بقلم: نيكولاس هوبكنز
ترجمة: عبد الحميد حواس
تقديــم
إذا جَازَ لي أن أعتبر شخصي «عيِّنة» لما ساد من أفكار ومعرفة في الجيل الذي بدأ في دخول الحياة الفكرية في ستينات القرن العشرين، فسأذكر أنِّي لم أعرف محمد جلال إلاّ اسماً ألَّف بحثاً بالفرنسية عن الشعائر الجنائزية. قرأتُ إشارة إليه في العدد الأول من دورية مركز «الفنون الشعبية» في أبريل 1959، وذلك ضمن قائمة أوردها رشدي صالح نقلاً عن «ببليوجرافيا مشروحة عن الفلاح المصري» نشرها بالإنجليزية كولت في عام 1958. وتشوَّفتُ للاطلاع على البحث منذ ذاك، ولكن كيف السبيل إليه وهو منشور بالفرنسية في باريس سنة 1937.
حتى عندما رجعت د.علياء شكري للبحث كان ذلك في رسالتها المكتوبة بالألمانية للحصول على الدكتوراه من جامعة بون سنة 1968. وهكذا بصورة أو أخرى أوغل الزمن في إبعاد اسم محمد جلال وبحثه عن الذاكرة الحاضرة داخل الديار العربية.
وأحسب أن هذه الفجوة المعرفية وأمثالها -وهُم كُثْر- عززوا إحداث قدر كبير من التشوش والاضطراب اللذين شاعا في مجال الثقافة الشعبية، سواء على مستوى المصطلح أو المفاهيم أو تحديد طبيعتها وموضوعاتها، وكذا التأريخ لها. ويتجلى هذا -في سياقنا- في أمرين: أولهما صلة درس الثقافة الشعبية بدرس الأنثروبولوجيا، وثانيهما: التأريخ للدراسات الشعبية.
أما بالنسبة للأمر الأول، فرغم اختلاف الذين تناولوا الثقافة الشعبية في تحديد الجانب الذي يتناولونه منها فإنهم مالوا إلى تأكيد ابتعاد عملهم عن الدرس الأنثروبولوجي. ويبدو أن هذا الميل صدر عن رغبة في إظهار استقلالية عملهم وعدم التزامه بشروط الدرس المنهجي. وظهر في ستينات القرن العشرين وسبعيناته جدل حول فقه الفروق، كالفرق بين الفولكلور والأنثروبولوجيا والاثنولوجيا والاثنوجرافيا وما أشبه، ومثله الخلط الذي لم يستبن حتى يومنا هذا بَيْن «الفنون الشعبية» و»التراث الشعبي» و»الأدب الشعبي» و»المأثورات الشعبية»، وأخيرا «الثقافة الشعبية»، ناهيك عن النعت «شعبي» هذا! ولكي «أجيب من الآخر»، الرأي عندي
-الآن- أن دراسة الثقافة الشعبية هي شعبة من دراسة «علم الثقافة»، باعتبار الثقافة هي ما أنتجته الجماعة البشرية المحددة من خبرة ومعرفة وتصورات وقيم، عملت بها في المجالات العملية والعقلانية والوجدانية، ونظّمت بها علاقاتها وحددت أسلوب معاشها وأطّرت نظرتها للوجود. والأنثروبولوجيا بمعناها الرحب، وخاصة إذا جنبنا مؤقتا الفرعين: الأنثروبولوجيا الطبيعية والأخرى الاستعمارية، هي دراسة لأحوال أيِّ من الجماعات البشرية وهي تحقق كينونتها الاجتماعية وتنظمها في مواجهة ضرورات الطبيعة. ومن ثَمَّ تتقاطع الدراسة الأنثروبولوجية مع دراسة الثقافة الشعبية في ملتقيات عريضة. وعليه، فإن انشغالنا بإسهام محمد جلال يصب في مجال الدراسات الشعبية وإن صنفها الجامعيون ضمن الدراسات الأنثروبولوجية.
أما بالنسبة للأمر الثاني وهو الخاص بالتأريخ للدراسات الشعبية فموجز القول: إنه مازال في حاجة للتحري المنهجي لملء الفجوات المعرفية القائمة، كما أن عليه التخلص من نوازع الاستسهال أو الخضوع لإغواء الشوفينية وأهواء الفئوية. وإدراكا لأهمية العمل على هذا التأريخ المدقق وضعتُ مُخطّطاً مؤملاً أن يشتغل عليه بعض شباب الدارسين (انظر مقدمة «أوراق في الثقافة الشعبية»، القاهرة، ط الأولى، 2002). وقد أرجعتُ فيه بدايات الاهتمام الجاد ذي النظرة النقدية إلى بدايات النهضة كما تظهر في كتابات رفاعة رافع الطهطاوي. وقد نما هذا الاهتمام مع نموّ الحركة الوطنية وما واكبها من فحص «للذات» الوطنية في مواجهة «الآخر» المستعمر ولكنه المتقدِّم في الآن ذاته.
ثم حدثت نقلة نوعية في ثلاثينات القرن العشرين، إذْ اتخذ الاهتمام طابعا منهجيا وأسهمت في رصيده دراسات جامعية من مداخل مختلفة تنتمي إلى نظم معرفية أخرى، كالجغرافيا والتاريخ والتربية واللغة، فضلا عن الأدب والاجتماع. أما النقلة النوعية التالية، والتي مازلنا نعيش نواتجها حتى يومنا هذا، فهي التي حدثت عقب الحرب العالمية الثانية، عندما برز جيل النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين من المثقفين الوطنيين الديموقراطيين الذي جعل من المقاربة المنهجية أساساً، ومن التوسيع من نطاقها عملاً.
وفي إطار هذا المخطط تظهر أهمية الكشف عن دور محمد جلال ودراساته القائمة على العمل الميداني المكثف في حقل الثقافة الشعبية. والفضل في الكشف عن هذا الدور يعود للأستاذ نيكولاس هوبكنـز، الذى ثابر على متابعة البحث عن مظان الأشخاص والأماكن التي قد يوجد بها أي معلومات تتصل بهذا الدور، وخاصة في فرنسا. وهكذا واصل حفرياته في الأضابير والمخطوطات سعيا وراء أي وثيقة ذات صلة.
وهذا التحري المدقق ليس بغريب عن الأستاذ نيكولاس هوبكنـز، إذْ طالما ظهر في دراساته الميدانية المتوالية في النوبة وريف الصعيد، وفي غيرها بأنحاء أفريقيا والهند. وقد عمل أستاذاً للأنثروبولوجيا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما تولَّى رئاسة قسم الدراسات الاجتماعية وعمادة كلية الإنسانيات.
وقد تكرَّم الأستاذ نيكولاس هوبكنـز بالموافقة على ترجمة هذا البحث الذي يعرض نتائج استقصاءاته بالنسبة لمحمد جلال، كما وافق على نشر الترجمة العربية مصحوبة بالنص الإنجليزي على النحو الذي يجده القارئ في هذا العدد.
