زاهيد مصطفى
منشور بمجلة الفكر العربي المعاصر العدد152/153
”لاحظ الإنسان بصفة عامة الفروق القائمة بين شعوب الجنس البشري و اهتم بمعرفة الطبيعة الإنسانية للإنسان و تفسير الاختلافات في الملامح الجسمية ،و لون البشرة و العادات و التقاليد و الفنون و غير ذلك من مظاهر الحياة، وفي إطار هذا الإهتمام و التساؤل تطورت الدراسات خلال العصور و تبلورت بنشأة فرع جديد من فروع المعرفة، اصطلح على تسميته بالأنثروبولوجيا”1 أو علم الإنسان ،فما هي الأنثروبولوجيا؟ وكيف ظهرت الأنثروبولوجيا كعلم قائم الذات و كتخصص أكاديمي ؟ هل يوجد في القديم علم إسمه الأنثروبولوجيا ؟هل الأنثروبولوجيا وليدة القرن التاسع عشر؟ أم أنها حصيلة تراكم معرفي حتم الشرط التاريخي اكتمال معالمه و قيامه كفرع معرفي جديد في القرن التاسع عشر؟وأخيرا ما هي أهم الإتجاهات النظرية داخل حقل الأنثروبولوجيا؟
حول تحديد المفهوم
يختلف تعريف مفهوم الأنثروبولوجيا باختلاف المرجعيات الثقافية للباحثين الأنثروبولوجيين، فهناك من يستخدم مفهوم الأنثروبولوجيا كمفهوم عام ليشمل كافة النواحي الإجتماعية و الثقافية للإنسان، أي: دراسة الإنسان ككل معقد ،و دراسة إنتاجه عبر التاريخ من ثقافة و تقاليد و عادات و معتقدات، و هناك من يطلقها لتقتصر على ما هو عضوي أو حيوي في الإنسان ”فيستخدم الأمريكيون مصطلح الأنثروبولوجيا الجسمية، الفيزيقية Phisical Anthropology للإشارة إلى دراسة الجانب العضوي أو الحيوي في الإنسان، بينما يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology ليعني مجموع التخصصات التي تدرس النواحي الاجتماعية و الثقافية لحياة الإنسان (يدخل في ذلك الدراسات التي تتعلق بحياة الإنسان القديم أو حضارات ما قبل التاريخ)2″ . فإذا كان هذا الإهتمام بالأنثروبولوجيا كعلم يدرس الثقافة البشرية، بمعناها الشامل داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فإن في فرنسا نجد العكس، فقد ارتبط مفهوم الأنثروبولوجيا بدراسة التاريخ الطبيعي للإنسان، و يذكر الباحث الفرنسي جان بواريه G.Poirier: أنها ظهرت أولا في كتابات علماء الطبيعة إبان القرن الثامن عشر، لتعني دراسة التاريخ الطبيعي للإنسان L’histoire naturelle de l’homme ، وربما كان عالم الطبيعة الألماني جوهان بلوميناخ في رأي بواريه أيضا أول من أدخل كلمة’الأنثروبولوجيا ‘ في منهج تدريس التاريخ الطبيعي بالمقررات الجامعية، كما استخدمها في الطبعة الثالثة من كتابه الذي صدر عام 1795 تحت عنوان ”عن التنوعات الطبيعية الجوهرية ‘ بين البشر”3، و إذا كانت الأنثروبولوجيا علما يهتم بدراسة الثقافات و التقاليد و العادات و كل ما يتعلق بالإنسان، يعني دراسة ذلك الكل المعقد الذي يسمى ثقافة ،فإن هذه الدراسة تحتاج إلى مادة لتقوم بتحليلها وهذه المادة توفرها الإتنوغرافيا و التي شكلت على الدوام إرهاصا تاريخيا لحقل معرفي سمي بالانثروبولوجيا.وحول مصطلح الإتنوغرافيا ”نجده يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة و مجموع التقاليد و العادات و القيم و الأدوات و الفنون و المأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة” بيد أن الأنثروبولوجيا تختلف عن الإتنوغرافيا، فهي لا تعتمد على أسلوب الوصف فقط، بل تتعداه إلى تحليل هذه المادة الوصفية،وإلى تركيبها بهدف الوصول إلى تصورات نظرية، فهي ”تهتم بالدراسة التحليلية و المقارنة للمادة الإتنوغرافية بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو تعميمات بصدد مختلف النظم الاجتماعية و الإنسانية من حيث أصولها و تطورها و تنوعها ،وبهذا تشكل المادة الإثنوغرافية قاعدة أساسية لعمل الأنثروبولوجي، فالأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا مرتبطتان إذن و تكمل الواحدة الأخرى”5
قد يكون هذا الاقتضاب المخل لا يفي بالغرض ،غير أنه يفي ببعض الغرض، وجدير بخلق إرهاص للطالب حول إشكالية تحديد مفهوم الأنثروبولوجيا بشكل عام و تحديده بحسب المرجعية الثقافية لكل مدرسة أنثروبولوجية بشكل خاص
التأصيل التاريخي للأنثروبولوجيا
تزامن تبلور حقل معرفي جديد إسمه الأنثروبولوجيا بتوالي الكتابات حول تاريخ تبلور هذا الحقل المعرفي، وذلك لتعريف بالجذور المعرفية و الأصول النظرية لهذا الحقل ” وباطلاعنا على عدد من الكتابات عن تاريخ الانثروبولوجيا يمكن القول بصفة عامة :أنه بالرغم من تعدد الإتجاهات في تناول هذا الموضوع، إلا أنه يمكن أن نشير إلى ثلاث مقاربات رئيسية، هناك أولا: من تناول الأنثروبولوجيا من خلال العرض لمجموعة من الرواد الأوائل لهذا العلم و المحدثين على السواء ”6 و هناك من تطرق لهذا العلم الجديد عبر المراحل التاريخية التي مر منها و اعتبر الأنثروبولوجيا نتيجة لإسهام حضارات إنسانية،حيث لم تخلوا مرحلة تاريخية من وجود إرهاصات لفكر أنثروبولوجي ،ونحن نميل إلى العرض التاريخي الذي يوفي الفكر البشري حقه ويجعل إسهامه بعيدا عن أي نزعة ذاتية،صحيح: أن الأنثروبولوجيا كعلم لم تتبلور إلا في أواخر القرن التاسع عشر، لكن وصف ثقافة الشعوب قد جدب العديد من المفكرين و الرحالة و المستكشفين و حاول بعضهم إعطاء تفسيرات لهذه الاختلافات ،و إذا كان الإختلاف لا يدرك لذات إلا عن طريق المقارنة و الإتصال. فالحروب و الرحلات التجارية و الإستكشافية و كذلك البعثات التبشيرية مثلا ساهمت في حدوث اتصال بين الشعوب، ففي الحضارة المصرية شكلت الرحلات التجارية نقطة التقاء بالأخر و التعرف عليه ثقافيا و اجتماعيا و في هذا الصدد” يكتب مودي في عرضه لتاريخ الإتنوغرافيا بأن الرحلة التي قام بها المصريون القدماء عام 1493 ق.م تعد من أقدم الرحلات التاريخية على الإطلاق ذلك حين أبحر في النيل صوب جنوب مصر أسطول مكون من خمسة مراكب، و على متن كل مركب واحد وثلاثون فردا ،و ذلك بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شكلت آنذاك البخور و العطور،وقد نتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام إفريقيا، و تأكيد لإقامة علاقات معهم فيما بعد، فقد صورت النقوش في معبد الدير البحري إستقبال ملك و ملكة بلاديونت لمبعوث مصري ،كما أوضحت النقوش كذلك بعض تفاصيل الصفات الجسمية لتلك الشعوب وبدا واضحا ما اتصف به أهل المملكة من تراكم السمنة بإفراط ” 7 ولم يكتف الإسهام بأفكار أولية عن الأنثروبولوجيا فقط على الحضارة المصرية، بل حتى في الفكر الإغريقي نجد مادة وصفية جاءت في كتابات عدد من الكتاب الإغريق مثل الشاعر اليوناني هوميروس Homier الذي عاش خلال القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد، و صاحب ملحمتي الإلياذة و الأوديسة، غير أن أشهر من نجد في كتاباته بوادر فكر أنثروبولوجي داخل الفكر الإغريقي فهو المؤرخ: هيرودوت الملقب بأب التاريخ ” ففي كتابه ‘التواريخ’ حرص هيرودوت على تقديم كل ما يستحق التسجيل عن التاريخ الإنساني حتى زمانه، فقد قدم معلومات في تسعة فصول عن حوالي خمسين شعبا من خلال رحلاته و قراءاته وذلك إلى جانب وصفه الدقيق للحرب التي دارت بين الفرس و الإغريق إبان القرن السادس قبل الميلاد ”8 ولم يكتفي هيرودوت عند هذا الحد بل كان يصف المعتقدات و العادات و يقارن بين الشعوب و بين معتقداتها و عاداتها و في هدا الصدد يقول : ”وفي غير مصر يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أما في مصر فيحلقونها، و يقضي العرف عند سائر الشعوب بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم أثناء الحداد و لكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت فيطلقون شعر الرأس و اللحية”9
