د.عز الدين دياب*
كثيرة هي العلوم والتقنيات والصناعات التي يحتاج إليها الوطن العربي من أجل أن ينهض ويتقدم. فالنهوض لا يتم من فراغ، وإنما لا بد من أدواته أو آلياته واحتياجاته.
وإذا، كان الوطن العربي بحاجة ماسة إلى التقنية بكل أبعادها من أجل أن يظفر بمعركة المستقبل، فإنه بحاجة ماسة أن يفهم نفسه، وأن يتعرف على مشكلاته وأن يعي وعياً منهجياً أن العلاقة بين الوطنية والقومية علاقة عضوية وجدلية لا تنفي إحداهما الأخرى. بل أن الوطنية هي القومية، والقومية هي الوطنية.
غير أن هذه العلاقة بين الوطنية والقومية، وما بينهما من تناوب أدوار حضارية واعتمادات وظيفية متبادلة بين الأبنية الاجتماعية العربية بحاجة إلى فهم شعبي، وإلى وعي علمي ومنهجي جامعي “أكاديمي” بها حتى تصبح مفهومة ومدركة ومعروفة إيجابياتها، وما هو كائن وما يجب أن يكون.
إلا أن هذه المعرفة تحتاج إلى أدواتها وعلومها وأبحاثها ودراساتها. وفي ظني أن العلم الأنثروبولوجي هو أحد أهم هذه العلوم النظرية التي يحتاج إليها الوطن العربي في معرفة نفسه، لأنه العلم الذي يدرس الإنسان العربي، ويتناول بالتحليل ظروفه البيئية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقيمية… إلخ.
والعلم الأنثروبولوجي هو الذي يدرس التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والشخصية العربية، لأن الثقافة في التحليل الأخير هي مرآة المجتمع التي يرى فيها نفسه.
وما دام العلم الأنثروبولوجي على هذا النحو فإننا سنحاول أن نلقي نظرة على أقسامه أو فروعه، أو قل بشكل أصح الموضوعات التي يدرسها. وسنجعل النظر يقرأ عناوين العلم الأنثروبولوجي وفروعه مثل: الأنثروبولوجيا الطبيعية التي تدرس الإنسان من حيث تكوينه العضوي وما حدث لهذا التكوين من تكور وتغير. وإنتاج الإنسان المادي خلال المراحل التاريخية المتعاقبة. والأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تدرس وتحلل وتنقب في البناء الاجتماعي أياً كان مستواه وبعده الوطني والقومي. والأنثروبولوجيا الثقافية التي تدرس العلاقة المتبادلة بين الشخصية والثقافة وما ينتج عنهما من سلوك اجتماعي وسياسي ونفسي ومعالم وملامح… إلخ. وأنثروبولوجيا التنمية التي تدرس الواقع الاجتماعي وتتعرف على محدداته الثقافية والاجتماعية ومشكلاته، والصعوبات التي يعانيها، والخطط والبرامج اللازمة حتى يتجاوز مشكلاتها. والأنثروبولوجيا العامة التي تتضمن أنواع عدة من مواضيع الأنثروبولوجيا فتبدأ بدراسة أصل الإنسان، وتمر بتاريخ الأنثروبولوجيا، وتنتهي بالمدرسة الأنثروبولوجية النقدية أو العلم الأنثروبولوجي النقدي.
وسنتوقف قاصدين ومؤكدين، أمام العلم الأنثروبولوجي النقدي باعتباره العلم الأنثروبولوجي الذي أخذ على عاتقه دراسة تاريخ الأنثروبولوجيا. أي بداياته ومراحله مروراً حتى هذه اللحظة. ويوجه هذا العلم النقد إلى تراث العلم الأنثروبولوجي، وخاصة المدرسة الأنثروبولوجية التي نشأت في ظل الاستعمار وخدمته، وقدمت له المعلومات اللازمة حتى يتمكن من السيطرة على الشعوب المستعمرة وتحقيق مصالحه على حسابها وحساب مستقبلها. واستمرت الحركة النقدية حتى أتت بالنقد على المدرسة البريطانية والأمريكية. وخاصة التوظيف الاستعماري للعلم الأنثروبولوجي، والمركزية الأوربية(1) ((وصياغة إشكالية الأنثروبولوجيا في عالم ما بعد الاستعمار، وتأسيس آراء جديدة تتسم بالنقد والطابع التحرري والمسؤولية الإنسانية)).
إنّ القراءة المتأنية للأنثروبولوجيا النقدية. أو ما يسميه بعض علماء الأنثروبولوجيا الاتجاه النقدي في الأنثروبولوجيا وتظهر أن النقد انطلق من أعماق الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية، لما في هذه الدراسات من تحوير للمفاهيم، وقسر للمقولات والمصطلحات. وكان النقد موجهاً في الأساس لا إلى فكر البدايات، وإنما إلى استعمالات هذا الفكر وتوظيفه من قبل المدرسة الاستعمارية، وخدمة لأغراضها المعادية لمصالح الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها.
