازى مع علاقات فئوية ، تبحث عن المثيل لتزامله ، ففقدت الجامعة خصيصتها ، حيث كانت بوتقة صهر للفئــات والطوائف ، فكان الطالب الجامعي يتخرج مواطنــاً .
أما الآن ، ومع العلاقات المأزومة ، أو العلاقات التي تم منعها من التشكل ، فيتخرج الطالب أكثر جهلاً بأخيه/المواطن من الطائفة الأخرى ، لا يحمل عنه في ذهنه سوى معلومات سطحية ، لا تؤسس لبناء وطن المساواة !
إن جهل الآخر ، لا يمكن أن ينبني عليه احترام له ، بل يتولد عن الجهل احتقار وإسقاط لمآزم الذات وإشكالياتها عليه ، فيتموضع كل فريق في سلته “الكاملة” رافضاً فكرة وجود كمال خارجها ، ومؤسساً لعلاقة ارتباط واهية مع السلال “الناقصة” الأخرى المليئة بالناقصين !
هذا التموضع وهذه الإسقاطات تؤسس لوطن لا يمكن الإتفاق على هويته ، ولا على تاريخه !
هذه الإشكالية ، يمكن حلّها ، بإعادة الإعتبار للجامعة كجامعة وطنية ، وليس كجامعة فئات وطوائف ، كجامعة يمكن فيها التواصل مع الآخر المختلف ، بمعزل عن طبيعة اختلافه ، كما يمكن من خلالها تأسيس الإحترام للإختلاف والتعدد والتنوع باعتباره سنّة طبيعية .
الفكرة الأخيرة ، تركز على رؤية الطلاب المستقبلية للواقع العملي ، من خلال فهمهم لحاضرهم ولتخصصهم . كما تشير إلى مدى قدرة الجامعة على تلبية متطلبات السوق ، وأساساً على تأهيل طلابها لخوض سوق العمل كمنافسين لغيرهم عن جدارة واستحقاق ؟!
فهل اختار الطلاب تخصصهم حسب توقعاتهم لسوق العمل ؟ وهل يأخذون بعين الإعتبار الظروف والتغيرات المستقبلية ؟
أعترف أن تأهيلنا الثانوي لا يقدم لنا فرصة للنجاح في اختيار تخصص جامعي يقترب من الذات وأحلامها/طموحاتها !
كما لا يسمح لنا باستشراف واقع سوق العمل ، فنقع على تخصص ، لا يؤمّن لنا كماً معرفياً ، ولا مادة يمكن لها أن تسندنا بعد التخرج ، فنركن إليها في بحثنا عن العمل !
إن الجامعة ، بكل ما يحدث فيها ، وبعد كل ما ذكرته ، يبدو أنها مجرد أبنية وساحات لا طعم فيها ولا لون !
إن الجامعـة تحتضر ، وعلينا يقع خيار من خيارين ، إما إطلاق رصاصة الرحمة عليها وإغلاقها ! وبالتالي تنكّب مسار دراسي وجامعي مختلف ضماناً للمستقبل وحفاظاً عليه ، مع الأخذ بعين الإعتبار التكلفة الباهظة للتعليم الخاص ، مما ينبئ بطبقية جديدة ، تهدف السياسة إلى تحقيقها ، بين من يعرف ومن لا يعرف !
أما الخيار الآخر ، فما كرّرته مسبقاً ضمن النص ، وأكرّره هنا كخاتمة ، فصل السياسة عن الجامعة فصلاً مطلقاً ، إعادة تأهيل الكوادر التعليمية ، كما إعادة تنسيق مناهج تعليمية ودراسية جديدة تبني هوية مشتركة ، وبالتالي مواطناً ، يسعى من خلال علمه ومعرفته إلى بناء الوطن والدولة القادرة العادلة .