إن المادة التي قدمها هيرودوت برأي الأنثروبولوجيين هي عبارة عن إرهاص لفكر أنثروبولوجي سيتبلور في القرن التاسع عشر، لكن إلى أي حد و كيف يمكن اعتبار هيرودوت أول باحت أنثروبولوجيا بصفة عامة و مؤسس إثنوغرافيا بصفة خاصة؟
تكمن أهمية هيرودوت في كونه استطاع في ذلك الوقت المبكر أن يطرح فكرة وجود تنوع بين الشعوب في النواحي الثقافية و السلالية و اللغوية و الدينية و العقائدية …ولم يفت هيرودوت أن يشير إلى عناصر التبادل الثقافي و اقتباس الشعوب بعضها من بعض و هو ما سيتبلور داخل حقل الانثروبولوجيا بمفهوم التثاقف و الإنتشار الثقافي مع المدرسة الإنتشارية، وبصدد نقطة الانتشار و التثاقف بين الشعوب كتب هيرودوت أن الإغريق قد أخذوا عن الليبيين الثياب و الغناء و العربات و يقول هيرودوت في الفقرة 189من النصوص الليبية:” يبدو أن ثوب و درع وتماثيل أثينا نقلها الإغريق عن النساء الليبيات غير أن لباس النساء الليبيات جلدي و أن عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان “10
وفي العصر الروماني سيبتعد الفكر عن التجريد الذي ميز الإغريق و البحث في المسائل العقلية الخالصة ويتجه نحو الواقع الملموس، و مع ذلك ينفي الأنثروبولوجيون أي وجود لإرهاصات فكر أنثروبولوجي في الحقبة الرومانية باستثناء أشعار كروس لوكريتيوسlecretuis (98-55 ق.م) التي احتوت وبلا شك بعض الأفكار الإجتماعية الهامة.إن القارئ لكتابه ‘طبيعة الأشياء’ الذي نشرت ترجمته الانجليزية في سلسلةpenguin يجد أن لوكريتيوس تناول عدة موضوعات في ستة أبواب رئيسية و ضمنها أفكاره و نظرياته عن المادة ،و حركة و شكل الأجرام السماوية و تكوين العالم مثلا، تطرق في الباب السادس خاصة إلى إلى فكرتي التطور و التقدم حيث تحدت عن الإنسان الأول و العقد الإجتماعي و نشأة اللغة ونظامي الملكية و الحكومة إلى جانب مناقشته للعادات و التقاليد و الفنون و الأزياء و الموسيقى، ويرى بعض الأنثروبولوجيين أن لوكريتيوس إستطاع أن يتصور مسار البشرية في عصور حجرية و برونزية ثم حديدية “11غير أن تدهور الإمبراطورية الرومانية صاحبه انتقال إلى العصور الوسطى والتي تحدد بنهاية الإمبراطورية الرومانية حتى عصر النهضة حسب التحقيب الأوربي. و يذكر لنا المؤرخون أنه مع نهاية القرن الخامس الميلادي تقريبا بدأت السلطة بروما في التدهور و الإنهيار ودخلت أروبا في فترة زمنية طويلة ترتبط عادة في أدهان الأوروبيين بالنكسة الحضارية و ارتداد الفكر إلى حقبة مظلمة، و تعرف هذه الحقبة بالعصور الوسطى”13 وعلى أنها حقبة سيطرت فيها الكنيسة و الفكر اللاهوتي سيطرة مطلقة على جميع الجوانب الفكرية و الاجتماعية و الثقافية، حيث أصبحت المعرفة خاضعة لسلطة المؤسسة و معبرة عن إيديولوجيتها ممثلة في الكنيسة آنذاك المالكة للحقيقة برأي رجال الدين .
و عن صلة هذه الحقبة بالفكر الأنثروبولوجي ،يمكننا أن نستشفه من الموقع الجغرافي لأوروبا و الذي جعلها تنظر إلى الشعوب التي تقطن المحيطات الأخرى بكونها متبربة و رمز الخطيئة الأبدية. هذا الجهل بعادات تلك الشعوب و تقاليدها إضافة إلى التمركز الذاتي حول الدين المسيحي الذي فرضته الكنيسة كنموذج للخلاص جعل الأوروبيين يتجهون إلى تطهير ذاتهم عن طريق الغزو و الحروب رغم ظهور إرهاصات للكتابة حول تلك الشعوب، إلا أن الوصف جاء غالبا في إطار من التخيل و ليس المشاهدة المباشرة،فنجد مثلا أن الأسقف ‘إيزدور ISDOR كان قد أعد موسوعة عن المعرفة في القرن السابع الميلادي وأشار فيها إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة و عاداتهم و لكن بطريقة عفوية تتصف بالسطحية و التحيز، فقد ذكر مثلا أن قرب الشعوب أو بعدها عن أوروبا يحدد درجة تقدمها، فكلما كانت المسافة بعيدة كلما كان الإنحطاط و التدهور الحضاري مؤكدا ،وليس هذا فحسب ،بل : إنه وصف أولئك الناس الذين يعيشون في أماكن نائية بأنهم سلالات غريبة الخلقة حيث تبدو وجوههم بلا أنوف” 14 ولم يتوقف البحت الإتنوغرافي الذي شكل بدايات الفكر الأنثروبولوجي في القرن التاسع عشر على الأوروبيين ولم يبقى حكرا عليهم، بل كانت هناك إسهامات للحضارة الإسلامية و على سبيل الإيضاح: نشير هنا إلى كتاب البيروني عن الهند لما حضي به من شهرة كبيرة في الدوائر العلمية الأوروبية ولما احتواه من مادة إثنوغرافية هامة ففي هذا الكتاب الذي حمل عنوان ”تحريرما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مردولة ” وصف البيروني المجتمع الهندي من ناحية نظمه الدينية و الإجتماعية و أنماطه الثقافية ،كما اهتم أيضا بمقارنة تلك النظم و السلوكيات الثقافية بمثيلاتها عند اليونان و العرب و الفرس و قد أبرز البيروني حقيقة أن الدين يلعب الدور الرئيس في تشكيل الحياة الهندية و توجيه سلوك الأفراد و الجماعات و صياغة القيم و المعتقدات ”15
عصر النهضة :التحول الكمي و الكيفي في نظرية علم الإنسان
