ضمن هذه السلسلة، أفتتح النقاش حول مقاربات بحثية مختلفة، وتعتمد كل مقاربة على نظرية وبالتالي طريقة بحثية، وهذا فصلت فيه ضمن سلسلة “مبادئ أساسية“.
وسأخصّص الحديث في هذه الحلقة عن “الزيارة” إثنوميثودولوجيًا، والإثنوميثودولوجيا (بالمختصر) هي دراسة التفاصيل الحياتية اليومية، المعنى الكامن ضمنها، والمدلولات التي يعطيها الناس لها.
بالطبع، البداية هي إثنوغرافية، معايشة الجماعة المحلية، ملاحظتها، ومحاورتها. ومن النقاط التي على الباحث الإهتمام بها، أورد ما يلي:
هناك كلمات مفاتيح تدفع الحوار لأن يكون محددًا، فلا خروج عن الأدبيات، عن التقاليد، عن العادات!
من المتوقع أن يرحب صاحب البيت بالضيف، والمتوقع من الضيف أن يُشْعِر صاحب البيت بالإمتنان لإستقباله، عبارات الترحيب، الأحاديث التمهيدية، كلها تهدف إلى إشعار الطرفين بالراحة!
الدخول والخروج، الإستقبال في أي غرفة، طبيعة الجلوس، المؤثرات الموجودة (تلفاز، أصوات ضجيج، أولاد يلعبون…)
فكرة الموعد طارئة، وتستخدم أحياناً بشكل لا معنى له، أي أن الضيف يتصل ليخبر بقدومه، هذا يعطي فرصة قصيرة (تبعًا لبعد المسافة) لأن يتحضر أصحاب البيت لإستقباله، لكن يبقى هذا أفضل من أن يتفاجأوا به على باب منزلهم (وإن كان يتم إستخدام المفاجأة بشكل متعمد أحيانًا)!
نظافة وترتيب المنزل اليومية، مرتبطة بشكل ما، بمدى الزيارات المفاجئة التي يقوم بها الجيران والأصدقاء والأقرباء. إذ لن تسمح “ست البيت” (ضمن مجتمع بطركي) بأن يقولوا عنها مهملة أو غير نظيفة، جزء من سمعتها (وسمعة أسرتها أيضًا) متعلق بالتقدير الإيجابي الذي تنشره النسوة عنها!
لذا نجد من يقارب مسألة الزواج بأن يحدّد بنات قرية ما بأنهن نظيفات (المختصر أنهن ستات بيوت)، ويعمّم على قرى أخرى بالقول: هناك جمال لكن هناك إهمال!
النظافة والترتيب كانت تعتبر (هل ما تزال –هذا يحتاج إلى قراءة–)من أسس الإختيار للزواج!
يمكن للضيف أن يتوقع شراباً بارداً أو ساخناً تبعاً لحالة الطقس، مكسرات وبزورات، حلوى منزلية أو مشتراة، فواكه… (بعضها أو كلها)!
لكن فرض نفسه على الغداء لا يعد سلوكاً مقبولاً بل فيه خرق لعادات الضيافة!
كذلك بقاؤه طويلاً، فوقت الزيارة ومدتها يتحددان بشروط!
ليس مبكراً جداً، وليس متأخراً جداً (وهذا مرتبط بطبيعة عمل/مهنة صاحب البيت) فإن كان موظفاً، فليس من اللائق إبقاؤه ساهراً!
الحضور وقت الغداء قد يحرج صاحب البيت لذا يفضَّل تجنبه! هذا يعني أن وقت الغداء محدّد ومتفق عليه ثقافياً!
وكل تفصيل هو ثقافي ومتفق عليه ضمن الجماعة التي تبنّته! ومنه تنشأ الخلافات حول عاداتنا/عاداتهم، وبالتالي جماعتنا/جماعتهم! هي في هذه التفاصيل الصغيرة التي نمارسها دون أن نعيها!
طبيعة الزيارة تتحدد أيضاً بمن هو الضيف؟ ومن معه؟ خطيبته، زوجته، مع الأولاد، أحد الأقرباء، وحول كل شخص تدور شبكة مختلفة من العادات!
إذا كان الضيف لوحده دون زوجته مثلاً، فهذا يحرّر زوجة المضيف من الجلوس معهما (تتحول من “إجبار لياقة”، إلى إختيار).
طبيعة الزيارة أيضاً، ماهيتها: عمل، صداقة، صلة رحم، زمالة عمل، مدرسة،
هل الزائر نظير؟ أم أعلى؟ أم أدنى؟ من ذات البيئة؟ عربي؟ أجنبي؟
هل هي للتهنئة؟ وما مناسبتها؟ العيد، فرح، عيد ميلاد، خروج من مستشفى، إبلال من مرض…
هذه العادات/الآداب يتم إكتسابها عبر التقليد/المحاكاة، هي مرسومة ثقافياً، ولا خروج عن أطرها!
المهم إثنوميثودولوجيًا هو الدلائل الكامنة خلف هذه التصرفات، والمعاني التي يعطيها الناس لها، وهذا يستحيل على الباحث كشفه دون المعايشة! لذا شدّدت على أهميتها في بداية النص، وعلى أهميتها ضمن الأنثروبولوجيا أساسًا.
يتضح البعد الكامن للمعاني المتفق عليها ضمن ثقافة ما عندما يتم تهديدها أو مواجهتها بشكل ملتبس، إذ عندما تكون ردّة الفعل غير متوقعة [ليست ضمن النمط المتفق عليه] يضطر الآخر إلى إبتداع فعل جديد معتمدًا على مخزونه الثقافي (من الخبرات…)، مما ينقل (عبر التكرار فالشيوع) النمط القديم إلى آخر! وهنا تكمن الأهمية الجوهرية للإثنوميثودولوجيا.
ولهذا، تتمة…