مدارس المستقبل رؤية أنثروبولوجية في التربية والتعليم
د. إيناس خضراوي *
لعّل الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) كفرع من فروع العلوم الإنسانية، هو الأكثر حضوراً وتفاعلاً مع بقية العلوم الإنسانية والطبيعية، والأحدث أيضاً. ويرتبط هذا العلم بعلاقات عضوية جدلية مع كل العلوم، لدرجة أننا بتنا نعرف ألواناً عديدة من أنواع الأنثروبولوجيا وأقسامها، تتجاوز ما كان سائداً وعاماً، ومن ذلك الأنثروبولوجيا العضوية، أو الطبية، والأنثروبولوجيا الثقافية و/ أو الاجتماعية.
والأنثروبولوجيا بالأساس، مصطلح يوناني الأصل مكون من كلمتين هما (Anthropos) وتعني الإنسان، و(logos) وتعني “علم”. وفي أبسط التعريفات، هي علم يدْرس الإنسان بجانبيه العضوي والثقافي، فالأنثروبولوجيا العضوية تدْرس الإنسان بصفته كائناً بيولوجياً، والأنثروبولوجيا الثقافية تدرس سلوك الإنسان وبناءه الثقافي. وهي عموماً تعنى بدراسة الطبيعة البشرية والمجتمع البشري والماضي البشري، وكل ما يتعلق بالإنسان اجتماعياً وثقافياً وعضوياً، وترتكز على عملية الوصف في أوسع حالاتها، حيث تدْرس الأنثروبولوجيا الإنسان ونشاطاته بشكل متكامل وشامل، وفق منهج علمي بحثي محدد يسمى منهج البحث الأنثروبولوجي.
بكل الأحوال، ليس هناك من مبالغة في الإشارة إلى أن التعليم من أكثر المهمات والعمليات التي تحتاج إلى تحديات جمّة، فهو يبدأ منذ ولادة الطفل، أو حتى قبل ذلك، حين يبدأ الجنين في التشكل في بطن الأم، ما يمنح الأم فرصة كبيرة ووحيدة لبناء شخصيته، وتعليمه حتى قبل أن يشاركها آخرون في التربية، ومن ثم يبدأ دور الآخرين وجهودهم في تقديم المساعدة، وهذا يشمل المؤسسات التعليمية التي تسبق المدرسة، ثم المدرسة، ثم الجامعة.
وغالباً ما يُنظر إلى التعليم كعملية أساسية تتم بين اثنين هما المعلم والمتعلم، بالاعتماد على المكان والزمان، فقد يتم التعليم في غرفة صفية عادية تضم متعلمين ومعلماً، وفي زمان ومكان محددين يتفقان عليه، وقد تتم بين إنسان وآلة، بحيث يكون المعلم فقط هو الآلة أو التكنولوجيا، والمتعلم هو إنسان، ولا وجود أو تحديد للزمان والمكان. وهنا يتم الفصل بين زمانين في التعليم، الأول هو التعليم ما قبل (online)، الذي يعني في ما يعنيه، أنه عملية منظمة يمارسها المعلم بهدف نقل ما في ذهنه من معلومات ومعارف إلى الطلبة، يشترك فيها طرفان، المعلم والمتعلم، حيث كان المعلم والكتاب المصدر الأساسي للمعلومة. أما الثاني فهو التعليم ما بعد (online)، أو التعليم الإلكتروني الذي يعدّ أحدث أنواع التعليم، وهو شكل متطور من أشكال التعليم عن بعد الذي كان سائداً في منتصف القرن الماضي، وهو عملية تحويل التعليم التقليدي (وجهاً لوجه) إلى شكل رقمي للاستخدام عن بعد، وهو من الوسائل التعليمية التي تعتمد على تقنيات الاتصالات الإلكترونية وتقنيات الخدمة الذاتية، لإتاحة المعرفة للذين ينتشرون خارج قاعات الدراسة، وهو التعليم الذي يتم به ومن خلاله إيصال المعلومة للمتعلم عن طريق الشبكات الإلكترونية، أو ما يعرف بالإنترنت، حيث لا يعود أيٌّ من المكان أو الزمان أو الغرفة الصفية مهماً لإنجاح هذه العملية.