ويبدو أن مثابرة الأستاذ هوبكنـز والتزامه مبادئ التحرّي والاستقصاء كانت مُعْدِيَة، إذْ حفزني إطلاعي على بحثه والحماس لترجمته إلى انتقال اهتمامي بمحمد جلال من طور كنتُ فيه منذ سنة 2009 اعتمد على غيري من الأصدقاء والزملاء من هيئة التدريس للسؤال عن معلومات عن محمد جلال، فإذا بحالة أخرى من الحميَّة واليتُ فيها التردد على مظان وجود معلومات، وخاصة في أرشيف جامعة القاهرة، ثم في أرشيف كلية الآداب، إلى أن توصّلْتُ إلى وجود ملف له بأرشيف كلية الآداب (م. 24/68). وكان الفضل للدكتورة وفاء صادق مديرة وحدة الذاكرة الإلكترونية في تيسير الاطلاع على الملف.
وهو ملف إداري بمعنى أنه خاص بالمكاتبات التي تجريها الكلية بخصوص تصرفاته الوظيفية. ويشغل موضوع طلب أحد من أهله لمعاش استثنائي (مرة أمه ومرة زوجته ومرة ابنته) نصيبا كبيرا من هذه المكاتبات؛ ودعك من أمثال المكاتبات الخاصة باسترداد كتابين (بالإنجليزية من تأليف هربرت سبنسر) كان قد استعارهما من المكتبة العامة للجامعة، أو المكاتبات الخاصة بإجازاته المرضية. ومن المفارقات التراجيدية أن الخطابين اللذين يحويان بيانات تتناول وضع محمد جلال الأكاديمي، أحدهما (1764بتاريخ 25/1/1942) كان موجها إلى سكرتير عام (أمين عام) جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) من عمادة كلية الآداب باقتراح بتعيين الأستاذ محمد جلال عبد الحميد مساعد مدرس من الدرجة السادسة بماهية قدرها 17 جنيها ليتولي تدريس علمي الاجتماع والإثنولوجيا بقسم الفلسفة (الذي كان يضم في إطاره الدراسات الاجتماعية والنفسية). بينما كان الخطاب الثاني (2191 بتاريخ 23/4/1944) موجها أيضا إلى إدارة الجامعة من عمادة كلية الآداب، ولكن بخصوص طلب والدته معاشا استثنائيا، ولتبرير الطلب أورد الخطاب بيانا لحالة محمد جلال الوظيفية، اعتمد فيها على ما ورد بالخطاب الأول إلى حد التطابق.
على كل حال، أوُرد فيما يلي البيانات التي تهم سياقنا، آملاً أن تتكامل مع ما أورده بحث الأستاذ هوبكنـز، بأن تسد بعض الثغرات أو تُعَدِّل البعض، وخاصة في مرحلة محمد جلال الأخيرة بالقاهرة:
سافر على حسابه الخاص إلى فرنسا في أكتوبر 1932 لإتمام دراسته.
حصل على معادلة البكالوريا من جامعة باريس في سنة 1937.
حصل على دبلوم المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بالسوربون سنة 1937.
حصل على ليسانس الآداب من كلية الآداب بباريس سنة 1938.
قُيِّد في الجامعة المذكورة للتحضير لدرجة دكتوراه الدولة في الآداب.
انتدبته جامعة باريس في بعثة إثنولوجية بمصر والسودان.
منحته إعانة مالية وزوّدته بجميع الأدوات العلمية اللازمة.
لما نفدت الإعانة منه لم يَعُد في مقدرته إتمام أبحاثه (العمل الميداني) على حسابه الخاص.
تقدم لكلية الآداب طالبا منحه إعانة لمواصلة أبحاثه في بلاد السودان، أو ضَمِّه إلى بعثاتها.
وافق مجلس الكلية في أول مايو سنة 1940 على ضَمِّه لبعثة الكلية.
لمَّا عُرض الأمر على مجلس إدارة الجامعة في جلسة 6 يونيه 1940 قرر منحه
-كطالب بجامعة باريس- مكافأة دراسية قدرها ستون جنيها تشجيعا له على إتمام الأبحاث التي يقوم بها في مصر والسودان، كما وافق على ترشيحه لبعثة.
في 13 أغسطس 1940 قررت اللجنة الوزارية الاستشارية لبعثات الحكومة ضَمَّه لبعثة الجامعة.
وقد كان برنامج بعثته يقضي أن يستمر في أبحاثه بالسودان لغاية نوفمبر سنة 1940، ثم يسافر إلى باريس لوضع الرسالة وتقديمها ومناقشتها قبل نهاية شهر يونيه 1942 تاريخ انتهاء بعثته.
سافر إلى السودان مرَّتين وجمع المعلومات والوثائق اللازمة لرسالته، ولكنه لم يستطع السفر إلى فرنسا بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية.
قام بتدريس ثلاثة دروس أسبوعيا في علمي الاجتماع والإثنولوجيا لطلبة الماجستير والامتياز والليسانس بقسم الفلسفة في العام الدراسي 41/1942.
تسلَّم العمل بالكلية في وظيفة مساعد مدرس (درجة سادسة) بتاريخ 1/6/1942، ليواصل الدروس نفسها.
انتدب للعمل بمتحف الحضارة المصرية «في أوقات فراغه» منذ شهر
فبراير 1942.
(من توافقات القدر أنيّ عملتُ أمينا لمتحف الحضارة المصرية في بداية حياتي الوظيفية بين السنوات 63-1966، ولكني لا أذكر إشارات تدل على عمل محمد جلال، وللأسف المتحف مغلق الآن بحيث يصعب التوصّل إلى أرشيفه. وفي كل الأحوال، فإن «متحف الحضارة المصرية» يعرض بواسطة وسائل إيضاحية متعددة المراحل الحضارية التي مرّت بمصر منذ عصر ما قبل الأسرات إلى العصر الحديث. وأغلب الظن أن مجال عمل محمد جلال كان القسم الخاص بمرحلة ما قبل التاريخ).
توالت أجازاته المرضية في نهاية 1942 وبداية 1943، وكانت أعراض المرض: آلام عصبية، وصداع مستديم، ونزلة قولونية.
توفي في 7/2/1943.
وهكذا أهُيض هذا المشروع الناهض وهو على مدرج الإقلاع، وترك لنا شعورا فاجعا عن الحياة البشرية الهشة. وإذا كُنَّا نأسف على شبابه المغدور بداية، فإننا نتحسر -نهاية- على ميراثه العلمي والمنهجي الذي طواه الزمان، وتعرونا الخشية من أن يفعل أخلافه فعلة الورثة الحمقى الذين يبددون ميراثهم ويُهدرون إنجاز أسلافهم بدلا من الاعتناء به والبناء عليه.
