مدارس الأنثروبولوجيا المستقبلية
في دراسة مستقبل الشعوب والجماعات
في فصل نظريات ومدارس الأنثروبولوجيا المستقبلية يقول د.عبدالقادر الهواري مؤسس الأنثروبولوجيا المستقبلية:لا يمكن نتصور اننا بصدد إجراء مسح شامل لكل النظريات المتصلة بدراسة الأنثروبولوجيا المستقبلية، ولكن هدفنا المحدود أن نقدم نماذج لأبرز نظريات الأنثروبولوجيا المستقبلية مع التركيز على الإتجاهات المعاصرة والمستحدثة. وعلم الإنسان المستقبلي- شأن أي علم آخر- قد عرف في فترات ماضية من تاريخه عديدًا من الإتجاهات النظرية التى استطاع بعضها الصمود، مع مروره بالطبع بتعديلات معينة برغم مضي الزمن، بينما حكم التطور العلمي ان المشكلات التى كانت تتخذها نظريات أخرى محورًا لها لم تعد من البحث العلمى المعاصر. وفي كلتا الحالتين تحولت تلك الإتجاهات أو المدارس إلى تاريخ عزيز، لكنه لم يعد يوجه البحث العلمي المعاصر. وإذا كانت الثقافات الأقوى تلتهم الثقافات الأضعف وتفرض عليها شروطها وفق نظريات الماضى، فإن عالمنا المعاصر نجد فيه ان كل ثقافة هى مصدر للقيم والأفكار والإبداعات والفنون المختلفة. وفي العالم آلاف الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية التي تعمل على التبادل السريع للثقافات العالمية وتزايد المعرفة لثقافات أخرى واكتشاف وقيم وفنون الآخرين وملاحظة اتجاهاتهم وعاداتهم وممارساتهم غير المألوفة والتعرف على الوحدة المتعددة للإنسانية.
ويضيف د.الهواري: المسح التاريخى لنظريات أى علم يمثل ضرورة حيوية، إذ يستحيل أن نقدم على عمل علمي مستقل، فمن الطبيعي أن يرجع الدارس في أى عمل خاص إلى مؤلفات الدارسين ليأخذ فكرة عن كيفية وظروف التحديات الرئيسية في الأنثروبولوجيا المستقبلية وعن مدى مايبذل من جهد لحلها وما تحقق في هذا الصدد. فهناك من الأحداث والظواهر ما له مستقبل ليس من السهل استشرافه، والكثير من الظواهر والأحداث يقع داخل إطار هذه النوعية، إذ إن تناسق هذه الظواهر وانتظامها قد أضفيا على النظريات التي تصفها ميزة رائعة ومتفردة. فإذا استطاع أحد الأشخاص أن يتوصل في البداية إلى بعض الملاحظات القليلة ثم استخدم نظرية ما لاستشراف الحال الذي ستؤول إليه ملاحظاته، وصح استشرافه، فسوف يكتسب هذا الشخص ثقة عظيمة في النظرية.
وطالما الأنثروبولوجيا علم ميدان، فالنظرية في الأنثروبولوجيا المستقبيلة هى مجموعة من الفروض ذات الصلة بالواقائع الميدانية، ويجب أن تكون هذه الفروض تنبؤية فيما يتعلق بتلك الوقائع الميدانية. فالأنثروبولوجيا المستقبلية لا تقوم فقط بعمليات إثنولوجية وإثنوجرافية من خلال دراسة مقارنة بين ماضي الإنسان وحاضره أو دراسة تاريخية فقط، بل والقيام باستشرف المستقبل ومحاولة توجيه وصنعه، والتي قد يطلق عليها البعض تطبيق النتائج والتوصيات التي تذخر بها المؤتمرات والمنتديات والرسائل الجامعية والدراسات والأبحاث، ويكون مصيرها أدراج المكاتب أو مجرد مراجع. وقد اتضح لي من خلال مشاركاتي في المؤتمرات والمحافل العلمية أن الهدف من النتائج والتوصيات هو النشر الإعلامي دون غيره بالدرجة الأولى للأسف.
