بقلم : د. رامي ناصر
التكني بأسماء الحيوانات عادة قديمة في تراثنا الشعبي لا تزال متبعة في بعض القرى إلى يومنا هذا. والغاية من التسمية بأسماء الحيوانات، الإعتقاد بالإستئثار بصفة الحيوان المسمى على إسمه. فيسمّى أسدًا تكنّيًا بقوة وشجاعة الأسد، وتسمى البنت مها أو ريم تيمنًا بجمال عيون المها. وقد تأخذ التسمية باسم الحيوان بعدًا أخلاقيًا، إذ يكنى بما للحيوان من صفات حميدة، وأحيانًا تأخذ مفهومًا إعتقاديًا، إذ يراد بالتسمية إخافة قرين السوء فلا يعود يقترب من الطفل للإساءة إليه .
والقرين هو عبارة عن طائر وهمي يحوم فوق رأس الإنسان. ولكل إنسان قرين خاص به، يختلف لونه تبعًا للون بشرة صاحبه وتتنوع أفعاله بين الخير والشر تبعًا لأفعال الإنسان نفسه، ويلاقي القرين نفس المصير الذي يلاقيه صاحبه بعد موته. ويعتقد بأن قرينة السوء (قرينة الأم السيئة) تهاجم المولود أو الجنين قبل الولادة مسبّبة له المرض والموت (كون القرينة لا تنجب فيدبّ في نفسها الحسد). لذلك كثيرًا ما نصادف لجوء الأمهات إلى العرافين لكتابة الأحجبة التي تدفع قرين السوء عن أذية الجنين أو الطفل بعد الولادة. فيتم تسمة المولود بأسماء الوحوش إعتقادًا بأنها وسيلة تدفع وتخيف قرينة السوء عن إلحاق الأذى بالمولود.
كما نلاحظ أنه يكثر تسمية المولود الجديد بأسماء الأولياء والقديسين كما النذور وإيفائها وذبح الأضاحي عن سلامة المولود.
وفيما يلي قصتين من الميدان اللبناني حول هذه المسألة:
القصة الأولى – قصة أبو فهد:
أبو فهد فلاح إبن فلاح، يعمل في الزراعة وتربية الحيوانات لتأمين عيشه. ولما تيسر حاله تزوج وطيلة تسعة أعوام كان أولاده يفارقون الحياة بعد الولادة بستة أشهر. فأشار جيرانه عليه بأن يأخذ مشورة أحد العرافين الذي طلب منه أن يسمي أبناءه بأسماء الوحوش وستكتب لهم الحياة.
أخذ أبو فهد بالمشورة وبعد سنة أنجبت زوجته مولودًا ذكرًا فسمّاه فهدًا، وبعد سنة أخرى أنجبت مولودًا ذكرًا فأسماه شبلًا، ولما رزق بإبنه الثالث سمّاه نمرًا. وقد بلغوا من العمر اليوم أربعين، تسعة وثلاثين، وثمانية وثلاثين (على التوالي).
فالإعتقاد هنا أن تسمية المواليد الجدد بأسماء الحيوانات أبعدت عنهم الخطر.
إن تسمية المواليد بأسماء ذات صفة دينية، كأسماء القديسين والأولياء لها نذور وقرابين خاصة بكل منهم يحتم على الأهل الإيفاء بها كما يحتم على المنذور الإبقاء عليها، فإذا لم يتم الوفاء بها قد يؤدي هذا إلى الإساءة للمولود، فإذا خاف الأهل من عدم قدرة المنذور على الإيفاء بنذره كان من الأفضل تسميته على إسم أحد الوحوش.
القصة الثانية: قصة أسطفان:
أسطفان شاب خلوق، شجاع، كريم، ومعروف بالفتوة. تزوج أسطفان وبعد سنة جاء إبنه البكر، لكن بعد شهر مرض الطفل، فعولج بالبابونج والحقن، فانكسرت شوكة الحمى لكن الطفل بقي على ذبوله. إتسعت وجنتاه وأمسى كالهيكل العظمي. رأته مطبّبة القرية فوصفت له الكي، تم كيّه أولًا في رأسه، لكن شيئًا لم يتغيّر، فعمدوا إلى كيّه فوق السرّة ثلاثًا، إلا أنه فارق الحياة بعد عدّة أيام. بعد عام رزق أسطفان بمولود جديد لم يكن مصيره أفضل من مصير أخيه، ثم رزق ثالثًا كان مصيره مثل مصير أخويه. ففقد أسطفان صبره ولم يعد يقوى على اللإحتمال.
لما ولد الرابع، أشارت إحدى عجائز القرية بتسمية المولود الجديد بإسم أحد الوحوش ليردوا عنه القرينة التي خنقت إخوته، رغم أن والدته كانت قد أخذت بركة عن مذبح كل قديس، وأكدت العجوز أن هذه الطريقة أنقذت العديد من المواليد، سمي المولود الجديد فهدًا، إلى أن جاء يوم العماد، رفض الخوري تعميد المولود ما لم يكن بإسم أحد القديسين، فأشار الجد للخوري بأن يختار للمولود إسمًا يرتضيه، عندها عمّده الخوري باسم القديس ساسين، فنذرت الأم بأن تطيل شعر ولدها، وأن تقصّه في تمام السنة الرابعة، يوم عيد القديس ساسين وفي مقامه، وأن تقدّم للمقام وزن شعر الطفل ذهبًا. وهكذا كان.
تبيّن لنا قصة أسطفان العقلية الشعبية السائدة، حيث الإعتقاد بالقرينة وكيف أن التسمية بإسم القدّيس ووفاء النذور له تبعد الخطر عن المولود، كما تبقي القديس حاميًا له. كذلك كيفية علاج الأمراض بالأعشاب أولًا ثم “آخر الدواء الكي”، عملًا بالمثل القائل “العلة اللي ما بتعرف تداويها كويها”.
إن الإعتقاد الشعبي يهدف إلى إعطاء النفس قليلًا من الطمأنينة والراحة في هذا العالم، خاصة أمام المجهول، وفقدان الأحبة دون أي مسوّغ مفهوم. لذا يتم اللجوء إلى وسيلة غير مفهومة من ذات جنس الداء!
بالطبع لتسمية المولود خصوصية رمزية، تحتاج إلى تأمل وتدقيق، لكن ما أردته هنا هو الإشارة إلى حالة خاصة ضمنها. إذ تحاول ثقافة المجتمع الحفاظ على إستمرارية النسل في مواجهة مخاطر “سحرية” غير مفهومة لها، فتتبع أسلوبًا نابعًا من مخزونها.
هل يتشابه مع ثقافات أخرى؟ هل له أبعاد ميثولوجية؟
هذا مجال بحث آخر.
كاتب المقال: د. رامي ناصر: باحث أنثروبولوجي من لبنان، خبير في دراسة الواقع وإعداد خطط التنمية الإستراتيجية، مؤسس ورئيس جمعية «تشارك» التشارك والتشبيك للعمل الإنمائي، مسؤول فريق إعداد الخطط في وكالة التخطيط والتنمية – البقاع (لبنان)، مشارك ومعد لأكثر من ورقة بحثية في الأنثروبولوجيا الثقافية وفي التاريخ الريفي، مهتم بمواضيع التراث الشعبي والتراث الثقافي اللامادي.
البريد الإلكتروني: ramihnaser@yahoo.com