ترجمة البحث[1](*)
الأنثروبولوجيا علم وصفي وتحليلي يحاول ملاحظة التنوّع الهائل في الظروف البشرية وفقاً للمكان وللزمان. وقد نما مستقلاً عن الاستشراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في كلاً من أوروبا وأمريكا الشمالية، بهدف بناء كيان من المعرفة عن شمائل «الآخرين» وأساليب حياتهم من أجل إنماء جهاز علميّ ومفهومي يُوَجِّهه علم إنساني.
وقد اهتم الأنثروبولوجيون منذ زمن مبكّر بمصر المعاصرة، للسببين معاً: من أجلها هي نفسها، ومن أجل تتبع أثر نموّ الحضارة في إحدى حالاتها الرئيسة. غير أن أول أنثروبولوجي مصري كان محمد جلال، الذي نفحص إنجازاته في هذا المقال. لقد بدأ جلال بفحص مجتمعه قبل أن يستدير إلى أكثر المجتمعات إختلافاً في أفريقيا جنوب الصحراء، وبهذا انتقل من النظر من الداخل إلى النظر من الخارج.
في مصــر
من المفترض أن يكون محمد جلال (1906-1943) أوَّل أنثروبولوجي مصري مهنيّ، حيث أنه حصل على تدريب أكاديميّ، وأجرى عملاً ميدانياً، ونشر دراسة أنثروبولوجية. بيد أنه توفي مبكّرا لسوء الحظ. فصار غير معروف إلى حد كبير للجيل الحالي من دارسي علم الاجتماع في مصر أو في الشرق الأوسط. وسأحاول في هذه الورقة البحثية أن أجدد التعريف بمحمد جلال وإنجازاته وأضعها في سياق الأنثروبولوجيا المعاصرة.
لقد درس «جلال» ونشر في فرنسا، وانفصل عهده عن الجيل التالي من الأنثروبولوجيين باضطرابات الحرب العالمية الثانية. وتكوَّن ميراثه الأنثروبولوجي من دراسة اتخذت هيئة كتاب طويل (جلال 1937) ومجموعتين متحفيتين في باريس. والدراسة معنونة «ملاحظات على شعائر الدفن المعاصرة في مصر كما سُجِّلت من بعض المناطق الريفية». «Essai d’observations sur les rites funéraires en Egypte actuelle relevées dans certaines régions campagnardes»، وقد أهدى جلال هذا العمل «إلى أستاذيّ: م: موس M. Mauss ول. ماسينيون L. Massignon». لقد كان «موس» الأنثربولوجي المُوَجِّه في أيامه، كما كان «ماسينيون» مستشرقاً بارزاً. ولم يكونا مُعَلِّميْه الخاصين فقط، بل كانا يساعدانه -أيضا- في الشئون الإدارية والمالية.
الكتاب نفسه يحتوي إشارات قليلة -إلى حد ما- إلى العمليات البحثية التي أنتجته([2]). إذْ يورد محمد جلال أنه أجرى أبحاثه في مناطق بعينها من مصر اعتبرها مُمثِّلة، على الأخص محافظة الشرقية، وكذلك في البحيرة وأسيوط وأسوان والقاهرة. وأكَّد فيما بعد على اعتماده على الملاحظة والاتصال المباشر مع الريفيين، مُنتبهاً إلى أن المسئولين المحليين قد يعطوه نظرة مُعقْلَنة، وأن الاتصال المباشر وحده هو الذي سيمدّه بتفاصيل يُعَوَّل عليها (1937: 131). لقد كان التشديد على الوقائع القابلة للملاحظة. ومن أجل تأسيس علاقة مع الأهالي، كان من الضروري إظهار أنه يعرف بالفعل قدراً طيباً حول الموضوع، وبهذا استطاع الدخول في علاقات طيبة مع الأهالي وأصبح قادراً على الملاحظة المباشرة دون إزعاج الناس.
لم يضع جلال عمله ضمن أي اتجاه فكري بشكل جليّ، إلاّ أن أثر موس وأتباعه واضح. والاقتباسات الوحيدة، التي استخدمها للتأسيس للإجراءات الرسمية، كانت تعود لمجموعتين: واحدة مسلمة والأخرى مسيحية (وزارة الأوقاف 1936، سليمان 1936). على أيّة حال، فهو يذكر أنه بالإضافة إلى تقديم المادة الخاصة بشعائر الموت، تعمّد أن يُبيِّن العلاقة بين هذه الشعائر و»الوقائع» الاجتماعية والدينية والمعنوية، وإظهار إلى أي مشاعر ومعتقدات يُمكن أن تُعْزَى هذه الوقائع. إن بنية العمل ومفرداته تعكسان تعاليم موس كما تظهر في مقرره الدراسي بمعهد الاثنولوجيا (انظر 1967: 231-233، وأيضا موس 1960)، مثلما أن وضع النصوص المدوَّنة بنُطْقها في بؤرة العمل يعكس اهتمامات ماسينيون.
تكشف عناوين فصول الكتاب عن بنائه. لقد صُمِّمت المراحل بداية كالتالي: المرض، متضمناً لحظة الوفاة، إعداد الجثمان للدفن، الجنازة، معمار القبور والجبانة، زيارة المدفونين في الجبانة. ثم يناقش جلال -في الجزء الثاني- الجوانب الدينية والمعنوية (الثقافية) والاجتماعية، والمعتقدات والمشاعر المتعلقة بالجنازات. وزوّد الكتاب بملحق حوى نصوص البكائيات، ومقالاً بالصور أيضاً. ويربط جلال الممارسات الطبيعية للعناية بالجسد بالأفكار المصرية عن أسباب المرض والموت ومسار الروح بعد الوفاة؛ إذْ من المهم أن يُقدِّم الجسد نفسه لحضرة الإله في هيئة جميلة. وباستعارة لغة فان جِنِّب Van Gennep (وهو ما لم يفعله جلال) يُمكننا القول إن الدراسة تُغَطِّي كامل الفترة الواقعة عند «عتبة الشعور»([3]) منذ بداية المرض إلى الخلوص النهائي للروح (فان جِنِّب 1909).
تُتَناول المادة التي عرضها جلال لكي تُشخِّص المجتمع أكثر منها أن تكون مصورة للأفعال الفردية داخل إطار ثقافي؛ باعتبارها «وقائع اجتماعية». وبهذا يكون التنوع الفردي مُسْتَوْعَباً داخل النمط الاجتماعى، والتفاعل بين الفاعلين المختلفين ليس هو المقصد. إنّ جلال يعرض -بدايةً- الملاحظات الإثنوجرافية، ومن ثَمَّ يُقدم التأويلات التي يقول بها الأهالي. وفي هذا كان جلال أميناً مع زمنه كما كان انعكاساً لمعلّمه، موس.