ويشير د. الهواري: إن جوهر أي علم يكمن في اكتشاف علاقات تجريبية ثابتة بين المتغيرات أي القوانين وتوظيفها في المستقبل، ووظيفة النظرية أن تقود هذه العملية بأسلوب منظم وأن تدفعها للأمام، ويتحقق ذلك عن طريق توفير الفروض أو القضايا التي يمكن قبولها أو رفضها على ضوء المادة الميدانية المحكمة الضبط. والمشتقات أو الفروض يمكن اختبارها ميدانيًّا، أما النظرية نفسها فهى تفترض، ويتحدد قبولها أو رفضها بمقدار الإستفادة منها مستقبلًا. والأنثروبولوجية المستقبلية نظريًّا تنظر إلى المستقبل من خلال مدارسه العلمية التى من أهمها:
1- استعمار المستقبل: ونظرًا لكثرة استخدامها فى الولايات المتحدة يمكن أن نطلق عليها ” المدرسة الأمريكية “، وهى ترى انه يمكن النظر للمستقبل باعتباره إمتداد للماضي والحاضر، بل هو محكوم بهما. ولدراسته يتم التركيز على الإتجاهات والتنبؤات النفعية (البراجماتية) الدقيقة المشبعة بالإتجاهات الثقافية والاجتماعية والإقتصادية المبشرة بالإبداع التكنولوجي والبعيدة عن القيم. وهى طريقة مغلفة بمصالح و رؤى وتصورات معينة تستهدف التأثير في الحاضر واستعمار المستقبل. 2- إبتداع المستقبل: ويكثر استخدامها في أوربا لذلك نطلق عليها ” المدرسة الأوربية ” وهى تكتسى معنى مختلف ومباين للمدرسة الأمريكية، فهى تجاوز مبدع للماضي والحاضر أو انقطاع عنهما، حيث تعتمد في قراءتها للمستقبل على نظرة كلية للتطور الإنساني بهدف توسيع دوائر الإختيار التي تراعي القيم. فالمستقبل يمكن أن يكون قطيعة للماضي وتجاوز للحاضر فلا يكون المستقبل الحصيلة والنتاج للقوى الفاعلة في الماضي فحسب، بل يكون إنبثاقًا لما هو جديد حقًّا وخلقًّا لشئ لم يكن متوقعًا ولا محتملًا. بهذه الطريقة نستطيع أن نبتدع المستقبل، أي لا المستقبل الذي سوف يكون، بل المستقبل الذى نصوغه ونصنعه نحن.
3- النظرة الشاملة: تستخدم لتفادي مأذق غياب الموضوعية والإنحياز لأي من المنظورين السابقين ولتجنب الفجوة المنهجية بينهما، فيتم الأخذ بمنهج مركب بداياته نظرة شاملة كلية مستقبلية للأنساق الثقافية أو المجتمعية، ثم مضاهاة لنتائج دراسات واستشرافات نفعية متخصصة، يلى ذلك توحيد لهذا كله في الإطار الشامل للأنثروبولوجيا المستقبلية. وقد شهد الغرب – وليس الولايات المتحدة وحدها – عقب الحرب العالمية الثانية حركة واسعة استهدفت الاهتمام بتعميق مفهوم مستقبل الشعوب والجماعات في العقول، حتى غدت دراسات مستقبل الإنسان وأنماط معيشته صناعة أكاديمية، ونشاطًا علميًّا قائمًا بذاته، ومنهجًا عمليًّا للإدارة والتخطيط ومختلف النشاطات الإنسانية.
4- المدرسة السوفيتية: ركزت جهودها في مجال دراسات مستقبل الشعوب على المتغيرات المادية لا سيما الاقتصادية والتكنولوجية منها وأثرهما على مستقبل الظاهرة الاجتماعية، ولم تعر دراسات المستقبل السوفيتية الأبعاد الفردية أو الجوانب المعنوية أهمية تذكر، فقد مُنع فرويد ومدرسة التحليل النفسي من الجامعات السوفييتية حتى الستينات من القرن العشرين. وقد ساهمت أكاديمية العلوم السوفييتية بفروعها المتعددة في مجال التطوير النظري للدراسات المستقبلية لا سيما في مجال ما عرف بالندوات المستقبلية التي نشطت بشكل ملحوظ منذ عام 1967 من خلال ندوة كييف ولينينجراد، وبرز العالم السوفييتي “إيجور لادا” في هذا المجال. وتتميز المدرسة السوفييتية في الدراسات المستقبلية بالآتي:
أ- التخصص: بتركيز الندوات الدورية على موضوع بعينه، فندوة لينينجراد الدورية ركزت على أثر ظاهرة التحضر على الاستقرار السياسي، بينما اقتصرت جهود ندوة كييف على تأثير التكنولوجيا على الاستقرار السياسي، وتخصصت ندوة فيلينيس على التنبؤات الإقليمية، حيث يتم التركيز على إقليم معين ثم تحدد الأولويات التي يجب ألأخذ بها في الإقليم من خلال الربط بين الإمكانيات المتاحة وسلسلة البدائل المتوفرة لإنجاز خطة ما.
ب- الربط بين نتائج دراسات مختلف القطاعات: وهو ما كان يعوز المدرسة الأمريكية في بداياتها، ونتج عن ذلك ظهور فكرة الربط بين الظاهرة والنتائج غير المباشرة وغير المتوقعة لها.
