صدر العدد الجديد من مجلة الثقافة الشعبية الفصلية العلمية المتخصصة في التراث، وقد تضمن العدد الثامن (يناير/ كانون الثاني 2010) مجموعة من الدراسات والبحوث في مجال التراث الشعبي منها، بحث في بعض أنماط الوعي بالمتخيل للباحث، محمد نورالدين أفاية والذي يشير فيه إلى أن الفلسفة باعتمادها العقل أهملت، الملكات الأخرى ، من مخيلة وحس.. الخ، لأنها تعتبر أن المخيلة عنصر يشوش على عمل العقل، كما يقول ديكارت، لذلك يتعين إقصاؤها من عملية المعرفة، لأن هذه الأخيرة هي نتاج فعل عقلي خالص يتخذ من مبادئ العقل منطقه ومرجعه.
وتحصل الإشارة إلى المخيلة من زاوية اعتبارها تنتمي إلى مجال نظرية الأدب أو النقد الفني أو تخص عالم التصوف والأديان، ولكن أن يهتم بها داخل حقل التفكير الفلسفي فإن ذلك لم يحصل إلا في حالات نادرة جدا. غير أن ابتكارات الحداثة، منذ القرن التاسع عشر إلى الآن، ثوَّرت النظرة إلى الصورة وإلى إنتاجات المخيلة بشكل لا مثيل له، فاكتشافات الصورة الفوتوغرافية، والسينما، والتلفزيون وازدهار صناعة الكتاب وتوزيعه..الخ خلخلت صرامة الخطاب العقلي وأصبحت رموز هذه الاكتشافات وإنتاجاتها تتواصل مع متخيل الإنسان أكثر مما تتحاور مع عقله. وانتقلت، بمختلف تعبيراتها ومجالاتها، من منطقة الظل والهامشية إلى موقع أصبحت فيه مادة مرئية تتغذى بها العين في كل اتجاه اتخذته.
ويشير الباحث إلى أن المتخيل باعتباره مجالا لانبجاس الرموز لا يكتفي بإعادة صوغ الأشياء أو ترتيب الصور والحكايات. لأنه بقدر ما يورط الذات الفردية في عملية إنتاجه يتجاوزها ليلتقي باعتبارات ما يسميه بول ريكور بـ «المتخيل الاجتماعي».
وضمن البحوث أيضا مقاربة أنثروبولوجية لشعائر الموت ومعتقداته في تراث المشرق العربي.
ويتطرق هذا البحث إلى الجذور التاريخية للمعتقدات الشعبية بشأن الموت ويشير الباحث إلى إن الأساس في استمرارية الذهنية الشعبية لظاهرة الموت يتبدى في وجود استمرارية حضارية، وتواصل حضاري بشري، وهذا محقق في المشرق العربي منذ مليون سنة، حيث إن هناك استمرارية وتواصل حضاري عبر العصور منذ ما قبل التاريخ إلى الآن، وهذه الاستمرارية استندت على عوامل تفاعلية، إن كان لجهة التفاعل مع البيئة الطبيعية والمجال الحيوي أو لجهة تفاعل البيئة الاجتماعية بمكوناتها المتجددة عبر العصور والتي انصهرت في معظمها ضمن بوتقة المنظومة الحضارية للمشرق العربي. ويخلص إلى أن ما يميز الشعائر الجنائزية قديما وحديثا ثلاثة أشياء: أولها : سكب الماء وهو طقس موغل في القدم .ثانيها: تقديم الطعام والذبائح كقرابين جنائزية على روح الميت. وهو طقس أيضا موغل في القدم. ثالثها: وضع الأغصان الخضراء والآس وسعف النخيل والورود على قبر المتوفى باعتقاد أنها ترطب جو القبر الموحش والجاف .
ونحن نعلم رمزية اللون الأخضر في أنه رمز للخصب والحياة والربيع، حتى أن الاعتقاد الشعبي يصف العروس أثناء زفافها إذا نزل المطر بأن «إجرها خضرا» أي قدمها خضراء في دلالة على الحياة و الخصب .
وتستخدم أفرع شجرة النخيل في مواكب الدفن، وعند زيارة القبور وفي تزيين المقابر.
وتجمع الدراسات أن شجرة النخيل عند الفينيقيين كانت شجرة الحياة لا بل و تمَّ توحيدها مع جنة عدن في ذهنيتهم ومع رمز الخصب عشتار، كما أن هذه الشجرة كانت شجرة العائلة لدى شعوب مصر والهلال الخصيب والجزيرة العربية .
وتشير المعطيات إلى أن العرب قبل الإسلام عبدوا شجرة النخيل حيث كان في نجران شجرة يقام لها عيد سنوي.
وتتضح رمزية شجرة النخيل في المستوى الثقافي والأنثربولوجي في علاقتها بالموت ثم الانبعاث أو بتوالي الولادة و الاستمرار .