يقوم جلال بالإشارة إلى الفروق حيثما وُجدت بسبب اختلاف الإقليم أو العقيدة. وعادة ما توضع مصر العليا ومصر السفلى في تقابل. وهو يشير إلى وجود نقاط قليلة يظهر فيها اختلاف الممارسة القبطية واليهودية عن أنموذجه، بل يوجد -أيضا- الكثير من النقاط المتشابهة. وبالرغم من طموحه إلى أن يمتَدّ بالدراسة إلى أن تشمل كل مصر (الريفية)، فأظن أنه يمكن للمرء الاستنتاج أن حالة قرية سِنْدِنْهور([4]) – موطن جلال- تُمثِّل النقطة المرجعية، والحالات الأخرى نُظِر إليها بالتقابل معها.
يمكن تعقب تأثير موس في عديد من كتابات جلال. وفى المقام الأول الانتباه الذي أولاه لمراحل إعداد الجثمان للدفن الذي هو صدى لاهتمام موس ببيان كيف تُتعلم عادات التحرك (تقنيات الجسم) (كالمشي والجلوس، إلخ) وتكراراتها (1934). وتحليله الدقيق الحاذق لإزجاء واجبات التعزية عند الوفاة ورد أهل المتوفي لها، هو -بالطبع- استعادة لدراسة موس «الهدية» (1923). ومناقشته لدفن الجثة، وردود أفعال المعزين، ومصير الروح، تتصادى مع عمل زميل موس، روبرت هيرتز (1907). وفي الأثناء يركز جلال على التعبيرات عن المشاعر التي تأخذ طابعا اجتماعيا وإلزاميا، وارتباطها بالمكانة الاجتماعية للعائلة، أكثر مما يركز على ردود الأفعال الفردية (انظر موس 1921).
بمراعاة كلا الأمرين: المكانة الطبقية والعائلة، فإن الموت والجنازات يقويان التمايزات الاجتماعية. فتحليل جلال تحليل حساس بخصوص الطبقة والتمايزات الاجتماعية: الأغنياء يمكنهم تنفيذ الصورة المثالية، أما الفقراء فعليهم إجراء حلول وسط. وفي الوقت نفسه، عليهم أن يعيشوا دورهم حتى لو كانوا لا يستطيعون تحمل أعباءه: فإنهم يستدينون الأموال بتكتم لتغطية نفقات الجنازة. وعندما تقع وفاة في عائلة ميسورة، يكون هناك الكثير من الأدوار الملحقة على الفقراء القيام بها. كما أنه يسلط الضوء على الأدوار المختلفة للعائلات المنضوية (على سبيل المثال: عائلة الزوج أو عائلة الأم)، كما يحدد في ردود الفعل للوفاة الاختلافات بالنسبة للنوعين (الذكر والأنثى). إن أدوار مختلف أعضاء العائلة تتبدل عندما يستقبلون المعزين وتتوافق مع الأنماط المتبدلة للعلاقات الاجتماعية الناتجة عن الوفاة. ويوجد أيضا متخصصون بعينهم في إجراء الشعائر، وخاصة «اللحاد» الذي يشرف على إعداد الجثمان للدفن ووضعه في القبر، وتلاوة الأدعية الأخيرة. وفي موكب الجنازة قد يوجد قارعو طبول وندابات محترفات، وفي استقبالات تلقي العزاء والزيارات التالية للمقبرة يكون هناك قارئو القرآن.
وفي بين الأقواس التي توجد داخل نص الكتاب يورد تحليلات مفصلة للمظاهر الثقافية المتمايزة التي تتعلق بالروابط بين هذا العالم الفيزيقي وما وراءه: العين الشريرة (ص ص 139-142)، الزار (ص ص 147-150) الاستغاثة بالقديسين والأولياء عند أضرحتهم (ص ص 198-200)، المعتقدات الخاصة بيوم الحساب (249-252).
محمد جلال
يُعرف -بالكاد- اسم محمد جلال في سجلات الأنثربولوجيا المصرية. لا أحد من الناشطين في مجال الدراسات الاجتماعية في مصر -الآن- يعرفه معرفة شخصية، وإنْ كان البعض على دراية بوجود دراسته. من هو محمد جلال؟ كيف تَأتَّى له كتابة هذه الدراسة، ثم اختفى؟ بحثتُ عن هذه الغوامض في المكتبات والأرشيفات المختلفة في باريس عام 2010، وأتبعته بإجراء مقابلات في مصر. وتعرض هذه الورقة البحثية ما عثرتُ عليه.
لقد كان اسمه الكامل: محمد جلال عبد الحميد صالح الحضري. استخدم منه: محمد جلال، فقط، في فرنسا للأغراض المهنية. وُلد في عام 1906 في قرية سِنْدِنْهور بمحافظة الشرقية، حيث كانت عائلته تمتلك أرضاً. استعمل سِنْدِنْهور عنواناً بريدياً له في مصر، وهكذا تظهر باعتبارها موطنه الذي عاد إليه. وقد توفي والده عندما كان طفلاً، وتألّفت أسرته المباشرة من أمه وأخته. أكمل تعليمه الثانوي بالزقازيق عاصمة محافظة الشرقية. كانت فرنسيته ممتازة، التي -بلا شك- تعلمها جزئيا في مصر ثم صقلها أثناء إقامته الطويلة في باريس من سنة 1931 إلى سنة 1938.
دراسة الأنثربولوجيا في باريس
كان جلال موفور الحظ أن يتجه لدراسة الأنثروبولوجيا في باريس خلال فترةٍ تكثفت فيها الإثارة الفكرية وابتداع المؤسسات. لقد وجد مُرَكَّبا من المؤسسات المتواشجة، من ضمنها: معهد الإثنولوجيا Institut d’Ethnologie، والقسم الخامس (الخاص «بعلوم الدين») من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا Ecole Pratique des Hautes Etudes، ومتحف الأنثروبولوجيا المجدَّد «متحف الإنسان» Musée de L’Homme، وكلية فرنسا Collège de France. وكانت معاً تقدّم إطاراً لتعليم الأنثروبولوجيا في باريس. وكان معظمها جديداً أو جُدد خلال فترة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين.
كان مارسيل موس Marcel Mauss هو الشخصية الرئيسة، وكان حينئذ في أوج قواه، يدرِّس في معهد الإثنولوجيا والمدرسة التطبيقية للدراسات العليا والكوليج دوفرانس (فورنييه 2006). لقد عُيِّن موس في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في سنة 1901، وأصبح رئيسا للقسم الخامس عام 1938؛ وساعد في تأسيس معهد الإثنولوجيا في عام 1925، وانتخب للكوليج دوفرانس في عام 1930 (بويون 2008: 668-670) ([5]). وكان الكثير من الطلبة يتتبعونه من موقع تدريس إلى آخر (ديمون 1972: 12؛ تيّيون 2000: 15). لقد كان الغرض من معهد الإثنولوجيا توفير تدريب أولي لنطاق واسع من الطلبة وموظفي المستعمرات وغيرهم. وكان يقدم مقررات دراسية قليلة خاصة به، ولكنه كان يشجع الطلبة على الالتحاق بالمقررات ذات الصلة الموجودة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا والمدرسة الاستعمارية وجامعة باريس والكوليج دوفرانس، وأي جهات أخرى. وكان أحد المقررات الدراسية التي تُقدم دروس موس في النظرية والمنهج مقصود به الإعداد للبحث الميداني؛ وكان ذا مستوى عالٍ (راجع موس 1967) واجتذب تنوعاً غنيّاً من الطلبة. وبالإضافة إلى ذلك، قدَّم مقررات متخصصة في الإثنوجرافيا في المعهدين الآخرين.