تكمن أهمية عصر النهضة بالنسبة للأنثروبولوجيا في المادة الإتنوغرافية التي توافرت فيه و التي تعتبر عملا أوليا في المعرفة الأنثروبولوجية ،فمن خلال تدوين سير الرحالة وما يشاهدونه ومن خلال وصف الأقاليم و الشعوب الغير أوروبية وقف العقل الأوروبي على حقيقة الجنس البشري و على تنوعه و تنوع إنتاجه الحضاري ” و هو الأمر الذي جعل المؤرخ الفرنسي ميشيليهMICHELET (1894-1798) يصف عصر النهضة بأنه كشف للعالم و للإنسان ” و في هذا يكمن في حقيقة الأمر موضوع الأنثروبولوجيا وهدفها أيضا، لذلك يجد المؤرخ لتاريخ الأنثروبولوجيا أو الكاتب لقصتها أن لعصر النهضة ينابيعه الأنثروبولوجية الأصيلة و العميقة التي تتمثل في تحصيل المعرفة عن ثقافات لم تكن معروفة من قبل ” 16كما لا يمكن إغفال الدور الحاسم لرحلات الإستكشافية الأوروبية و لعل أهمها ذاك الحدث الذي غير مجرى التاريخ و مجرى الفكر كذلك ألا و هو اكتشاف العالم الجديد عبر رحلة كريستوف كولومبس (1886-1481)”فمن الناحية الأنثروبولوجية نجد أن مذكرات كولومبس عن رحلته و مشاهداته و اتصالاته مع ”أهالي” العالم الجديد قد زخرت بالمعرفة و البيانات و الشخصيات الإتنوغرافية و في الحقيقة أن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل اتصفت كتابات كولومبس أيضا بميل نحو الموضوعية محاولا تقصي الأسباب وراء ما شاهده أو سمع عنه من تقاليد أو طقوس أو ممارسات يومية، وتلك صفة قلما وجدت في الكتابات الإتنوغرافية التي كانت سائدة حينذاك ”17 ولم يتوقف إسهام الإكتشافات الجغرافية فقط عند هذا الحد بل أعاد النظر في الأحكام القيمية التي كان الأوروبيون يصدرونها على الشعوب الأخرى، وكلها كانت تتعلق بنفي آنتمائها لنفس الوحدة البيولوجية التي ينتمي إليها النوع البشري، و في هذا الصدد ”يشير جوزيف جيرنبرخ إلى بعض تلك التساؤلات على النحو التالي ” هل الشعوب التي لم تعرف من قبل و التي أمكن التعرف عليها عن طريق الإستكشافات تنتمي إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه الإنسان الغربي، و من تم يتحتم المحافظة على أرواحها ؟ ” و في ضوء ما تقدم يمكن القول أن الإستكشافات الجغرافية ساهمت جنبا إلى جنب مع الإتجاه العلمي، علاوة على سيادة المذهب الإنساني ، بل قد أثروا جميعهم و لا شك ولو بدرجات متفاوتة وفي مجالات متباينة في تشكيل منطلقات الفكر الاجتماعي النظري وفي إبراز اهتمامات جديدة في مجال دراسة الإنسان الأوروبي و غيره ” 19
كل هذا، شجع على الإهتمام بالإنسان و بدراسته و بتطوره و تطور نتاجه الثقافي و اختلافه، فظاهرة التنوع الحضاري بين البشر الذي أبرزته و أكدته كتابات الرحالة ،جعل الأوروبيين يتجهون نحو فحص الذات و التأمل في أحوالهم،أجل فعلوا ذلك عن طريق المقارنة بين أنفسهم وبين الشعوب المكتشفة في ضوء ما ورد عنها من كتابات و أوصاف،لأنه قد ساد بصفة عامة نوع من التأملات التجريدية و الرومانتيكية عن الحيات البدائية و الطبيعية و ربما ترجع أولى المحاولات لتدوين المادة الإتنوغرافية و التنظير بشأنها إلى الرحالة الإسباني جوزيه اكوسا j’Acosa في القرن السادس عشر حينما حاول ربط ملاحظاته الشخصية عن السكان الأصليين في العالم الجديد ببعض الأفكار النظرية، فقد افترض مثلا أن الهنود الحمر كانوا قد نزحوا أصلا من أسيا إلى أمريكا و بذلك فسر اختلاف حضارتهم عن تلك التي كانت سائدة في أوروبا حينذاك، كذلك قدم أكوسا فرضا أخر حول تطور الحضارة الإنسانية عبر مراحل معينة ،وقفت فيها أوربا بأعلى الدرج و أتت بعدها الصين في المرتبة الثانية لمعرفتها الكتابة بينما احتلت المكسيك مرتبة أدنى من ذلك، أما المجتمعات الأخرى فقد تم تصنيفها على درجات متباينة في أسفل الدرج وقد أقام أكوسا تصنيفاته على أساس معرفة الشعوب بالكتابة و القراءة ”20
ولم يعد الوصف كافيا بل بدأ المفكرون و الباحثون في استخلاص أفكار نظرية من تلك المادة الإتنوغرافية التي يوفرها المستكشف أو الرحالة مثلا، و لم تعد الكتابات تستمد مصداقيتها من الخيال بل أصبحت تتجه نحو البحث الميداني و كانت أهم الخطوات في مجال البحث الميداني ضمن حقل الأنثروبولوجيا تلك التي قام بها الفرنسي ميشيل دي مونتاني m.de montaigne (1892-1532)الذي أجرى مقابلات مع مجموعة من السكان الأصليين الذين كان بعض المكتشفين قد أحضروهم إلى أوربا، و استخدم مونتاني هؤلاء الأسرى كإخباريين أي أنه جمع منهم معلومات عن العادات و التقاليد السائدة في موطنهم الأصلي و خرج من ذلك بمقولة أنه لفهم العالم لابد من دراسة التنوع الحضاري للبشر و استقصاء أسبابه، لذلك يتسنى لأوروبا أن تفهم ثقافات الشعوب الأخرى باعتبار أن لها منطلقاتها و أخلاقياتها الخاصة بها و بالتالي نجد هذا الفيلسوف الفرنسي قد طرح مقدما فكرة ” النسبية الأخلاقية Moral Relativity” على حد تعبير ايدموند ليتش و قد كتب مونتاني يقول ” بأن الوضع الحضاري الذي يصفه البعض بالهمجية ليس إلا وصفا حضاريا مماثل لما لدى الأوربيين، فمن المحتمل في نظره أن يكون المجتمع الأوربي ذاته قد مر بمرحلة مماثلة (يقصد الهمجية ) الأمر الذي تطلب ضرورة فحص التطور الحضاري للمجتمع الأوربي ذاته ”21و إلى جانب مونتاني نشير إلى عالمين فرنسيين آخرين من مفكري القرن الثامن عشر واللذان يرى الأنثروبولوجيون في أعمالهما جذورا للفكر الأنثروبولوجي النظري وهما البارون دي مونتسكيوB .de Montesquieu (1758-1689) و جان جاك روسوJ.Rousseau (1778-1711).
إن أهمية مونتسكيو بالنسبة للأنثروبولوجيا الإجتماعية بصفة خاصة تبدو أول وهلة عندما تطلع على كتاب إيفانز بريتشارد بعنوان ‘تاريخ الفكر الأنثروبولوجي’ فنجده يبدأ بمونتيسكيو، أما عن جان جاك روسو الذي يعتبره كلود ليفي شتراوس بمثابة ‘المعلم و الأخ’ و الذي تأثر به تأثرا كبيرا وهو ما سنوضح فيما بعد فقد جاء فكره مناقضا لمونتيسكيو و غيره من فلاسفة عصر الإستنارة المتفائلين و الذين اعتقدوا في التقدم ،فقد رأى روسو أن الإنسانية تسير نحو طريق مسدود و لا مجال نحو التقدم و الكمال و مع ذلك تحتل كتابات روسو مكانة هامة عند التأريخ للأنثروبولوجيا في القرن الثامن عشر نظرا لما تضمنته من تناول للمادة الإتنوغرافية عن الشعوب المستكشفة (أو ما اصطلح على تسميتها آنذاك بالمجتمعات البدائية ) في إطار من المقارنة مع المجتمعات الغربية و الخروج ببعض الأفكار و الأطر النظرية في فهم مسار التاريخ الإنساني ككل و تحديد مراحل تقدم البشرية ، و في هذا الصدد تميز روسو و لا شك عن معاصريه من ناحية أن تفكيره في التاريخ لم يكن مقيدا بحدود حضارية أو زمنية ،و لعل من الأشياء الهامة في كتابات روسو من وجهة نظر الأنثروبولوجيا أنه استطاع أن يخلص نفسه من التحيز الثقافي لمجتمعه، و أن ينقد قيمه بينما يشيد و يستحسن طرق حياة الشعوب بالمجتمعات الأخرى و يعتبر كتابه العقد الاجتماعي le contrat sicial من بواكير الكتابات الأنثروبولوجية” 22
مرحلة النشأة الأكاديمية
لن نتحدث الآن عن امتداد لإرهاصات فكر أنثروبولوجي داخل كتابات الرحالة و الأركيولوجيين و الفلاسفة، بل سنتحدث عنها كعلم أكاديمي و عندما نقول علم يعني علم له ظواهره الخاصة التي يدرسها و له مناهجه التي يستعملها في إقامة البراهين و إنشاء الفروض، إن الأنثروبولوجيا بدأت تحقق هذا المسعى نظرا لتوفر الشرط التاريخي و الإطار النظري و الأزمة المعرفية الضرورية لقيام أي علم من العلوم ،فرغم كون الأنثروبولوجيا لها جذور تاريخية “إلا أنها اتخذت لنفسها طابعا أكاديميا متخصصا، و بدأت في بلورة موضوعاتها، و مناهجها المميزة في القرن التاسع عشر و خلال النصف الثاني منه على وجه التحديد “23.