وإذا، كان تاريخ العلم الأنثروبولوجي لا ينكر على الإطلاق أن المدرسة الاستعمارية، وخاصة تلك الموجودة في ردهة من ردهات الخارجية البريطانية لعبت دوراً مهماً في تأسيس العلم الأنثروبولوجي، ومن ثم تطويره. إلا أن بعض علماء هذا العلم كانت تتنازعهم رغبة التحرر من هذه المدرسة، والانطلاق إلى دراسة المجتمعات مدفوعين بغايات إنسانية ومنهجية، من أجل أن يفهم العالم نفسه، وما له وما عليه، وما هو المطلوب منه حتى يظفر بالتقدم وخاصة المجتمعات الأقل تطوراً وتقدماً في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.
وكانت بداية النقد موجهة إلى الاتجاه الوظيفي وإلى استعمالاته المنهجية، وأيضاً إلى المغالاة في وظيفة الثقافة، وكأنها واحدة من أقدار الشعوب. مثلها في ذلك مثل الحتمية التي قالت بها المدرسة أو الاتجاه الماركسي. وتمكن النقد الأنثروبولوجي من القول بالنسبية الثقافية التي ترى أن الثقافات متعددة ومتنوعة بتنوع الأمم. وهي أيضاً متنوعة(2) داخل الأمة الواحدة، لأن الثقافة في الأساس ليست ثابتة، وإنما هي في حالة تغير وتبدل وتطور. وإن المقارنة بين ثقافة مجتمع وآخر لا تعني على الإطلاق أن ثقافة مجتمع (أ) أفضل من ثقافة مجتمع (ب). وهذا معناه مناهضة المركزية الأوربية الثقافية، والابتعاد عن الغلو في استعمال معايير ثقافية مُعَدّة لإدانة ثقافة أخرى والقول بأنها “متخلفة” أو “بدائية” أو “راكدة” لأن الحتميات قد خضعت للمراجعة والتحليل والنقد من قبل العلم الأنثروبولوجي النقدي، بحيث جعلها تقف أمام نفسها من أجل أن تعرف نقاط ضعفها. وكذلك تخطي النزعة الحتمية المبالغ فيها، أو تلك التي تُبسِّط أوضاع الكثير من القضايا الاجتماعية. كما واجه بحدة الأنثروبولوجيا النقدية في تحذير العلم الأنثروبولوجي والعاملين في حقله من ضغط الحكومتين الأمريكية والبريطانية، اللتين أرادتا أن تضعا العلم الأنثروبولوجي في خدمة أغراضهما. وخاصة تلك الدراسات التي تمت عن الشخصيات الاجتماعية، ووضعت في مراكز البحث الأمريكي الإمبريالي ومختبراتها الثقافية بحثاً عن طابع النزعات والانقسامات في الشخصية حتى يتم التغلب عليها. ومن جملة المواقف النقدية التي وقفتها الأنثروبولوجيا النقدية أمام الخلاف الذي دار بين أكثر من اتجاه أنثروبولوجي حول السؤال الإشكالي الهام الذي يدخل في عمق الفكر الأنثروبولوجي وهو: أين يكمن الضعف والخلل في العلم الأنثروبولوجي؟ هل في الباحثين الأنثروبولوجيين أم في النسق المعرفي؟ أم في أسلوب توظيف العلم الأنثروبولوجي خلال دراسة المجتمعات غير الأوربية؟
وكان جواب الأنثروبولوجيا النقدية واضحاً في أن الفكر الأنثروبولوجي يحتاج إلى المزيد من المراجعة النقدية من أجل إغناء نسقه المعرفي بالمفاهيم والمصطلحات والأطروحات التي تجعله أكثر علمية ومنهجية، مثله في ذلك مثل العلوم الاجتماعية التي لم تصل حتى هذه اللحظة في دقة نسقها المعرفي وسلامته إلى مستوى العلوم الطبيعية والرياضية، الأمر الذي جعل العلم الأنثروبولوجي في كثير من دراسته لا يفهم ولا يرى الواقع المدروس من قبله فهماً علمياً ومنهجياً. وهذا سببه في رأي بعض الباحثين الأنثروبولوجيين يعود إلى النسق المعرفي وآليات التحليل الموجودة في بعض الاتجاهات الأنثروبولوجية التي تقرر بعض الأحكام التي لا تنطبق على الواقع. أما الرأي الآخر الذي يراه بعض الأنثروبولوجيين فإنه يتعلق بأخلاقيات البحث العلمي التي يمارسها بعض الباحثين الأنثروبولوجيين والمتمثلة بنزوعهم إلى إضفاء بعض النتائج على أبحاثهم المخالفة أصلاً للواقع المدروس من قبلهم.
وكان للأنثروبولوجيا النقدية وقفتها الرصينة والمنهجية أمام الأنثروبولوجيا الثقافية، وخاصة الاتجاه الوظيفي الذي استعمل استعمالات واسعة من قبل هذا العلم في دراسة ثقافة الشعوب والعلاقة الموجودة بين الثقافة والشخصية، وما يتمخض عنها من تأثير متبادل بين الطرفين.
وكانت البداية في هذا النقد القول: إنه لا توجد ثقافة “بدائية”، وإنما توجد ثقافات محكومة في وجه من