• بين الأنثروبولوجيا والتعليم
الأنثروبولوجيا من أهم العلوم التي يجب أن يتعرف عليها الطالب، حيث تمنحه القدرة على الفهم والربط بين العلوم والإلهام والخيال الواسع وانفتاح العقل على كل ما هو جديد وحديث ومفيد.
لقد دأبت الدراسات القديمة وبشكل مستمر على وضع الخطط الاستراتيجية للتعليم، والتي كان بعضها يمتد إلى عشر سنوات أحياناً، وكان هذا واضحاً بشكل ملموس في معظم مؤسسات التربية والتعليم، لما للدراسات من أهمية بالغة لمعرفة وتصور ما ستكون عليه المدارس في المستقبل.
يذهب جميع الطلبة إلى المدارس والتي هي عبارة عن مبانٍ، سواء حديثة أو قديمة، لكنها تحتوي الطلبة والمعلمين والمنهاج. وفي ذلك تتنافس جميع الدول للحصول على أفضل أشكال المدارس كما نحن عليه الآن، حيث أن شغل العالم الشاغل يركز على ماذا ستكون عليه المدارس في المستقبل، بسبب التطورات الكبيرة والسريعة التي نمر بها، والطريقة التي سنرضي بها الطفل لتكون المدرسة هي المكان الذي يذهب إليه بمحبة وشغف ليعي كل ما يحتاج من معلومات ويكون بالتالي قادراً على تحمُّل المسؤولية التي تقع على عاتقه في المستقبل.
وقبل أن يذهب الطفل إلى المدرسة يكون قادراً على التعلم بسهولة ويسر، وذلك عن طريق اللعب والاستكشاف والمحاولة والخطأ بسعادة غامرة، ولكن ما الذي يحدث عند ذهابه إلى المدرسة؟ هل تقلّ قابليته للتعلم؟ لما لا يبقى ذلك الشغف والمحبة للتعلم عند الذهاب الى المدرسة؟
منذ آلاف السنين تعلّم الإنسان كثيراً، من دون الذهاب إلى المدرسة (البناء)، لكن فكرة التعليم موجودة منذ الأزل. يقول الأنثروبولوجيون إن الإنسان بدأ يتعلم الصيد واللقط، ثم تحول إلى الزراعة، وهذا بحد ذاته تعليم أو حتى مدرسة من نوع آخر عن الذي نعرفه كبناء؟ فكيف تعلَّم الزراعة؟ هل ذهب إلى المدرسة (البناء) التي تعلِّم ضمن قواعد وأنظمة وشروطحتى تَحوّل إلى الزراعة، ومن ثم تطوّرَ ليصبح الإنسان المخترع، والمطور، والإلكتروني الآن؟
تعلّم الإنسان في السابق ما احتاج إليه، ليكون المخترعَ المبدع الذي يطوع الآلة التي يستخدمها ويطورها، لتلبية حاجاته ورغباته، أما الأطفال فكل ما كانوا يفعلونه هو اللعب الذي يتعلمون منه ليصبحوا فاعلين في المجتمع، وعند ظهور الزراعة تغيرت الحياة. وعلى الرغم من حياة الاستقرار التي عاشها الإنسان في عصر الزراعة، إلّا أنها أحدثت تغييراً في نوع المدرسة التي يتعلم بها الأطفال، فبدلاً من أن يتعلم باللعب أصبح يتعلم بالعمل الذي يذهب إليه مع والديه للعمل كمزارع. وهنا بدأ التعليم يخضع للأنظمة والقوانين والتنظيم والممنوع والمسموح به للحصول على إنتاج زراعي مميز، وعليه تحول الإنسان -من دون أن يخطط لذلك- من لاعبٍ في الصيد واللقط يعمل فقط لقُوْت يومه ويعود لبيته في حال الحصول عليه، إلى إنسان زراعيّ مستقر في منطقة معينة للزراعة وقطف الثمار التي تحتاج إلى متابعة حثيثة وانتظار طويل لتنضج الثمار، بالإضافة إلى الحاجة لتنظيم وقت الزراعة بفصول معينة من السنة، والحصول على المنتوج أيضاً بفصول أخرى من السنة، وطريقة الزراعة التي تختلف باختلاف المنتوج الزراعي حتى لا يفسد المحصول، فكانت مدرسة الحياة الأولى التي أخضعت الإنسان لنظام وقوانين ومكان محدد للعمل كإنسان فاعل ونشيط ومنظم، وقد شمل ذلك جميع أفراد العائلة المكونة من الأب والأم والأولاد، فابتعد الطفل عن طريقة التعلم أيام الصيد واللقط التي كانت عن طريق اللعب والمتعة فقط، إلى التعلم الزراعي الذي كان من أهم متطلباته الاستقرار، وهنا أصبح للتعليم مكان، هو الحقل، له أنظمته وقوانينه ووقته، بخلاف الصيد واللقط الذي كان يتجاوز المكان والزمان.