لقد كان كل شيء يتجه نحو العلمية لقد أصبح القرن التاسع عشر عصر العقل و التجربة فلا إيمان بحقيقة مطلقة متعالية على الواقع ولا وجود لواقع منظم خارج حدود العقل فكل شيء يمكن ضبطه عن طريق الرصد و الملاحظة الدقيقة و في هذا الصدد يقول براون بأنه قد” ساد الإعتقاد في هذا القرن بأنه في حالة ظهور بعض الإنحرافات أو مظاهر من التناقض في نظام الطبيعة ،فإنه يمكن التوفيق بينهما بمزيد من الدقة و من الرصد و التجربة 24 “.
لقد كان للنزعة العلمية التي عرفتها أوروبا نتيجة للثورة الفرنسية و تضافر مجموعة من العوامل السياسية الممثلة في الثورة الفرنسية وعوامل اقتصادية ممثلة في الثورة الصناعية وعوامل فكرية ممثلة في الثورة العلمية التي جاءت لسد الثغرة المعرفية التي خلفتها السلطة الكنسية لرجال الدين على الفكر ،وحينما أقول ثورة علمية لا أشير فقط إلى ذلك اللفظ المبتذل في الأدبيات الكلاسيكية والذي يقصر الثورة العلمية على القرن الثامن والتاسع عشر فقط ،بل أطلق لفظ ثورة علمية ليشمل ذلك الحدث العلمي المثير الذي انطلق مع كوبرنيكوس وديكارت والذي أعلن معه ميلاد الإنسان الحديث الذي بدأ ينزل الأشياء من عليائها ويشكك في الثابت والمتحرك .باحثا عن قوانين تباته وحركته.
كان العامل الحاسم الشرط التاريخي و الإطار النظري المتراكم الذي بلور هته النزعة العلمية، التي نادى بها مجموعة من العلماء” و يجدر التنويه هنا بدعوة أوكست كونتA .Comte (1857-1798) إلى إنشاء علم وضعي لدراسة شؤون الإجتماع الإنساني، كان هذا كله بمثابة علاج لحالة الفوضى السياسية و الأخلاقية و العقلية التي سادت المجتمع الفرنسي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى الفقرة التي كتب فيها كونت دروسه الوضعية” 25 مند ذاك الوقت بدأ الإنكباب حول دراسة الإنسان و اكتشافه و اكتشاف تقاليده و عاداته، لكن أي إنسان وجهت إليه الأبحاث هل الإنسان الأوروبي؟!
كان توجيه الأبحاث يستهدف دراسة الأخر المختلف عن الأوروبي، و قد رسمت الكتابات التخمينية التي سبقت الحقبة التي سنتكلم عنها الآن و التي تميزت بنظرة عنصرية تقيم أحكامها على أساس نزعة دينية تفاضلية تصف الأوربي المسيحي بأنه عرق نقي عكس ذاك الإنسان الذي و جهت إليه الأبحاث بوصفه بدائي متوحش و يحمل الخطيئة الأولى و الأبدية .
و الآن سنتطرق لأولى بدايات الفكر الأنثروبولوجي بمعناها الأكاديمي ، والتي ستتبلور في إطار الجمعيات و الرابطات و الدوريات العلمية و المجلات التي تعنى بالأنثروبولوجيا و التي ساهمت في نشر الوعي بأهمية الفكر الأنثروبولوجي بوصفه علما قادما و سيسد ثغرة من ثغرات الفكر البشري، والتي ستساعد على فهم الإنسان و ثقافته، ثقافة هذا البدائي، البربري و المنحط،” و يجذر التنويه بأن رابطة تقدم العلوم التي أنشئت في بريطانيا عام 1846و مثيلتها في أمريكا التي تكونت عام1952 قد أديا دورهما في عرض القضايا و المساءل الأنثروبولوجية و مناقشاتها ،كما عززت الإتجاه القائل بإمكانية قيام علم مستقل و متخصص في تلك القضايا، و لم يقتصر الأمر على قيام جمعيات بفرنسا و انجلترا و أمريكا فحسب ،بل نجد أن شعبية الأنثروبولوجيا قد عمت مدنا أخرى مثل موسكو ومدريد و برلين وفينا ،و تكونت على إثر ذلك جمعيات إتنولوجية بلغت حوالي أربعين جمعية في عام 1870 ” 26، ولم تقف الدعاية للعلم الجديد و المساهمة في قيامه و استقلاليته على الجمعيات و الرابطات ووسائل الإعلام بل امتد ذلك إلى المعاهد الأكاديمية و إلى الحكومات التي كانت تهدف إلى استفادة عملية من تلك الأبحاث أكثر منها ثقافية و لم يقتصر تطور الفكر الأنثروبولوجي في المرحلة التي اتجه فيها نحو الأكاديمية على وسائل الإعلام و المعاهد و الدوريات فقط بل تطور موازاة مع ذلك بين ما” يقدمه الرحالة من معلومات وما يصل إليه المفكرون من نظريات” 27.
وقد كانت أولى الأبحاث الأنثروبولوجية موجهة للإشتغال حول مفهوم الثقافة و تصنيف الثقافات و كيفية حدوث طفرات تؤدي إلى التطور و كانت الإنطلاقة باستلهام مفاهيم تبلورت داخل حقل الطبيعيات كفكرة التطور عند تشارلز داروين، و كان سؤال الإنطلاق : كيف نشأت حضارات العالم وتطورت؟ هذا السؤال الكلاسيكي تبلور و أعاد نفسه داخل مناخ فكري تطوري في إطار المدرسة التطورية لكن الإجابة على هذا السؤال لم تتوقف على ما قدمه التطويريون،بل أدت إلى إفراز إتجاهات أخرى كالإتجاه الإنتشاري و الوظيفي والبنيوي….
التطورية
كان الفلاسفة يعتقدون مند القرن السابع عشر وخاصة في القرن الثامن عشر وبتأثير من أفكار كل من داروين و لامارك حول التطور أن البشرية تتطور باتجاه التقدم الدائم، و أن المجتمعات تنحوا نحو الانتقال من حالة البساطة النسبية في تنظيمها و تطورها ،إلى حالة أكثر فأكثر تعقيدا و تمايزا” 28، و التقدم و التطور فكرة قديمة نجد أسسها في النظريات الفلسفية و حتى لدى أرسطو الذي رأى في الطبيعة صيرورة تخضع لمبدأ النشوء و الإرتقاء و الفناء” و هكذا فإن الواقعة الأساسية الحاضرة في كل جوانب الطبيعة هي ‘التغير’ العملية ‘ الحركة’ وحيث أن الحركة في معناها الدقيق و هو تغير الوضع “29،غير أن التطور الذي بدأت أوروبا تعرفه مند النهضة الأوربية التي كانت بمثابة حركة ثورية على جميع المستويات، خاصة العلمي و السياسي ،منها و ما رافق ذلك من اكتشافات علمية جعل الثقة كبيرة في المستقبل الذي يمكن للإنسان أن يعيشه و ذلك بفعل القواعد العلمية الدقيقة لضبط حركته و حركة الطبيعة .
لقد كانت المدرسة التطورية التي ظهرت داخل حقل الأنثروبولوجيا تلك المدرسة التي استلهم روادها بعض المفاهيم التي أفرزها الإتجاه التطوري داخل حقل البيولوجيا مستندا على أبحاث لامارك و داروين و في موازاة مع الإكتشافات التي ظهرت في ميدان البيولوجيا” جاءت أولى الإكتشافات ما قبل التاريخية لتعزيز المواقع التطورية، فتصنيف الحقبات الكبرى الذي ظهر عام 1820إلى عصر حجري مشطوب (الحجري القديم )و المصقول (الحجري الجديد) و إلى عصر البرونز و الحديد كان قد أوحى في الواقع بوضع ترسيمة لتطور الحياة المادية و بانتقال حتمي من عصر إلى أخر”30.