كان لدى معهد الإثنولوجيا صلاحية منح شهادة في الإثنولوجيا بكلية الآداب (1927) وبكلية العلوم (1928). وكانت المدرسة التطبيقية للدراسات العليا لها صلاحية منح درجتي التخرج: دبلوم ودكتوراه. ولم تكن الكوليج دوفرانس تمنح أي درجة، ولكنها، مثل المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، كانت مقرراتها حُرَّة ومفتوحة للجميع، وحتى أولئك الذين لم يحصلوا على درجات ثانوية أو جامعية كانوا يستطيعون الحضور والمشاركة.
أُعيد تنظيم متحف الإثنوجرافيا القديم ليصبح «متحف الإنسان» Musée de L’Homme بين السنوات 1929 و1937، تحت قيادة بول ريفيه Paul Rivet وجورج -هنري ريفيير George Henri Rivière. وكان مبدؤه المُوجِّه هو التركيز على أشياء الحياة اليومية أكثر منه على تلك التي تُعَدّ أرفع جمالياً، أو تلك التي ببساطه تعتبر غريبة، وعلى هذا النحو سعى المتحف لخلق أرشيف مادي للمجتمعات الآخذة في التلاشي أو في الاستيعاب. وهكذا كانوا في أواخر الثلاثينات مهتمين بالتوسيع المتعدي لمجموعات المتحف (لوريير 2006).
والشطر الآخر من البنية المؤسسية التي أسهم فيها جلال كان جمعية دارسي أفريقيا Société des Africanistes وكان مقرها بمتحف الإنسان. وشمل اصطلاح «أفريقيا» لديهم بلدان شمال أفريقيا. وفي مناسبتين أوردت مجلة جمعية دارسي أفريقياJournal de La Société des Africanistes إشارة إلى التقدم في عمل جلال بالسودان مبنية على رسائله. وكان الرابط بين متحف الإنسان وجمعية دارسي أفريقيا الأنثربولوجي والسيريالي ميشيل ليريس Michel Leiris.
دراسات جلال
كان جلال مُسَجَّلاً طالباً في مكانين: المدرسة التطبيقية للدراسات العليا ومعهد الإثنولوجيا. لقد أتى من مصر بعد أن أتمّ تعليمه الثانوي، ولكن من الواضح أنه ظَلَّ في باريس لبعض الوقت قبل أن يظهر في السجل الأرشيفي، ومن ثم قد يكون التحق أولاً بدراسة في مكان ما. لقد كان طالباً يدرس من نفقته الخاصة، ولم يحصل أبدا على أكثر من دعم متواضع من «البعثة التعليمية المصرية» Mission Scolaire égyptiene. ليس في السجلات ما يفيد عن بدء دراسته([6]). وأول وثيقة متاحة تشير إلى وجود جلال في باريس مذكرة بتاريخ أكتوبر 1936 مُرسلة إلى موس تسأله النصيحة فيما يخص قراءة كتاب فريزر «الغصن الذهبي». Golden Bough. نغمة المذكرة تجعلها تُعطي جَرْس الاتصال الأوّلي، ونوع السؤال الذي يسأله طالب يسعى إلى جذب بعض انتباه الأستاذ. ومن ناحية أخرى، كتب ماسينيون في أبريل 1937 أن جلال قد أنجز عمله الميداني في الصيف السابق، يعني 1936، مما يُفيد أنه قُيِّد على الأقل السنة السابقة حتى يكون قد استوعب تعاليم موس والآخرين، وحتى يتمكن من تحديد موضوع للبحث.
كتب ماسينيون لموس في ديسمبر بخصوص الحاجة لتخصيص دعم مالي لجلال. وقد أقنع فيما بعد السلطات المصرية لإمداده براتب متواضع (700 فرنك في الشهر تُدفع دون انتظام). وفي عديد من المواقف الأخرى رفضت الحكومة المصرية دعم جلال -على سبيل المثال: من أجل طباعة أطروحته، أو من أجل دعم إضافي لعمله الميداني في السودان.
يبدو أن جلال قضى شتاء 1936 -1937 يشتغل على نصّ «الشعائر الجنائزية» Rites Funéraires حيث أن ماسينيون كتب في أبريل إلى موس أنه قرأ الجزء الأول من «المذكرات» mémoire (الأطروحة) ووجده جيداً، وإن كان في حاجة للتحرير، مُضيفاً «أهنئك على نجاحك في تعليمه المناهج». وفي يونيه 1937 أخطر ماسينيون موس أن «المذكرات» mémoire قد قُبلت. ومُنح جلال «دبلوم» من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا عن أطروحته عن شعائر الجنازة في مصر.
على أية حال، فمن أجل أن تصبح الدرجة (العلمية) مُجَازة كُلِّيا يجب أن يتم نشر الأطروحة كاملة أو في أجزاء، وينتج عن هذا ضرورة مناقشة كيفية تغطية تكاليف النشر. وفي هذا، ساعد موس بإيجاد إعانة مالية صغيرة من أجل تكاليف الطباعة. وفي النهاية، في أكتوبر 1937 كتب ماسينيون أنه يمكن نشر الأطروحة في «مجلة الدراسات الإسلامية» Revue des Etudes Islamiques التي كان يديرها. وهذا ما تّمَّ.
كان لدى ماسينيون تحفظات إزاء عمل جلال لأنه خشي ردّ فعل المحافظين الدينيين في مصر. وتشاور مع جلال في تلطيف بعض الملاحظات التي أوردها عن العادات والمعتقدات التي بدت غير قويمة. وفي رسالة إلى جلال تتناول اجتماع اللجنة التي وافقت على الأطروحة، أبدى ماسينيون عدم ارتياحه من إمكانية وجود أصداء لنشر النصّ من المسلمين المتشددين الذين قد يهتاجون نتيجة ما وَرَد من انحرافات عن سنة المسلمين. لذا اقترح ماسينيون أن تنشر الأطروحة في فرنسا فهذا أفضل من نشرها في مصر، واقترح على جلال التشاور مع طه حسين، الذي كان قد وصل إلى باريس من فترة قصيرة، حول إعادة صياغة بعض العبارات الرئيسية؛ ووجوب إعداد مُسَوْدة مقدمة تسمح لمصطفى عبد الرازق، الذي ساعده في الماضي، بمواصلة الدفاع عنه. وفي أكتوبر أضاف ماسينيون في رسالة إلى موس أنه قلق من ضجّة جديدة في القاهرة حيث أن عديداً من الوقائع الحالية بخصوص الإسلام قد هيَّجت الناس، واقترح لتحقيق الأفضل لصالح جلال أن يحترس. لم يذكر ماسينيون ما الذي كان يقلقه. ولا نعرف ما إذا كان جلال اتبع هذه النصيحة، ومع هذا فالنص قد نُشر في فرنسا. وطالما أن ماسينيون لم يكن فقط المشرف ولكنه كان أيضا محرر المجلة التي ستنشر النص، فإن آراءه كان لها بوضوح بعض الوزن. وقد أبلغ ماسينيون موس أنه سيشتغل مع جلال على لغة الإصدار، وليس هنالك ما يُنْبئ إلى أي مدى حدث ذلك.
