يشمل المعتقد الشعبي مدى متنوعاً من الأفكار والإهتمامات : طرق الشفاء من الأمراض ، صيبة العين ، الرقى والتعاويذ ، كشف المستقبل ، الماورائيات ، السحر ، عالم الجن والأشباح والأرواح ، الأعياد والموالد الشعبية ، حفلات الزار، زيارة المقامات وأضرحة الأولياء ، وغيرها …
وفي هذا النص الموجز ، سأستكشف فكرة صيبة العين ، وفكرة الرقية الشافية منها ، دون أن يكون هذا الإستكشاف نهائياً ، بل بداية تلمس لهذا المعتقد.
يعيد البعض صيبة العين إلى طاقات خاصة في بعض العيون (خصوصاً الزرقاء)، ومن هنا التسمية ، أي أن هناك شخصاً “عائناً” ، ينظر إلى شيء أو إنسان آخر “معيوناً” فيصيبه بالخراب أو المرض .
إن التدقيق يعيدنا إلى حقبة الأساطير (كما يذهب إلى ذلك يوسف الحوراني)[1] ، وخصوصاً إلى الثقافة السومرية في بلاد الرافدين ، حيث تنوعت الآلهة وتعدّدت .
إن الإله “إيا” (السومري/الأكادي) مشـهور بقدرته على الإيحاء بالرقى والتعاويذ ، كما أنه إله مياه الأعماق والينابيع . وتسمية ينبوع الماء بالـ”عين” هي إشارة إلى هذا الإله . ولا أهمية هنا لتحريف اللفظ لكون الهمزة والعين تعتبران حرفاً واحداً في عدد من اللغات السامية ومنها اللغة الأكادية التي كانت منتشرة في أرض كنعان في الألف الثاني قبل الميلاد . وهذا يعني أن “أون” و”عيون” و”أيون” و”عين” هي لفظ مختلف لإسم إله واحد هو “إيا” . كما أن الإعتقاد الشعبي “صيبة العين” يرتبط بهذا الإله ، وليس لكونها من جراء النظر !
إن ربطها بالإله “إيا” ، يشير إلى اعتبارها مرضاً يصيب الفرد من جراء السحر، فلا ينفع علاجه إلا بالرقى والتعاويذ. وهذا ما نراه عند بعض الشعوب في عصرنا التي ما زال يؤمن أفرادها بتأثير السحر وعلاجه بواسطة الشامان .
إن بقاء هذه الفكرة ، يحيلنا إلى علاقة المجتمع المحلي مع الطب الحديث “طب الرجل الأبيض” ، الذي يجري إستبداله أحياناً بالطب الشعبي وعلاجاته ، خصوصاً إذا اعتبر المريض (وأهله) أن سبب المرض المفاجئ هو عين ، فـ”الحسد يرمي الأسد” كما يقول المثل الشعبي !
ومن طرق منع و/أو علاج صيبة العين : التعاويذ ، الخرز الأزرق ، نضوة الحصان ، صب رصاصة ، والرقى . إذ أن بعض الأزمات الصحية لا مسبب لها سوى السحر (كما يظن جزء من المجتمع المحلي) ، فلا بد من مقارعة السحر بالسحر ! وهنا يأتي دور الرقية التي تواجه السحر الممرض بسحر شافي .
كيف ؟
لنرى طريقة الرقية :
تبدأ بوضعية المريض/المعيون الذي يستلقي ويجلس الراقي قربه ، فوق رأسه ، يمسّده بيده اليمنى للتهدئة ، ثم يبدأ بتلاوة الرقية ، وبعد كل عبارة ينفث نسيماً من فمه على رأس المريض !
هي مسألة روحانية بالكامل ، القراءة والتلاوة للسيطرة على الأرواح الشريرة التي أصابت المريض ، حيث لا بد من الكلمة ، الكلمة التي بها يكون الشيء ! ومن خلالها نسيطر على الآخر .
عند بعض الشعوب يتغير إسم الفرد مراراً تبعاً لمساره ومسيره في الحياة ، لكنه لا يعطي إسمه الأول لأحد ، مخافة أن تسيطر عبره ، عليه ، أوراح شريرة يرسلها شامان معادٍ !
الأولى ، هي الكلمة ، “وفي البدء كانت الكلمة” ، العنصر الخامس ، حيث بدونها لا إمكانية للعناصر الأربعة في تحقيق الكامن فيها ! إذ أن ما يستجلب قوى العناصر الأربعة هو الكلمة : “كن فيكون” …
ومن ثم نفث الهواء .. حيث ترسل الكلمات مدراراً ، نسيماً يبعد الأرواح الجاثمة على صدر المريض . عبر قوة عنصر “الهواء” نعيد ترتيب بقية العناصر ، هي دورة متكاملة لا بد منها ، وبدونها يبقى المرض ساكناً في داخله !
وأيضاً عبره ، نؤكد على قوة الكلمات التي لا تتطاير بعيداً ، بل تتهادى على وقع النسيم فتنتثر على وجه المريض شفاء !
الأساس هو الكلمة ، هي كلمة شافية في مقابل إصابة عوارضها مبهمة ، وفي موازاة طب “أبيض” لا يعطي للشعبي فرصة ، لا مناص من الرقية كآلية أولى في سلسلة ، يمارسها الناس لتحقيق قليل من السيطرة على تغيّرات متسارعة ، تستبعدهم وتهمّشهم !
بالطبع ، ليس لجميع العوارض آليات دفاع واحدة ، بل تختلف تبعاً للعارض والمجتمع المحلي ، ولا الطب “الأبيض” عامل أوحد في التهميش ، لكن ، مجال بحث هذا ، مؤجل …
الهوامش :
[1] يوسف الحوراني ، (1992) ، البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم ، بيروت ، دار النهار للنشر، ط 2 ، ص 214