وبانتشار الزراعة أصبح الناس مالكين للأراضي والمحصول، وكان الهم الأوحد لكلّ منهم تعلّم وسائل وطرق جديدة لزيادة المحصول والأراضي التي يمتلكها، وتطوير آلات جديدة تساعده في هذه الأمور، حتى وصل الإنسان للصناعة، ومن ثم إلى التطور التكنولوجي الذي نحن عليه الآن. وخلال ما شهدته طريقة التعليم من تغيير جذري، كان للطفل نصيب كبير في التأثر بالزراعة والاستقرار تم البناء، ومن هذه الأبنية كان للمدرسة نصيب، حيث صار للأطفال وقتٌ يمضونه في المدرسة، وكان هناك معلم يقوم بتعليمهم بأبسط الوسائل المتاحة والمناسبة للزمان والمكان. وما زال التعليم يتطور بحسب الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصناعية، حتى وصل إلى ما نحن عليه الآن من تطورات تكنولوجية كبيرة تشمل جميع نواحي الحياة.
• رحلة في ربوع الإنسان والزمان والمكان
الأنثروبولوجيا هي التجول في بحر عميق لا يخلو من الروعة في حياة الإنسان الذي يستحق أن نبحر في عالمه لاكتشاف مكنوناته المميزة، بحيث يتسنى لنا الوقوف عند كل حالة من حالاته، ودراستها وتعميم النتائج بشكل يتيح لنا وضع الإستراتيجيات التي تساعدنا في حل المشاكل المستقبلية، فالأنثروبولوجيا أشبه برحلة عبر الزمان والمكان لاكتشاف أسرار الطبيعة وجمالها وألقها الذي يرتبط بالإنسان ارتباطاً وثيقاً ليكون عوناً للأنثروبولوجيين في سبر أغواره، حيث نظل في شوق كبير لمعرفة المزيد، مهما عرفنا سابقاً.
يقوم الأنثروبولوجيون بالدراسات الميدانية والمشاركة بالميدان، والتي من شأنها توسيع آفاق ومدارك الباحث لوجوده في ميدان الدراسة ومشاركته الفاعلة للحصول على معلومة صادقة وواضحة، وتخص البحث وتثريه وتسهّل عملية جمع المعلومات.
• أهمية الأنثروبولوجيا التربوية
دأبت الأنثروبولوجيا على دراسة النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وكل ما يحيط بالإنسان، وهي ليست بعيدة عن التربية التي لها أكبر الأثر على الإنسان الذي طالما حلم بتطوير كل العلوم لما يخدم حياته، بما فيها العلوم التربوية، وهنا لا يمكننا غض الطرف عن حاجتنا الماسّة إلى الأنثروبولوجيا التربوية، لتكون حاضرة في ثقافتنا ووعينا وحياتنا الأكاديمية والعملية، فهي تجيب عن تساؤلات عديدة.