خلال العام الجامعي 1937-1938 واصل جلال حضور المقررات الدراسية بوصفه «طالب حاصل على دبلوم» élève diplômé ([7]) أثناء إشرافه على طباعة أطروحته والتخطيط لخطوته التالية (بحث مفترض عن السودان من أجل الدكتوراه). وفي يونيه 1938 مُنح شهادة Certificat من معهد الإثنولوجيا، ضمن مجموعة تتضمن لويس دومون Louis Dumont.
حصل جلال في مايو 1938 على منحة مقدارها 20.600 فرنك من معهد الإثنولوجيا لإجراء بحثه في السودان. وكان موس هو السند في الحصول على المنحة. وقد كانت مقدارا مميزا من المال، كما هو واضح من مقارنتها مع ما يحصل عليه الباحثون الفرنسيون الذين يرعاهم معهد الإثنولوجيا. وقد خطط جلال للسفر إلى أقصى جنوب السودان على امتداد الحدود الأوغندية، على أن يذهب فيما بعد على امتداد الحدود الأثيوبية. يبدو أن السودان الجنوبي كان اختياراً واضحاً بالنسبة لمصري يبحث عن موقع ثقافي مختلف.
مهما يكن من أمر، فقبل التوجه إلى السودان، قام جلال في يوليو 1938 برحلة إلى أكسفورد لزيارة إيفانز برتشارد وسليجمان يسألهما النصيحة والتوجيه فيما يخص السودان الجنوبي حيث أجرى كلاهما بحثاً هناك (سليجمان 1965، إيفانز برتشارد 1937). وبالتالي أرسله سليجمان إلى «مكتب السودان» في لندن لمقابلة هويل A. B.B. Howell الذي كتب رسالة تعريفية عنه، بينما شدد عليه بحاجته إلى أن يعمل عن قرب مع السلطات في السودان. وفيما بعد، ذكر إيفانز برتشارد في مقال له أن جلال يُجري بحثا في السودان (1940: 63).
عقب هذه الرحلة إلى أكسفورد، عاد جلال إلى مصر وجمع المقتنيات التي كوَّنت مجموعته الثانية من سِنْدِنْهُور، ورَتَّب لتغليفها وشحنها (12 أغسطس – 15 سبتمبر 1938) وفي سبتمبر قابل ريفيه Rivet الذي كان يعبر قناة السويس، وتناقشا في الأنثروبولوجيا والحاجة إلى مزيد من البحث في مصر.
المجموعات المتحفية والثقافة المادية
أعدَّ جلال مجموعتين إثنوجرافيتين من أجل متحف الإنسان. جمع الأولى في سنة 1937 وتضم قِطعاً مُتَعلِّقة بالمواكب الجنائزية، وتمَّت الثانية سنة 1938 مكوّنة من القطع والأدوات التي تُسْتَّخدم في الحياة اليومية -وكان بعضها ضخماً بالفعل، من مثل: ساقية أو نورج.
ومفردات قطع المجموعة الأولى (71-1937-26) مُثبتة في السجل بوصفها هدية من جلال، بينما جمعت قطع المجموعة الثانية (71-1938-115) بناء على تكليف من المتحف وإن تم بمبادرة من جلال. لقد دُفع له مُقَّدَّما 2500 فرنك، وفيما بعد دُفع له1000 فرنك أخرى تمَّ صرفها متجاوزة الميزانية. كثير من هذه القطع ما زالت ضمن مجموعات «متحف الإنسان» الذي أصبح الآن «متحف كوي برانلي» Musée du Quai Branly.
تتكون المجموعة من 481 قطعة، ولنضع في الاعتبار أن القطع الضخمة، مثل الساقية، تفككت إلى أجزاء ومن ثم تحسب متعددة. قطع مجموعة الجنازة عرضت سنوات كثيرة «بمتحف الإنسان» في التروكاديرو Trocadéro، ولكنها منذ ذلك الحين رُفعت من العرض. وتحتوي سجلات المتحف تعريفاته لبعض القطع، تتراوح ما بين كلمة أو اثنتين إلى فقرة قصيرة. الحصر الموجود على شبكة الإنترنت يمزج المجموعتين. النظرة العامة على الحصر يمكن الوصول إليها على الموقع www.culturefr.recherche غير أن ملفَّات المتحف نفسها تحتوي معلومات إضافية، بما فيها رسوم (اسكتشات) للأدوات الزراعية الضخمة من مثل الساقية والنورج، مقصود بها مساعدة أمناء المتحف في إعادة تجميعها.
وأحد الأمثلة لما تحويه سجلات المتحف من معلومات تتجاوز الوصف المختصر الموجود على شبكة الإنترنت: وصف البيرق. وهو تصوير مثير للاهتمام يٌبَيِّن كيفية تسجيل جلال للمعلومات الاجتماعية والثقافية.
البيرق: عند المسلمين، والمزارعين، وسكان المدن، والشيوخ. صُنَّاع الخيام -فقط- هم الذين لهم الحق في صناعة هذه البيارق. البيارق تيسر الوسائل للدخول إلى الجنة. وهى تُجلب من المدينة. يحمل البيرق أتباع الشيخ في مواكب الطريقة التي ينتمي إليها الشيخ، أو عند الحداد على عضو مهم في الطريقة. أي أحد يحمله يقع في غشية أثناء الذِّكر. يقول المرء: واخداه الشَّرْبَة»، بمعنى أنه مأخوذ من روح الشيخ، أو يقول: «واخداه الجلالة»، بمعنى أنه مأخوذ بالوجد الصوفي. وفي هذه الحالة يعتقد العامة أن روح الشيخ تكون حالَّة في البيرق وفي الآن ذاته حالَّة في حامله. وحامل البيرق الذي لا يقع في الغشية يصبح غير مقبول لا من الناس ولا من الشيخ نفسه.
كل الشيوخ في مصر يتوجب أن يكون لديهم بيارق مثل هذه، التي تختلف في اللون والزخرفة والكتابة والحجم. فالبيرق يرمز إلى الطريقة. ولا يُحمل إلاّ بتعليمات من الشيخ. قد يقع الشخص العادي مريضاً إذا لمسه.