لقد كان ظهور المدرسة التطورية على نحو خاص بالولايات المتحدة الأمريكية ،وقد اهتمت بدراسة مختلف الشعوب التي تعاقبت عبر الزمن و التي كانت مختلفة من حيث ثقافتها ” فإنسان المجتمعات الغابرة المعاصر على ما يقول الباحث التطوري: هو صورة على أجدادنا القدماء و عن مجتمعهم الذي كنا شهدناه في ما مضى ،و موضوع البحث الأساسي هو أن نفسر تاريخيا مختلف المراحل التي مرت بها البشرية عبر اكتشاف القوانين التي أتاحت الإنتقال من مرحلة إلى أخرى، هكذا يتساءل أحد باحثي ذلك العصر عن الشروط الطبيعية و الفكرية و المجتمعية الخ ….التي حكمت تحول المؤسسات و الظاهرات الاجتماعية بحيث أدى تحولها هذا إلى تغير المجتمع تغيرا كليا، في سياق هده السلسلة المشتركة التي تشكل كل مرحلة من مراحلها حلقة من الحلقات المتتالية على حد قوله: كيف ظهرت هذه التغيرات؟ و ما هي الصيغ التي اتخذتها في مختلف قطاعات حياة تلك المجتمعات: من تنظيمات مجتمعية بشكل عام و أنظمة سياسية وأنساق قرابية و معتقدات دينية ….الخ ؟كيف نشأت بعض المؤسسات بالذات كمؤسسة الزواج و مؤسسة الدولة ؟31
كانت هده الأسئلة نقطة انطلاق المدرسة التطورية في تحديدها للموضوع أما على المستوى المنهجي” فإن التاريخ بوجه خاص هو ما يستعين به التطوري و يعتمد عليه، لكن هنا ليس تاريخ تخميني أي إفتراضي و حسب بل تاريخ ملتبس، إذ أنه لا يملك بالنسبة لهدا النمط من المجتمعات تلك المستندات التي نعتمدها تقليديا ،كالوثائق المكتوبة التي تأتي لتؤكد صحة واقع تاريخي، لذا نجد الباحث التطوري يفترض تحركات معينة لقوم معينين أدت إلى ولادة هذا الشعب أو ذاك أو نجده يتخيل أنماطا من السلوك أو من المعتقدات انطلاقا من مؤشرات واهية ،إذ كثيرا ما تكون المؤشرات المذكورة عبارة عن رواسب لبعض العادات و الأعراف المعتبرة بمثابة الذخائر المتبقية من مرحلة سابقة ،هذه هي نقطة الضعف في المنهج التطوري و هي أيضا النقطة التي تركزت عليها معظم الإنتقادات 32″،و قد كان هدف التطوريين الإحاطة بمجمل الثقافات التي عرفتها البشرية و مقارنة الثقافات فيما بينها واضعين المجتمع الغربي كنموذج أعلى للتطور نظرا لما كان يشمل عليه من مؤسسات سياسية و عائلية بلغت ذروة التطور، و من بين الانتقادات التي وجهت إلى التطورية أيضا اعتقادها بوجود مسيرة خطية واحدة للمجتمعات عبر الزمن.
مما لاشك فيه أنه لحد الآن لم نلقي إلا نظرة تاريخية حول أولى المدارس الأنثروبولوجية وإلى الإطار النظري الذي اشتغلت فيه ،كما قمنا بتحديد الموضوع الذي تهتم به التطورية ،وقد سلكت هذا المنهج لأنني واجهت في البداية صعوبة حول كيفية التطرق إلى أهم المدارس الأنثروبولوجية في إطاراتها النظرية و بسطها للقارئ، و عيا مني بصعوبة ذلك لكن ارتأيت المغامرة فإن أصبت بعض الشيء فلا بأس و إن أخطأت و وجدت من يرشدني فتلك غايتي ،قلت واجهتني صعوبة حول نقطة الإنطلاق هل من ثقافة الأنثروبولوجية أم من طرق ممارسة الأنثروبولوجيين للأنثروبولوجيا، لكن توصلت أثناء قراءتي الأولية لبعض المقالات و الكتب التي اطلعت عليها أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين و يمكن تحوير مقولة كانط التي عرضها في نقده لكل من التجريبيين و العقلانيين حول تصورهم للطرق التي يمكن من خلالها الوصول إلى المعرفة و التي حصرها التجريبيون في الواقع و التجربة الملاحظة ،بينما ارتكز العقلانيون على العقل كنقطة انطلاق، قلت بتحويرنا لتلك القولة يمكن القول أن: الفصل بين عرض ثقافة الأنثروبولوجيا دون نموذج لدراسات الأنثروبولوجيا كميدان للتحقق و التجريب يبقى أعمى و التطرق لنموذج من الدراسات الأنثروبولوجيا دون الإطارات النظرية يبقى عرضا أجوف.
لقد أشرنا في البداية إلى أن المدرسة التطورية ،إتجاه معرفي داخل حقل الأنثروبولوجيا ،وقد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن قام لويس هنري مورغان بتأسيس أول كرسي للأنثروبولوجيا في روشيسترس في ولاية نيويورك، بيد أن لويس هنري مورغان ليس أول التطوريين في حقل الأنثروبولوجيا” بل أقدم هؤلاء التطوريين البارزين الحقوقي السويسري باشوفن (1887- 1816)الذي أعتمد شأنه شأن أمثاله في ذلك العصر على أخبار المجتمعات المعروفة أي مجتمعات العالم القديم أو الشرقي نظرا لغياب المعرفة الكافية بالمجتمعات التي لا تعرف الكتابة و التي درست بعد ذلك، لقد تطرق باشوفن إلى الأنساق القرابية و هي على رأس المسائل التي عالجها التطوريون ”33،لكن مع بروز الأنثروبولوجيا كحقل معرفي جديد فإن الدراسات التطورية في حقل الأنثروبولوجيا ستأخذ منحى أكثر دقة معتمدا على الملاحظة المباشرة و الميدانية ومن ابرز التطوريين في هده المرحلة مورغان وتايلور وفرازر و سنكتفي في عرضنا هذا بمورغان لنتعرف من خلاله على رؤية المدرسة التطورية لتطور البشرية و لأنساق القرابة ،و لتايلور لنعرف من خلاله مفهوم الثقافة الجديد في حقل الأنثروبولوجيا
مورغان كنموذج للدراسات التطورية :
لقد اهتم أصحاب النظرية التطورية بدراسة الثقافات الإنسانية من خلال البحث عن الأصول التاريخية لسمات الثقافة اللإنسانية وكذلك من خلال البحث عن الأصول التاريخية لسمات الثقافية، حيث اعتقد هؤلاء العلماء أن الثقافة هي نتيجة لتراكم النشاط الإنساني عبر الزمن و أن التقدم هو الغاية الأساسية من التطور الإنساني و قد جاء هذا رفضا للنظرية القائلة باحتمال ارتداد أو انتكاس للإنسان و الشعوب من حالة متقدمة إلى وضع أدنى كما سبق أن ذكرنا، و يرى التطوريون أن المجتمعات الإنسانية كلها تتغير وفق قانون ثابت للتطور يقوم على التقدم من مرحلة دنيا إلى أخرى أرقى منها حتى تصل في النهاية إلى قمة الحضارة الإنسانية كما كانت ممثلة آنذاك في المجتمع الأوربي، و يمثل التقدم في نظرهم ثمرة التكامل في الأدوات المادية و ثمرة التعقيد في العلاقات خلال مراحل تطورية و مركبة، و أصبح معيار التقدم عندهم يتمثل جليا في التطور العلمي و التكنولوجي و علاوة على فكرة التقدم ،تقوم نظرية التطور الثقافي على أساس أنه لا يمكن فهم العقل الإنساني إلا بربطه بالتاريخ الذي يمكن من خلاله فقط فهم الحياة الإنسانية، و الوصول إلى القوانين التي تحكم مسارها، فتاريخ البشر واحد على أساس وحدة الفكر الإنساني ،أما التمايز بين الثقافات فهو وليد ظروف تاريخية معينة، فالمجتمعات قد اعتبرت على الدوام بمثابة وجود متواصل متجانس مؤلف من طبقات تطورية و أقسام متوازنة يسير فيها التطور حتما في خط مستقيم و لابد للمجتمعات أن تمر بها. يقوم إذن جوهر التطورية على آفتراض أن تاريخ الجنس البشري قد عرف شكلا واحدا في نشأته وفي تجزيئه و تقدمه، و أن اختلاف درجات هذا الشكل هي في الأمر درجات للتطور ذاته ،بحيث تكون كل درجة وليدة سابقاتها و مساهمة في حقيقة الأمر في تشكل تاريخ ما بعدها أي المستقبل.