ويُنظر إلى الأنثروبولوجيا التربوية كعلم دراسة الظواهر التي تؤثر تأثيراً إيجابياً أو سلبياً في التربية، سواء من حيث العلاقات الاجتماعية أو القيم أو الهوية أو الانتماء أو الأسرة أو ظهور ثقافات جديدة نتيجة لآثار سياسية، أو أيّ من الأمور التي لها علاقة بالأنثروبولوجيا التربوية.
• المدارس في المستقبل
إنّ جلّ ما نهتم به هو الطالب الذي طالما حلمنا بتوفير أفضل الطرق لتعليمه، ليتسنى له العيش الكريم، وبالتالي ليكون قادراً على إكمال المسيرة التعليمية بطرق حديثة تناسب ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا المستقبلية، حيث لا يوجد فصل بين التطور في مجالات الحياة والتطور في التعليم.
ولرسم أفضل مسار للتعليم في المستقبل، وللحصول على المعلومات اللازمة لبنائه لا بد من طرح أسئلة كثيرة على غرار: كيف كان التعليم في السابق؟ وما التغيرات التي أثّرت بشكل مباشر أو غير مباشر على التعليم؟ وهل هي عوامل اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية، أم عوامل أخرى؟ وكيف يتقبل الطالب والمعلم التغيير؟ ولماذا احتجنا إلى التغيير ولم نبقِ على التعليم القديم؟
وللوقوف على هذه العملية، قامت بعض الجامعات في الغرب بدراسات حول مدارس المستقبل، وكيف ستكون هذه المدارس، إلا أنه لا توجد دلالات واضحة على شكل المدارس المستقبلية ومضمونها، وذلك بسبب التطور السريع الذي تمر به التكنولوجيا، والتي غدت من أهم عناصر العملية التعليمية، لكننا نتوقّع أن تكون الصفوف واسعة جداً بعدد من الطلبة يتناسب والنشاطات المطلوبة، وقد تكون مقسمة إلى قاعات مخبرية، بحيث يستطيع الطالب أن يتحرك بحرية للحصول على المعرفة بطرق علمية متطورة.
• الاستدامة والتعليم
قامت كثير من المؤسسات بالعمل على تفسير مفهوم الاستدامة، وتبين أن هذا الموضوع أساسه البنية المعرفية التي تعتمد على التفسير والتحليل والتفكير المنطقي والتفكير الناقد والتفكير العلمي، لإيجاد أنماط معيشية أكثر استدامة لضمان رفاهية العيش للأجيال القادمة، ضمن منظومة بيئية واجتماعية وثقافية واقتصادية مناسبة، ومعرفة كيفية الربط بينهم، فالاستدامة تصنع الانسجام بين الإنسان والبيئة، وكذلك بين الإنسان والآخر، بحيث تساعد الإنسان على بناء نفسه لمواجهة التحديات التي تطرأ في المستقبل. لذلك فإن الموارد التي تعدّ الآن رفاهيات، هي بمثابة أساسيات لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للأجيال القادمة.
فالاستدامة هي دراسة الماضي والحاضر للوقوف على المستقبل بإطلالات تناسب التغييرات المتوقَّع حصولها، بالإضافة إلى الاستخدام المنطقي والطبيعي للمصادر الحالية. وهذا يتطلب التزاماً أخلاقياً بعدم تعريض الموارد الطبيعية التي تدعم الحياة للأجيال القادمة لخطر النفاد، وتغيير الوعي عند الطلبة بمدى حاجتنا إلى الاستدامة، والذي من شأنه أن يرسخ فكرة المفهوم للاستدامة.
إنّ الاستدامة في التعليم تؤدي إلى جعل التعليم متاحاً للجميع من دون استثناء، وذلك من خلال التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، لتحسين ظروف المعيشة للأجيال القادمة عن طريق تفادي أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدامة، واستحداث طرق اقتصادية تساهم في بناء اقتصاد مستدام في المستقبل.
• باحثة في الأنثروبولوجيا واالتعليم
المصدر: صحيفة الرأي
http://alrai.com/article/10460149/الرأي-الثقافي/مدارس-المستقبل-رؤية-أنثروبولوجية-في-التربية-والتعليم