وفي تقرير كتبه جلال في نهاية 1938 لمتحف الإنسان نراه يحاول أن يحدد مواضع المجموعة الثانية ضمن جغرافية محافظة الشرقية، وأن يُعدِّد العناصر المختلفة: الفخار، وأشغال السلال، ومشغولات خشبية للأدوات الزراعية، وصناعة الحُصْر، والنسيج. وكتب جلال ملاحظاً أن بعض هذه الحرف التقليدية في مصر تختفي الآن.
جلال بالسودان
غادر محمد جلال مصر متوجها إلى السودان في نهاية سبتمبر 1938. وفي نوفمبر وصل إلى غايته: نيمولي Nimule، حيث يعبر النيل من أوغندا إلى السودان، وفي 29 نوفمبر تمكن من الكتابة إلى موس والآخرين ممن يراسلهم في باريس. وكان هدفه العاجل دراسة شعب المادي Madi الذي كان منشطراً بين السودان وأوغندا([8]).
وحكى إلى موس عن اتصالاته مع الإدارة الاستعمارية البريطانية في جوبا Juba وتوريت Torit. وأورد أن حاكم جوبا قدّمه إلى حاكم الإقليم الشمالي من أوغندا الذي كان يتجوّل في المنطقة. وبذا تمكن جلال من توصيل التوصيات التي كان قد حصل عليها من سليجمان وهوويل. وأبلغ أنه بدأ في تعلم لغة المادي، واصفاً إيّاها بأنها بالغة السهولة والأهالي غاية في البساطة والوداعة. لقد كان يكتب إبّان الموسم الجاف، لذا كان من اليسير التجوّل، رغم أن السفر لأي مسافة كان ما يزال معقداً ومُكلِّفاً. كانت صحته جيدة، وكان يأكل البصل والعدس والأسماك. وكان يقيم مؤقتا في خيمته. وكان مسلحا بثلاث بندقيات، لكي يحمي نفسه من الحيوانات البرية. (غير أن البندقيات فشلت في حمايته مما هو أكثر خطورة من الجميع: بعوض الأنوفيلس). وكتب أنه كان متأثرا بهموم أسرته، وخاصة أمه وأخته، حيث أن الأسرة فقدت بالفعل أحد أعضائها في بحر الغزال، وهو أحد أخواله الذي زُعم أن قبيلة نيام نيام آكلة لحوم البشر قد أكلته([9]).
وفي التاريخ نفسه، كتب جلال من نيمولي إلى زميلته تيريز ريفيير Thérése Riviere. وبشكل غير رسمي إلى حد ما، كتب إليها عن أنه يتعلّم لغة المادي، وأنه مازال يقطن في خيمة، وأن الذباب والبعوض يفترسانه. وحضها أن تكتب إليه كثيراً حيث أنه بالغ العزلة، ولا يتسلم بريداً إلا مرَّة في الشهر. فأجابته في 9 ديسمبر 1938، وأضافت بتشكك إلى حد ما «أملي الأكيد ألاَّ يأكلك النيام نيام».
بعد خمسة أشهر (1 مايو 1939) كتب ثانية إلى موس مختصرا عن جديده، مشيراً إلى أن بحثه بين المادي كان على وشك الانتهاء. لقد أمضى أربعة أشهر في أوغندا، وشهرين بين المادي السودانيين، يجمع معلومات عن التنظيم الاجتماعى، وأيضا إجراء بعض الجمع عن ما قبل التاريخ. وأنّ عليه أنْ يتوجه قريبا إلى شرق السودان لقضاء 18 شهراً أخرى. وأن صحّته جيّدة سوى هجومات عارضة للملاريا، كما أن نقوده يمكن أن تصمد لستة أشهر أخرى. وفي التاريخ نفسه كتب ثانية من ميتورو Meturu بأوغندا إلى زملاء في باريس يسأل عن التطوّرات الجارية في الأنثروبولوجيا الفرنسية.
وفي 16 مايو 1939 كتب لويس ماسينيون إلى مارسيل موس أن الرسائل الإخبارية التي يتلقاها من جلال تقلقه. وطالما أنه لا يستطيع توجيه جلال، اقترح أن يُرسل إليه موس توجيهات إضافية. ولاشك أن الرسائل التي أرسلها جلال إلى ماسينيون كانت شبيهة بتلك التي أرسلها إلى موس وريفيه وتيريز ريفيير والآخرين، وهى -أيضا- تشابه بعضها بعضا. شيء ما فيها كان يسبب انشغال بال ماسينيون، على الأرجح لم تكن الملاريا. ولكنا نفتقد -أيضا-كثيراً من الرسائل في هذه الزمرة لكي نقول المزيد.
الخطاب الأخير الذي لدينا من جلال أرسله بتاريخ 9 نوفمبر 1939 من الروصيرص إلى بول ريفيه. وبحكم أن ريفيه كان رئيسا لمعهد الإثنولوجيا ففي الأغلب كان هو الشخص المسئول عن منحة جلال. هذا هو الأقرب لدينا بخصوص التقرير الرسمي عن مكوث جلال في العمل الميداني. غير أن فرنسا كانت قد دخلت الحرب -بالفعل- على أية حال، ولم يكن باستطاعة ريفيه إلاّ أن يأمر بحفظ ذلك الخطاب في الملفات. ومع ذلك، استُخدم الخطاب أساساً لملاحظة نُشرت في «مجلة جمعية دارسي أفريقيا» تحت العنوان: «متفرقات وأخبار». «Mélanges et nouvelles africanistes».
في هذا الخطاب يصف بداية كيف أن الموسم المطير لسنة 1939 تضارب مع تحركاته وبالتالي أعاق عمله. ثم مضى إلى تقرير أنه قد انتهى من عمله مع المادي قبل أن يغادر السودان الجنوبي، وقد جمع معلومات تتعلق بالإثنوجرافيا والأنثربولوجيا الطبيعية واللغويات. وأجرى دراسة للأنساب بين 250 أسرة تنتمي إلى 60 عشيرة. كما درس الجوانب الفيزيقية لثلاثمائة من الرعايا ينتمون إلى عشر فئات مختلفة من العمر ومختارون من ثماني محلية مختلفة. كما حدد مجموعة الدم لمائة من الرعايا. وفحص الآثار ما قبل التاريخية في خمسة أماكن. ففي مجرى مائي بالقرب من دفيل Dufile (أوغندا) عثر على أداتين حجريتين. وفي لاروبي Laroppi (أوغندا) وجد كهفاً به بعض الكسرات الفخارية. وفي نيمولي Nimule (السودان) وجد إسطبلاً على جبل مع بعض آثار الدخان على الجدران. واستخدم استبيان معهد الإثنولوجيا في جمع ما يتعلّق باللغويات، كما استخدم أيضا استبيان السيد تكر Tucker، أستاذ اللغات السودانية بمدرسة الدراسات الشرقية الأفريقية (بلندن). وجمع أيضا عديداً من الأغاني.