أما الموضوع الثالث فهو بحث في دينامية التراث أو كيف يصبح العالمي محليا ثم وطنيا ثم عالميا، قدمه الباحث المولدي الأحمر من الجامعة التونسية فيما اختص الموضوع الرابع بتطبيع الإبل، لعبدالكريم الحشاش والذي يشير فيه إلى أن الإبل يتم تطبيعها، أوان قدوم طير المُرع المهاجر، وهو يتمّ عادة بعد طلوع الثريّا في آخر شهر سبتمبر/ أيلول، إذ تطلع الثريّا بعد الحصاد أوان جمع القشّّ، ويحضر المطبّع للبَكْرَةِ المراد تطبيعها حبالا رفيعة، يعدّ منها رسنا وصريمة، يقيس الرسن على رأسها، ثمّ يشعل النار ويضع فيها محورا من حديد، فحين يحمرّ يتناوله ويخرم به أنف البكرة، ويدخل في هذا الخرم خيطاّ مجدولا من الشّعَر، فيعقد طرفيه ليستبدله لاحقا بحلقةٍ من حديد، ليعصم فيها الخزام، وبعد أن يبرأ الكيّ بأيّام يدخل المطبع رأس البكرة في الرسن، ويقودها من رسنها بصعوبة فائقةٍ، إن لم تكن قد اعتادت على وضع الرسن، وهي تنفضُ رأسَها، تحاولُ جاهدة أن تتخلّصَ من هذا الرّسنِ الّذي التفَّ حولَ رأسها للمرّة الأولى، ويأخذها إلى وادٍ خالٍ، فيربط حطبة بطرف الرسن، ويحفر الأرض بيديه إلى أن تغيب مرافقه، ويدسّ الحطبة في الحفرة، ويهيل عليها التراب، وهو ممسك بالرسن، ويدبّك الحفرة برجليه، ويجذب الحبل بعزم إلى أعلى ليتأكّد من متانته، فإن لم يتزحزح من مكانه، أدرك أنّ هذا المربط متين، تعجز البَكْرَةُ عن خلعه، أما البحث الخامس فكان حول الموسيقى العربية رؤية تراثية فلسفية لبركات محمد بركات، ويتطرق فيه إلى تاريخ الموسيقى في العصور القديمة واهتمام العرب والمسلمين بالموسيقى لارتباط الشعر العربي بالبحور والإيقاعات الموسيقية المرتبطة بهذا الشعر، والذي يعتبر من ناحية مجال العبقرية العربية قبل الإسلام ، ولارتباط الموسيقى باللغة العربية التي هي في الأساس لغة موسيقية تعتمد على الأذن والسماع من ناحية ثانية لارتباطها بالقرآن الكريم الذي يحدث ترتيله إيقاعا موسيقيا تتردد أصداؤه بين القارئ والسامع، وهو وجه من وجوه القرآن الكريم المعجز.
ويشير الباحث إلى أن أول كتاب عربي عن الأصوات والغناء ظهر في العصر الأموي عنوانه» كتاب النغم» مؤلفه يونس الكاتب سبق «أبا الفرج الأصبهاني» في التأليف عن الغناء والموسيقى بمئتي عام على الأقل. وبعد «كتاب النغم» ألف يوسف كتاب «القيان» ..أي كتاب «المغنيات» .. ثم تدفقت الكتب العربية عن الغناء والمغنين حتى امتلأ به العصر العباسي من بدايته إلى نهايته، ومن أشهرها كتب الخليل بن أحمد والكندي والفارابي وصفي الدين عبد المؤمن الأرموي.
وقد اهتم المستشرق البريطاني هـ.ج. فارمر في كتابه القيم «تاريخ الموسيقى العربية» بالإشارة إلى عشرات من مؤلفات العلماء والفقهاء عن الغناء والموسيقى، والتي مازالت مخطوطة حتى اليوم أو التي فقدت ولم يبق منها إلا عنوانه واسم مؤلفه في فهارس الكتب المفقودة .
ويبدأ المستشرق مؤلفه بالإشارة إلى الفارق الكبير بين الموسيقى الشرقية التي تفهم أفقيا والموسيقى الغربية التي تفهم رأسيا، كما تتميز الأولى بالنغم والإيقاع والزخرفة الصوتية، وهي الأمور الغريبة على الأذن الغربية وقبل القرن العاشر لم يكن الفارق كبيرا ـ إذ كان للجميع السلم الموسيقي الفيثاغوري السامي الأصل ـ والمبني على موسيقى الأجرام السماوية وتناغم الأعداد – حيث لا يعرف التلحين، وقد بدأ الاختلاف عندما أصبح للعرب طريقة للقياس الموسيقي، وفكرة عن التلحين.
