ولاتزال ذاكرة هذه المفاهيم تستنسخ بقوة صفحات التطرف ،المحاباة، المحسوبية، المنسوبية، التزلف الى السلطان ، كما ان القادة السياسيين لهذه البلدان مواضبون على التلهج والتبجح بالشعارات المخادعة والمضللة لشعوبهم اللاهثة خلف الرموز المقدسة ، المستمدة من طقوس عبادة العصورالجاهلية الأولى لأصنام نحتوها بأيديهم، وأزلام ابتدعوها، أما المفاهيم الانثروبولوجية للطامعين بالوصول الى سدة الحكم، فتعني الاستحواذ على المال والجاه وزمام الأمور، والليالي الحمراء والحياة المخملية، وجيوشا من الحماية والعبيد والجواري، وتحقيق الذات المتعالية بالتبختروالاستنكاف من الآخرين، والمتعطشة للغطرسة الماسونية مع بني جلدتهم وعوامهم! وقبل الولوج في ماهية العلاقة السلبية ومنغصاتها الأزلية بين الحاكم والشعب في المنطقة العربية، كان علينا كمتابعين لهذه القضية المهمة والحساسة ، تسليط الضوء على الخلفيات التاريخية، والبحث في مفاصل الأسباب والمسببات الجدلية لهذه التراكيب المتنافرة الحبلى بالكراهية والضغينة والأحقاد المتبادلة، لتشكل بمجملها علاقة غيرمنصفة بين الجانبين، وفي اعتقادنا أن هناك أسباب بيئية قاهرة ساهمت بشكل مباشروغير مباشر، تكمن في قلة الزاد وصعوبة الحصول عليه، وشح المياه وندرة فرص العمل في صحراء قاحلة مترامية الأطراف، أدت بالانسان العربي الى التعامل مع كل الموجودات على أديم الأرض وفق مبادئ ومفاهيم
مفاهيم انثروبولوجية.. فــي السياســة والســلطة
أكبر درويش
لا تزال المفاهيم العامة للشعوب العربية منغمسة في ركام الموروث الاجتماعي الراكد ومنظومات السلوك الطارد لمبادىء التداول السلمي للسلطة، ولأسس الديمقراطية وتداولها بشكل مهني ومنطقي باختيار ممثلي الشعب بكل نزاهة وحيادية وفق معايير الكفاءة والنزاهة والمؤهلات العلمية والاكاديمية، والحرص على مصالح الشعب والوطن، والمطالبة ببناء مؤسسات مدنية غيرمسيسة، وتفعيل أدوار منظمات المجتمع المدني المستقلة .
(الصراع من أجل البقاء)، مما أدى الى نشوء ثقافة الغنيمة وتحيين الفرص بالمباغتة والغزو التي أطرت بمجموعها سلوكيات غيرمتوازنة وعلاقات تشوبها الشكوك والقلق وعدم المصداقية ونقض العهود! وهي حاضنة ملائمة لنموالصراعات القبلية القاسية والدامية في أغلب مجرياتها، التي أوصلتها الى نهايات مأساوية بأساليب (الثأرالمتبادل) بين القبائل المتناحرة، من هنا كان لابد من البحث عن سبل الخلاص ووضع حد لهذه المآسي، حيث انتهت تراجيديات هذه الأحداث والصراعات، بنزوح معظم القبائل البدوية الى الأمصار المجاورة، بحثا عن أراض خصبة ومياه وفيرة وملاذا آمنا ، وكلها كانت أسبابا موجبة للهجرات المتعاقبة، التي توزعت على هذه البلدان مكونة أطلس (الوطن العربي) الذي يضم البلدان العربية القائمة الآن! نعم هناك فارق زمني كبيربين ما ذكرنا من مراحل تاريخية، وحاضرنا الآن الذي يمثل عصر العولمة والثورات الالكترونية التي سبقت الثورات العربية، مع انها كانت المادة الفاعلة والمحركة لثورات (الربيع العربي) عن طريق التواصل الاجتماعي السريع والمباشر عبر هذه الشبكات العنكبوتية العالمية، ولم تنته فصول هذه الثورات ونتائجها الى الآن، حتى في البلدان التي تشهد اليوم استقرارا سياسيا نوعيا، لأسباب كامنة داخل أفراد هذه المجتمعات، التي يمكن تقسيمها الى فئتين، احداهما تمثل الطبقة الحاكمة وهم (مواطنون) من الدرجة الأولى بكل ما تعني الكلمة، والثانية تمثل الطبقة المحكومة وهم (مواطنون) من الدرجة الثانية حسب مفهوم السلطان الحاكم، ويبدو كأن تاريخ البداوة والجاهلية يستنسخ من جديد في المجتمعات الحاضرة! لتبقى جدلية موروث المفاهيم الانثروبولوجية واسقاطاتها قائمة وفاعلة ومعطلة لبرامج الأنظمة الديمقراطية والحرية والفدرالية، ومفهوم المال العام والحفاظ عليه، والقضاء على الفساد المالي والاداري، ان هذه السمات والسلوكيات المترسخة في اللاوعي تتناقض مع أبسط قواعد الأخلاقيات المدنية والحضارية والانسانية، انها حقا ازدواجية في كل شيء، ولغزغامض يصعب التكهن بحله، ولعل التغييرالديموغرافي النوعي الحاصل اليوم في بنية هذه المجتمعات يحدث حراكا فكريا وثقافيا يخرج من اطار الانفعالات العاطفية وتأنيب الضمائر ورفع الأصوات، ويتحرر من عمليات الاستحواذ والاستغلال من قبل الجماعات المتربصة لنتائج هذا التغيير.