تقع الروصيرص في إقليم الفنج Fung حيث انتوى إجراء الجزء الثاني من الأجزاء الثلاثة لبحثه في السودان. ويوجد به كثير من الجماعات العرقية المعروف عنها القليل، وبعض المواقع ما قبل التاريخية المثيرة للاهتمام. وأورد جلال أنه يُزمع التوجه بعد يومين إلى الموقع الما قبل تاريخي الهام بجبل جولي Gule. وذكَر أيضا نيّته قضاء بعض الوقت مع قبائل: بورون Burun وكورا Koura وادوك Udok وبرتا Berta، مثلما هو الحال في تلال الإنجسنا Ingessana. والطور الثالث من الدراسة سيكون بين البجا Beja الذين يعيشون على امتداد البحر الأحمر، في كلٍ من السودان ومصر، ويستغرق هذا الطور ستة أشهر. وعلى الإجمال، خطط جلال لأن تستغرق الأنشطة البحثية حوالى عامين -إذا صمدت صحته ونقوده.
هذا يُعطي أفضل فكرة عمَّا أمل جلال أن ينجزه في السودان، ولكنه لا يقدم حساً كليا بالاتجاه والمشكلة. إنه مسح استكشافي لمنطقة عريضة جداً ومتنوعة، وتماثل عمل
سليجمان (1965) أكثر من أي شيء آخر. ربما قصد أن يقوم بنوع من التأريخ العرقي للأجزاء غير العربية في السودان، جنوب المركز وشرقه. وعلى أي حال، فإن اتساع نطاقه يعكس تأكيد موس على الدراسة العريضة التي تتضمن ما قبل التاريخ واللغويات والتقنية متوازية مع الأنثروبولوجيا الاجتماعية (بولم 1967: 5-6).
مهما يكن من أمر، فبعد الغزو الألمانى لبولندا في 1 سبتمبر 1939 أصبحت فرنسا على قدم الاستعداد للحرب، حتى وإنْ لم تبدأ المعركة إلا في يونيه التالي. وبذا انقطع الخيط الرفيع للاتصال بين جلال ورعاته الفرنسيين.
وما أن نشبت الحرب حتى أجْلَت السلطات الاستعمارية جلال إلى مصر، حيث قام -في النهاية- بالتعليم لفترة في جامعة القاهرة. وحينئذ أصيب بورم بالمخ يستعصى على الجراحة، وتُوفي ودُفن في مقبرة سِنْدِنْهور عام 1943، مُخَلِّفاً زوجة وابنتين.
لم تُتَبع في مصر جهود جلال الرائدة بسبب وفاته المبكرة والانقطاع الذي أحدثته الحرب. وحقيقة أن كتاباته الرئيسة نُشرت خارج مجال الأنثروبولوجيا في مجلة للدراسات الإسلامية، وبالفرنسية، قد تكون مما لم يشجع أخلافه على أخذها في الحسبان.
عمل جلال الخاص بالجنازات نوَّه به بتقدير كل من: هوكارت (1952: 60) Hocart، وبيرك (1957: 51) Berque، وماسينيون (1962: 373). وبالرغم من أن مساره قُطع بسبب المرض، فإن سجله يكشف عن دارس واع ومقدام ذي سيرة مهنية
واعدة.
إذا كانت الأنثروبولوجيا تمثل مساراً نحو فهم واع ذاتي لمجتمع المرء الخاص، أو للمجتمع عموما، فإن جهود جلال المبتورة تمثل أكثر من تخطيط أولي لبداية قَيِّمة([10]).
الهوامش والمراجع
ملاحظة: تمّ نشر صياغة أطول لهذه الورقة البحثية بالفرنسية بعنوان: «رائد للأنثربولوجيا في مصر: محمد جلال (1906-1943)» في كتاب: «ما بعد الاستعمار: الشرق الذي اختلقه الغرب» تحرير فرانسوا بويون، وجان -كلود فاتين، باريس: IISMM وكارتالا، 2011، ص ص 359-375. في الصياغة الفرنسية اقتبستُ من النصوص الأساسية مباشرة، أما هنا فقد أعدتُ صياغتها، أو ترجمتُها في بعض الأحيان.
(1) ذلك الشكل الفني (الذي اتخذه الكتاب) كان تنمية لاحقة.
مرحلة في شعائر الانتقال تقع عقب مرحلة الانفصال عن الحياة العادية، ويليها مرحلة إعادة الاندماج، ولذا ترجم البعض المصطلح إلى «التوسط المرحلي». (المترجم).
تقع سندنهور بين بلبيس والزقازيق في محافظة الشرقية. كان تعداد سكانها في ثلاثينات القرن العشرين 3000 نسمة.
ماسينيون -الأستاذ المشرف الآخر على جلال -بدأ التدريس في الكوليج دوفرانس في سنة 1926 وفي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا عن سنة 1933 (بويون 2008: 660-661).
يبدو أن المعاهد الفرنسية تحتفظ بسجلات قليلة عن طلبتها السابقين.
مُعَادل -أساسا- للمرشح لدرجة الدكتوراه.
المادي مماثلين للٌّوجْبَارا، انظر ميدلتون (1955).
«نيام نيام» اسم ذو استعمالين: اسماً بديلا لقبيلة الأزاندي، واسماً أسطورياً لأكلة لحوم البشر.
هناك منافسان محتملان لمن يمكن أن ينال شرف كونه أول أنثروبولوجي مصري. أولهما الأب هنري عيروط، الذي حصل على دكتوراه من جامعة ليون Lyon في عام 1938، ولكن دراسته عن الحياة الريفية المصرية لم تكن محررة بلغة الأنثربولوجيا، كما لم يتخذها مهنة (عيروط 1938). وثانيهما علي أحمد عيسى الذى حصل على الماجستير في الجغرافيا من جامعة القاهرة عام 1937 معتمدة على تحليل لقريته الموطن، وطالباً عند الأنثروبولوجي هوكارت A. M. Hocart. وفيما بعد، توَجَّه للحصول على دكتوراه في الفلسفة من أكسفورد سنة 1950 (عيسى 1937، 1964). وقد أمضى سنوات مساره المهني يُدَرِّس بجامعة الإسكندرية، ولكنه لم ينشر أبداً شيئاً من بحثه الميداني. ثم أتى عديد آخرون طوال سنوات ما بعد الحرب، ولكن تلك قصة أخرى.
ملاحظة من المترجم: يوجد إحالات وافرة في هوامش النص الإنجليزي تشير إلى مواضع الخطابات ونحو ذلك من توثيق يعتمد على المتوفر في سجلات المعاهد الفرنسية المُشار إليها في النصّ، وقد آثرتُ عدم إرباك الترجمة بإيرادها واكتفيت بإيراد الهوامش الشارحة فقط. فضلا عن أنه يمكن الرجوع إليها، مع المصادر التي اقتبس منها المؤلف، في النصّ الإنجليزي الذي يتآنى نشره مع هذه الترجمة.
المصدر: مجلة الثقافة الشعبية : عدد 20