ومع انتشار دراسات وأبحاث الإنسان المستقبلية لجماعة أو شعب أو دولة ما جاءت مرحلة النماذج العالمية التي تنظر لشعوب إقليم معين، ثم تلاه تطور آخر نقل دراسات الإنسان المستقبلية من مستوى الإقليم الواحد إلى مستوى الإنسان العالمي ككل، فأصبح التركيز على مستقبل الشعوب أو موضوعات ذات شأن دولي كأسلحة الدمار الشامل التي تواجه البشرية أو ظاهرة الإرهاب أو التدخل الإنساني.
ويوضح د. الهواري: أن نادي روما كان له السبق في هذا المجال، فقد عقد اجتماع ضم رجال الأعمال الإيطالي أوريليو بيشي والمدير العلمي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الكسندر كنج عام 1967، وتبين للطرفين أن هناك مشكلات تهدد المجتمع الدولي مثل الزيادة السكانية والفقر..إلخ، وان منظمات المجتمع الدولي عاجزة عن التصدي لهذه المشكلات. واستنادًا إلى ذلك عقد اجتماع في روما عام 1968 وضم ثلاثين عالم من عشر دول، وأطلق على هذا الاجتماع اسم “نادي روما”. وركزت دراساته على الربط بين ظاهرة الاعتماد المتبادل المتزايدة بين المجتمعات وبين تطوير طرق دراسة مستقبل الإنسان لمعرفة الاحتمالات المختلفة للظواهر الإنسانية. وتقوم النماذج العالمية على:
أ- تحديد المتغيرات التي تؤدي إلى انهيار أو بقاء المجتمع الدولي في حالة توازن، وقد برزت في هذا الجانب أفكار العالم بروجوجين عن فلسفة عدم الاستقرار والتي كان لها أكبر الأثر
ب- تحديد ميكانيزمات التكيف المتوفرة للمجتمع الدولي لمواجهة التغيرات المحتملة مثل دراسة مساحات الأراضي الزراعية لمواجهة الزيادة السكانية أو العلاقة المستقبلية بين سباق التسلح والفقر
ج- تحديد قدرة الوحدات الدولية القائمة على تعبئة مواردها لمواجهة التغيرات
د- تحديد المسوغات القانونية التي تبرر التدخل من القوى الخارجية لضبط الخلل على المستوى الدولي
ه- اعتبار عملية التغير هى القاعدة.
وفي هذا الإطار تم تحديد النماذج العالمية وفق الخطوات التالية:
ا- التقسيم الجغرافي للعالم، حيث يقوم النموذج على تقسيم العالم إلى عدد معين يختلف من نموذج لآخر، ويتم التقسيم على أساس معيارين هما التجاور الجغرافي وتقاليد التفاعل التاريخية
2- تحديد عدد من القطاعات التكنولوجية والاقتصادية والثقافية..إلخ، واعتبار هذه القطاعات تطوي بداخلها نظم فرعية” تقسيم الاقتصادي أو الثقافي إلى فروعه المعروفة”.
3- دراسة التفاعل بين القطاعات والاقاليم على أساس التأثير المتبادل بينهما، وتتم الدراسة في هذا الجانب على أساس التأثير الوظيفي بين القطاعات في الأقاليم والأساس الجغرافي من خلال تأثير كل إقليم على الأقاليم الأخرى
4- تحديد اتجاهات التفاعل لتحديد الاحتمالات المستقبلية
ومن أهم علماء النماذج العالمية العالم الأمريكي بكمنستر فولر، والذي اشتهر بنموذجه الذي أطلق عليه اسم اللعبة العالمية “Great Logistic Game”، حيث بنى قبة تعادل مساحتها مساحة ملعب كرة السلة ورسم عليها خريطة للعالم أبرز فيها كل التضاريس وربطها بالكمبيوتر الذي يضم قاعدة معلومات ضخمة عن الإتجاهات الإنسانية والموارد العالمية والاحتياجات والمشكلات الدولية..إلخ، ووضع هدف لكل باحث يتمثل في محاولة وضع أفضل معادلة لتحقيق أفضل النتائج في ضوء المعطيات المتوفرة، فعلى سبيل المثال لو كانت دالة النموذج هى تقليص الحروب فإن المعادلة يجب أن تحقق استخدام الموارد المتاحة فقط لتحقيق هذه الدالة في أقصر فترة ممكنة. وبالمثل يمكن لدارس أو مجموعة من باحثي الأنثروبولوجيا المستقبلية القيام بنفس اللعبة ميدانيًا لمعرفة ما نريد من معلومات وبيانات حول موضوع معين ثم وضع ما حصلنا عليه على الكمبيوتر، ومن ثم معرفة واستشراف وصنع مستقبل معين، ولكن على نطاق شعب ما أو منطقة محلية في دولة ما، أو إقليم عالمي معين أو شعوب معينة، كشوب الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوربي وشعوب جامعة الدول العربية.