: هي رؤية التطورية لتطور الثقافات الإنسانية بصفة عامة ،هذا التطور الخطي الذي يرى أن الثقافات تتطور وفق قانون واحد ينطلق من ما هو أدنى إلى و ضع أرقى حتى الوصول إلى قمة الحضارة التي ارتأوا أنها ممثلة في المجتمع الأوربي آنذاك، و قد أتجرأ لأقول بأن هذه الرؤية المغلفة بطابع حتمي يجعل التاريخ يتطور بشكل خطي ستاتيكي، ديناميكي في مراحل معينة ،من وضع أدنى إلى و ضع أرقى آنذاك، هو ما عزز تلك النزعة المفرطة في الذاتية و التي دفعت الغرب إلى القيام بحركة استعمارية،صحيح أن التطور الذي عرفته أرويا مع الثورة الصناعية خلق حاجة إلى المواد الأولية و إلى تصريف فائض الإنتاج، لكن العامل الأول بنظري لن يكون إلا تلك النزعة الذاتية المتعالية للغرب كنموذج للحضارة و التقدم أو ما يسميه فوكو بالقدر المتعالي الذي خص به الغرب.
كان لويس هنري مورغان أمريكي الجنسية و أنشأ أول كرسي للإناسة في روشسترس في ولاية نيويورك، كما كان أول الباحثين المتبحرين اللذين قاموا ببحث ميداني ،أي بدراسة المجتمعات في عقر دارها على نحو ماأصبح ذلك قاعدة في القرن العشرين ،فقد قضى مدة زمنية معينة بين الإيركوازيين وأصدر كتابه رابطة الإيركوازيين عام (1951 )” 34
لقد كان مورغان أول أنثروبولوجي يقارب ميدانيا الأنساق المجتمعية والسياسية في مجتمعات اعتبرت بلا دولة ولا تعرف الدولة ،وقد تطرق مورغان في كتابه “رابطة الإيركوازيين “للنظام الأمومي السائد وسط الإيركوازيين، فهي بالتالي :أنساق مبنية على العلاقات القائمة بين الجماعات التي تربطها أواصر القرابة ” 35 واهتم مورغان في فهمه لنسق القرابة باللغة “واكتشف أن مصطلحات القرابة التي يستعملها الهنود تصلح هي نفسها للدلالة على عدد من الأقرباء أكثر مما هو عليه في الغرب، “كما راسل مورغان المبشرين العاملين في جهات مختلفة من العالم مستفسرا عن أنظمة القرابة “36 وكنتيجة لتلك الأبحاث والقراءات المتعددة والمستخلصة من المادة التي يوفرها الميدان و الملا حظة المباشرة في الحقل أصدر مورغان مؤلفه “عن أنظمة القرابة والمصاهرة في العائلة البشرية “في عام 1871 وألحقه في عام 1877 بمؤلفه ‘المجتمع القديم ‘ 37 الذي أبرز فيه بالفعل وعلى نحو أفضل نمو موهبته ومقدرته ووضوح طرحه للأمور كباحث تطوري “38
وفد نجح مورغان في إقامة البرهان عموما على أن علاقات القرابة تسيطر على تاريخ الإنسان البدائي وعلى أن لهذه العلاقات تاريخا ومنطقا، واكتشف مورغان أن أنظمة القرابة في المجتمعات البدائية طباقية وليست وصفية، وأن نقطة ارتكازها تبادل النساء بين الجماعات ،وأن الزواج الخارجي (الإكسوغامي) لايتنافى والزواج اللحمي الداخلي (الأندوغامي )لأن الزواج الاغترابي بين العشائر هو تكملة الزواج اللحمي بين القبائل ،ولقد أوضح مورغان أن العشيرة هي الشكل السائد من أشكال التنظيم الإجتماعي لدى جميع الشعوب التي تجاوزت مرحلة التوحش ،وميز مورغان بين شكلين من أشكال العشيرة ،العشيرة :التي تنتسب إلى الأم والعشيرة التي تنتسب إلى الأب ،وقال بالأسبقية التاريخية والمنطقية لأنظمة قرابة الأم على أنظمة قرابة الأب ،متبنيا في ذلك واحدة من فرضيات باشوفن.وقد أنطلق مورغان في تحليله لأنظمة القرابة من واقعة لاحظها لدى الإيركوازيين الذين عاش معهم، وأطلع على حياتهم بشكل واسع، لقد كان نضام القرابة السائد لدى الإيركوازيين متناقضا مع علاقاتهم العائلية الفعلية ،ففي الوقت الذي لم يكن فيه شك في حقيقة الأشخاص اللذين كانوا آبائهم وأمهاتهم وبناتهم وإخوتهم يسميهم مورغان (بحسبانه أروبي يعتمد النظام الوصفي للقرابة ،أعمام ،خالات…….الخ )وكان أبناء العم المتوازين يعدون عند الإيركوازيين أشقاء وشقيقات ،وكان أبناء العم المتصالبون (أي المنحدر ون من أخوات الأب ومن أخوات الأم )هم وحدهم اللذين يسمون بأبناء العم .
وقد تولدت لدى مورغان القناعة بعد استقصاء ومراجعة أكثر من 250 قائمة (متعلقة بمصطلحات القرابة) موجودة أيضا في الهند وفي أمريكا الشمالية، وذلك من أجل تفسير هذه الظاهرة داخل نسق النظرية التطورية ،فآفترض مورغان أن نظام القرابة يتطابق مع شكل عائلي منقرض يمكن إعادة بناءه فيما لو تم التوصل إلى فك لغز دلك النظام .لقد كان هذا التناقض تعبير عن السرعة المتفاوتة لتطور الأسرة، العنصر الحركي، الفعال ولتطور أنظمة القرابة العنصر السالب المنفصل.وإلى جانب هذا شكلت العشيرة على حد تعبير مورغان “قاعدة النظام الاجتماعي لغالبية الشعوب البربرية إن لم نقل جميعها .
كانت هذه أهم المواضيع التي آستأترت باهتمام مورغان على مستوى نسق القرابة، والتي لم تكن إلا ظاهرة ومؤسسة بدت له محددة للمراحل الكبرى التي مر منها تطور البشرية، والذي طرحه في كتابه ‘المجتمع القديم’ويمكن إيجاز هذه الظاهرات والمؤسسات التي بدت له محدد لهذا التطور فيما يلي:
1) تقنيات العيش ووسائله
2) العائلة وتنظيمها
3) أشكال الحكم
4) الملكية
5) الكلام
أما الدين فلم يشغل داخل نسق مورغان التطوري إلا مؤشر من مؤشرات التغير ،أما من الناحية السياسية ،فقد شدد مورغان على التضاد الأساسي الذي سيضل مفتاحا لكل محاولة ترمي إلى فهم حكم البشر ،وهو التضاد بين المجتمعات المبنية على العلاقات القائمة بين الجماعات القرابية ،فهي إذن مجتمعات بلا دولة يسودها التضامن والتعاون المتبادل ،أو يسود عددا منها أحيانا ،وهدا هو السستام الحكومي الذي أطلق عليه أسم سوسيتاسsociètas (أي التجمع )والمجتمعات المبنية على وحدة الأرض وهي عبارة عن مجتمعات ذات دولة أطلق عليها اسم سيفيتاس civitas (أي الحاضرة ،أو المدينة)وآعتبرها تعقب بصورة طبيعية المجتمعات الأولى “39
إن كل من العائلة ،والحكم ،والعشيرة ،والقبيلة ،قد شهدت عبر الزمن تحولا في بنيتها ،ووظائفها وساهمت عبر التعديلات التي طرأت في التطور العام الذي عرفته البشرية ،والذي حصره مورغان في ” ثلاث حقبات تنقسم بدورها إلى حقبات فرعية ‘حالة الهمجية ‘و’البربرية’و’حالة التحضر’ويعتبر أن كلا من هده الحقبات أو الحقبات الفرعية بدأت بتحول هام كان قد طرأ على التقنيات أو على التنظيمات”40
“وأفترض مورغان أن جميع المجتمعات الإنسانية تخضع في تطورها لقانون واحد طالما أن تاريخ الجنس البشري واحد “وحدة ،أصل الإنسانية ،وتوحد الحاجات الإنسانية على الدرجة نفسها من التطور وذلك حيث تكون العلاقات الاجتماعية على الدرجة نفسها من المساواة”
إن هدا القول يعني وجود مراحل محددة وحتمية لابد أن تمر بها البشرية وهي تبدأ من الحالة الدنيا إلى الحالة الراقية ثم إلى حالة أكثر رقيا ،وآفترض مورغان وجود مراحل سميت بما قبل التاريخ :هما مرحلة التوحش ومرحلة البربرية وقسم كل مرحلة من هذه المراحل إلى مراحل فرعية دنيا ووسطى وعليا قبل الوصول إلى مرحلة المدنية.
1. مرحلة التوحش الدنيا: يرى فيها مورغان مرحلة ممثلة لطفولة البشرية حيث عاش الإنسان مرحلة أشبه بالحيوانية ،هائما على وجهه متغذيا بجذور النباتات وبعض الثمار البرية …..جامعا، وملتقطا
2. مرحلة التوحش الوسطى: مرحلة تقدم فيها الإنسان قليلا عما كان عليه في المرحلة السابقة باهتدائه إلى اكتشاف النار واستخدامها في طهي الطعام وإضاءة الكهوف مما نتج عنه اكتشاف الإنسان لأطعمة جديدة
3. مرحلة التوحش العليا : اكتشف فيها الإنسان القوس والسهم مما ساعده على تغيير غدائه واقتصاده بشكل عام فلم يعد الإنسان جامعا للطعام وملتقطا له بل أصبح منتجا له ،ويفترض مورغان ويقرن هدا التقدم في الاقتصاد بتقدم مماثل في شكل التنظيم الاجتماعي والديني
4. مرحلة البربرية الدنيا: تتميز بوصول الإنسان إلى اختراعات أهمها صناعة الفخار، وخروج الإنسان من عزلته الضيقة وانتشاره في مناطق أكتر اتساعا
5. مرحلة البربرية الوسطى : تمكن الإنسان من تدجين الحيوان والاستئناس به والاستفادة من لحومه ،وجلده مما ساعده على الاستقرار
6. مرحلة االبربريية العليا : تمكن فيها الإنسان من صهر المعادن وصناعة الأدوات والآلات المعدنية وبداية اكتشاف الكتابة الصورية”40
ويرى مورغان أنه وبعد اجتياز الست مراحل تلك توصل الإنسان إلى مرحلة المدنية التي تتميز باختراع الحروف الهجائية والكتابة وهي المرحلة التي لازالت ممتدة حتى الوقت الراهن ،ويؤكد مورغان على التتابع المميز للتطور الثقافي ويراه ضروريا لمطابقته للواقع ،وهو ما جعل مورغان يسلط كل مرحلة معينة على بعض الثقافات الإنسانية.
ادوارد برنت تايلور (1832-1917)
يعد عالم أنثروبولوجيا،أسهم إسهاما كبيرا في دراسة الثقافة وفي تحديد مفهوم الثقافة، وأحد رواد الفكر التطوري ،وقال بالنظرية البيولوجيا وأسهم في الدراسات المقارنة للأديان ويتفق تايلور مع مورغان في كونه قال بانتقال الثقافة من الشكل البسيط إلى الشكل المعقد وقد جاءت مؤلفاته “أبحاث في التاريخ المبكر للبشرية وتطور المدنية ‘عام 1869 ،والذي أعقبه كتابه ‘المجتمع البدائي ‘في عام 1871 قد انطلقا من وجهة نظر تطورية ويرجع الفضل إليه في ابتكار مفهوم الثقافة انتروبولوجيا حيث عرفها ‘بأنها دلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق الاجتماعية والقانون والعادات الاجتماعية وغير ذلك من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع ‘43
لم يكن تايلور يرى أن التطور دو حركة أحادية مثلما رأى مورفان بل كان يؤمن بأهمية الإحتكاك الثقافي وبدور المحاكاة بين الشعوب كعامل ساهم في التطور واهتم تايلور بدراسة الأنساق القرابية ،غير أن أهم ما اشتهر به هو الأنثروبولوجيا الدينية وخاصة نظريته حول الإحيائية والتي شكلت برأيه نقطة انطلاق بالنسبة لتطور المعتقدات الدينية ،وقد “انصرف تايلور في البداية إلى القيام بأبحاث حول الأساطير فكرس لها عدة فصول من كتابه الأول (بداية التاريخ البشري ونمو الحضارة ،1865 )ثم توسع بأبحاثه بعد دلك ليشمل على الظاهرة الدينية بشكل عام”44 ولم تكن الأسطورة حسب تايلور نوع من التفكير البدائي اللامنظم، بل هي بنظر تايلور تشكل مفتاحا لفهم التصورات و المعتقدات وكذلك المراحل التي مر منها الإنسان في تطوره الروحي عبر التاريخ .وفي دراسته لظاهرة الدينية ينطلق تايلور من السؤال التالي “ماهو الدين؟”وفي تعريفه لدين ينطلق من مماثلة أساسية بينه وبين الظاهرة التي كانت أساس نشأته ،وهي الإحيائية والتي تعني الإعتقاد بوجود كائنات روحية وقد أعتبره جاك لومبار في كتابه الذي ترجمه حسن قبيسي بأنه “تعريف فضفاض جدا ويفتقد للدقة”45 .
هدا التعريف الذي أعطاه تايلور للإحيائية لم يصمد أمام الإنتقادات والأبحاث الجديدة حول الإحيائية والتي تم تعريفها فيما بعد بدقة ،كونها “ممارسة تنحوا إلى إضفاء الطابع الروحي على العالم الطبيعي،أي أنها تسبغ روحا أو نفسا على عناصر الطبيعة من نباتات وحيوانات وأمكنة ومواضيع عجيبة الشكل أوخطيرة الشأن”46 .
ولعرض التطور الروحي للإنسان انطلق تايلور من ثنائية أساسية “ثنائية الجسد والنفس، التي استلهمها الإنسان من الحلم أولا ،ومن الموت بعد ذلك فالمرء يرى نفسه أثناء النوم كائنا نشطا،يتنقل ويحيا بحيث يستخلص من ذلك أن له قرين في داخله هو النفس ،وإذا كانت هده النفس تضل حية ،في هذا الجسد،الهامد:الذي هو جسد الميت وإذا كان الروح الحيوي يعود بعد النوم إلى هدا المسكن الذي يقيم فيه فإنه بعد الموت يغادر إلى غير رجعة”47.
هذه النظرة المغمورة بهاجس فلسفي والمستنتجة من دراسته لقبائل الهنود الأمريكيين عن شعب “البويبلو” بجنوب غربي الولايات المتحدة الأمريكيين، جعلت المعتقدات الدينية تنشأ وتتطور نتيجة التفسير الخاطئ لبعض الظواهر التي يتعرض إليها الإنسان،مثل الأحلام والأمراض والنوم والموت ،ويرى أن ظاهرة الأحلام وظاهرة الموت كان لهما الأثر الأكبر في توجيه الفكر الإعتقادي لدى الإنسان ،فالأحلام هي التي أوحت للإنسان بفكرة الروح والجسد :ذلك أن البدائي يتخيل نفسه متنقلا من مكان لأخر وهو نائم ،بل وقد يرى نفسه وهو يؤدي أعمالا يعجز عن القيام بها وهو في حالة اليقظة ،وقد أرجع تايلور هته الأفكار إلى الطقوس و العادات ،وإلى عادة تقريب القرابين لأرواح الأجداد”ومن هنا طرح مصطلح الأنيمة (الأرواحية)أي الإعتقاد بوجود الأرواح والآلهة والجن والشياطين وغيرها من الصور اللامنظورة والتي عدها تايلور الأصل الثقافي للمعتقدات الدينية على اختلاف أنواعها، والتي تطورت إلى فكرة الإله المتعالي في مرحلة المدنية “48
أما عن الثقافات البدائية برأي تايلور فهي”بقايا أو عقلنة ميتة ومن تم يجب أن تختفي من الممارسة ومن الحياة العملية ،عليها أن تزول ودلك كما يقول “بسبب ترابطها مع المراحل المتدنية من تاريخ العالم العقلي”.
وقد كان هذا التصور القائم على مثالية النموذج الغربي في الإجتماع كمقياس للمقارنة أن يكون انطلاقة لإيديولوجية استعمارية بدأت تتشكل مند أواخر القرن الثامن عشر، كما أن التفسير التركيبي لتايلور ،لفترات أصبحت بمنآي عن متناولنا قد لاقت العديد من النقد فهذه النظرية بالنسبة لجاك لومبار “تستند إلى مقدرة تخيلية على إعادة تركيب الأمور أكتر من استنادها إلى أسس علمية صلبة حتى ولو كان من الممكن أن تتفق بعض جوانب الفكر الإحيائي مع بعض وقائع هدا النمط من المعتقدات على نحو ما تمكن الباحثون من دراستها في ما بعد .غير أن نقطة الضعف في هده النظرية تكمن بشكل خاص في هشاشة تفسيرها للأطوار التي حكمت الإنتقال من مرحلة إلى أخرى من مراحل التطور فكان ذلك هو الخلل الأكبر في تلك المدرسة (يعني التطورية)التي سعت دائما إلى إعادة تركيب ذلك الماضي السحيق الذي صار بمنأى عن متناولنا ،وذلك بأن بدلت جهدها في إعمال الفكر على نحو ما كان بوسع بشر أحرين يعيشون في ظروف وبعقليات مختلفة كليا عن ظروفنا وعقلياتنا أن يفكروا”49
المدرسة الإنتشارية
ذكرنا أن انطلاقة الأنثروبولوجيا شهدت سيطرة كبيرة للفكر التطوري في إطار الدراسة النظرية لتاريخ الحضارة الإنسانية ، ومع ذلك فقد ظهر الفكر الإنتشاري منتقدا للفكر التطوري ، و كمحاولة جديدة لتفسير أسباب التنوع الثقافي وقيام الحضارات معتمدا في ذلك على التاريخ و الجغرافيا وعلى أهمية الزمان و المكان في التنوع الثقافي رافضا الفكرة القائلة بأفضلية ثقافة على أخرى وإنما هناك نسيج من الثقافات “وافترض المناهضون للتطور أن الإتصال بين الشعوب قد نتج عنه احتكاك ثقافي وعملية انتشار لبعض السمات الحضارية، الأمر الذي يمكن أن يفسر في ضوءه التباين الحضاري للشعوب وليس في إطار عملية تطورية ”
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الإتجاه قد تبنى منهجا تاريخيا جغرافيا بتأثير من المدرسة الجغرافية الألمانية ورائدها فريدريك راتزل الذي ركز على أهمية الإتصالات والعلاقات الحضارية بين الشعوب ودورها في النمو الحضاري ،وقد نمى تلاميذه هذا الإتجاه وخاصة هاينريخ شورتر h.shurTZ الذي أبرز فكرة وجود علاقات حضارية بين العالم القديم والعالم الجديد (أمريكا)،وكذلك ليوفروبينيوسL .FROBENUIS صاحب نظرية الإنتشارالحضاري بين أندونيسيا وأفريقيا”والمدرسة .الإنتشارية لا تدرس الثقافات باعتبارها نماذج ممثلة لمراحل متعاقبة عبر الزمن بل هي ترفض اعتبار البشرية بمثابة الكائن الذي ينمو كما تنمو الخلايا المغلقة والمنضوية على ذاتها ،بحيث تتطور كل منها على حدة مع تقدم الاختراعات، (أطروحة مورغان) فالإنتشارية أن هذه الاختراعات تنتج عن العناصر الثقافية و تنتشر من مجتمعات إلى أخرى مجاورة لها إما بفعل الهجرات وإما بفعل الحروب”
بكلمة إذا كانت المدرسة التطورية ترى أن موضوع الأنثروبولوجيا هو البحت عن أسباب التفاوت الثقافي فإن المدرسة الانتشارية ترى أن هذا الموضوع هو البحت عن صيغ الإنتشار من ثقافة إلى أخرى .كيف ينتقل عنصر ثقافي من مجتمع إلى آخر؟وإذا كانت نظرتها لهذا الموضوع نظرة تاريخية تتناول دائما كيفية حصول التغير عبر الزمن ،فإنها تصبح إلى ذلك نضرة جغرافية فلا يعود السؤال مقتصرا على الصيغة التالية :لماذا نجد الثقافات متنوعة ؟بل صار يطرح بصيغة أخرى كيف كان لهذا التنوع أن يحصل؟وقد ظهر في أرويا نظريتان مختلفتان بصدد هدا التفسير الإنتشاري لعناصر الثقافة وهما المدرسة البريطانية والمدرسة الألمانية النمساوية .
نظرية المدرسة البريطانية : والتي أرجعت نشأة الحضارة الإنسانية كلها إلى مصدر واحد أو مركز واحد وعن طريق الإحتكاك الثقافي بين الشعوب سواء عن طريق التجارة والغزوات أو الهجرات فقد انتشرت عناصر تلك الحضارة المركزية أو الرئيسية، واتسعت دائرة وجودها. وتزعم هذه المدرسة عالم التشريع البريطاني أليوث سميت E.SMITH 1937-1871) ( وكان مهتما بالآثار والهياكل البشرية ومعه أيضا تلميذه وليم بيري w .j.perry (1888-1949 )اللذان رأيا أن الحضارة الإنسانية نشأت وازدهرت على ضفاف نهر النيل في مصر القديمة مند حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد تقريبا ،وذلك بعد فترة طويلة عاشتها الإنسانية على الصيد وعندما توافرت الظروف بدأت الإتصالات بين الجماعات والشعوب، فانتقلت بعض مظاهر تلك الحضارة المصرية القديمة إلى بقية بقاع العالم التي عجزت شعوبها عن الإبتكار أو الاختراع فعوضت ذلك بالاستعارة والتقليد “لكن هذا الطرح المتطرف و القليل الواقعية سرعان ما تعرض لنقد على إثر الإكتشافات الفنية و الأثرية التي بينت أن هناك بؤرا حضارية في إفريقيا، مثلا :كانت قد ابتدعت ثقافتها الخاصة على نحو ما تشهد الأعمال الفنية في بنين وهي أعمال مستقلة عن كل الثأتيرات المصرية ”
المدرسة الألمانية النمساوية : إذا كانت المدرسة الإنجليزية قد ركزت على فكرة المنشأ الواحد للحضارة الإنسانية فهناك “فريق من الألمان والنمساويين وعلى رأسهم فريتز جرابينور(1834-1817 )وولهم شميدت W .SHMIDT (1859-1868 ) قد رفضوا فكرة المركز الواحد التي هي أقرب إلى الخيال أكثر من كونها علمية الأساس(على حد تعبير جان بواريه) وافترضوا وجود عدة مراكز حضارية أساسية في جهات متفرقة من العالم وأنه نشأ من التقاء الحضارات مع بعضها البعض نوع من الدوائر الثقافية، وحدثت بعض عمليات الإنصهار، والتشكيلات المختلفة ،الأمر الذي يفسر أوجه الاختلاف عن تلك الثقافات المركزية أو الأساسية إلا أن أصحاب هذا الرأي لم يقدموا الدلائل على وجود تلك المراكز أو تتبع حركات الإتصال بينهما ودراسة تلك النتائج المترتبة عن ذلك بطريقة منهجية سليمة ،ورغم هذا الإختلاف في وجهة نضر المدرستين البريطانية و الألمانية – النمساوية- إلا أنهما اتفقتا في رفض حتمية تطور المجتمعات كلها وفق قانون تابت ،وأنه من غير المعقول أن يتشابه التكوين العقلي عند جميع البشر :وليس من الممكن أيضا أن تتمتع جميع الشعوب بقدر متماثل من الخلق والابتكار
بعد التحية والتقدير هذا الموضوع القيم انما يدل على مدى تعمق الباحث في البنية الفكرية للانثروبولوجيا واتمنى ان يتوصل الى انتاج دراسات متماثلة نظرا للحاجة الماسة لها
أين قائمة المراجع؟غير موجودة