أما البحث السادس فحول «المحنية» مزار من أصل إفريقي، في مدينة القيروان الإسلامية (الجمهورية التونسية) يشير الباحث إلى أن دراسته للفخار النذري المخصص في جزء منه لإحياء طقوس الخصوبة جعلته يهتم بالممارسات الدينية لدى العديد من الحضارات والثقافات وبذلك اكتشف انتشار طقوس الخصوبة وكذلك قِدمها وتنوّعها إلى جانب تواصل عدة ممارسات وكذلك أدوات لها علاقة بهذه الطقوس في كامل المتوسط على الأقل . ومما يزيد من تأكيد أهمية هذه الطقوس أن أقدم الأعمال الفنية التي وصلتنا تُظهر لنا أن الخصوبة قد احتلت مكانة لا يُستهان بها لدى الكائن البشري. نظرا إلى علاقتها بفكرة الإنجاب فإن الخصوبة مرتبطة دون شك بغريزة البقاء لدى بني البشر. إلى جانب ذلك فان الخصوبة مرتبطة بفكرة البركة. إنّ عقيدة البربر خاصة لدى الريفيين منحت هذه الفكرة بُعدا كونيا تقريبا فهم يعتبرونها تُؤمّن الحماية وتساهم في الخصوبة البشرية والطبيعية والحيوانية بذلك فهي تمنح الأمن والثقة وذلك ما يُفسر تواصلها المذهل عبر الأزمنة.
ويتحدث الباحث عن مزار (المحنية ) الذي يتخذ شكل طاقة ملاصقة لمسجد الأنصاري أو الأنصار الواقع في الجنوب الغربي من سور مدينة القيروان غير بعيد عن الباب الجديد. إن تفرد هذا المعلم واستمرارية الممارسة التي تدور به تشد الانتباه في أرض مُسلمة حيث يُفترض أن هذه الطقوس التي ينهى عنها الإسلام قد انقرضت.
أما البحث السابع فكان حول الاتجاهات الجـديـدة في الشعـر الشعبي العـراقـي للاكاديمي خـيرالله سـعـيد، فيما كان البحث الثامن حول ابن خلدون وعلم الفولكلور لصبري مسلم، أما البحث التاسع فحول الخصائص الثقافية والحضارية للملابس المغربية للحسين الإدريسي، أما البحث العاشر فحول جحا وقصته التي لا تنتهي: ظهور أدلة جديدة على انتشار نوادرجحا لفرانشيسكا ماريا كوراو ترجمة نعمان محمد صالح الموسوي، أما البحث الحادي عشر قحول التنوع في التراث الشعبي الأردني (طائفة الأكراد نموذجا) لعمر عبدالرحمن الساريسـي، أما البحث الثاني عشر فحول الهدية: الإطار المرجعي والممارسة قرية الديه بالبحرين نموذجا، إعداد: خديجة المولاني، مراجعة: نورالهدى باديس.
المصدر : صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2694 – الخميس 21 يناير 2010م الموافق 06 صفر 1431هـ
في ظل مشروع الإصلاح الوطني
العدد 8 – المفتتح
في 14 فبراير من العام 2001 صوّت شعب البحرين بـ (نعم) لميثاق العمل الوطني بنسبة %98,4، في تكاتفٍ شعبي ٍ لافتٍ ساهم في بلورة وإرساء المشروع الإصلاحي الذي أطلقه حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد حفظه الـله، وقد مهّـدت لإطلاق هذا المشروع مجموعة من التدابير والقرارات السياسية الشجاعة التي خلقت جواً من الانفراج في الساحة السياسية المحلية وانفتاحاً على مختلف التيارات، رغبة في المشاركة والتعددية.
كانت البحرين والمنطقة العربية قد وصلت إلى مفترق ٍ تاريخي، فقد كانت كل المؤشرات الدولية والإقليمية تشير إلى أن الوقتَ قد حانَ للإصلاح والتغيير، وكان لا بدّ من اتخاذ قرار جريءٍ لا رجعة فيه نحو صعود عتبات التاريخ، فكان مشروع جلالة الملك الإصلاحي فرصة تاريخية لا تعوّض للنقلة الحضارية التي ستشهدها مملكة البحرين في السنوات التالية. فقد شهدنا طفراتٍ متقدمة طالت مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي قادت إلى إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في تحديث الـنـّـظم الإدارية والقانونية وتشكيل المؤسسات والهيئات الدستورية وتطبيق المنهج الديمقراطي وحرية الرأي والتعبير. إلا أنه لا يغيب عن أذهاننا أن تحقيق مثل هذا المسار الديمقراطي للشعوب والحكومات يتطلب قدراً كبيراً من الاستيعاب والصبر والمثابرة تمسكاً بخُـلـُـق الحبّ والتسامح وبالديمقراطية كخيار وحيدٍ لا مناصّ عنه، رُغم كلّ ما يعتوره من مصاعب في أول الطريق، فهكذا علمتنا دروسُ الأمم التي سبقـتـنا على الطريق نفسه.
وخلال السنوات الماضية من العهد الـزّاهر لهذه المملكة الفتية، حظيت الثقافة بقدر لا يستهانُ به من الاهتمام، فقد أصبحت أحد ركائز التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المملكة، فالإبداع الحقيقي يزدهر في أجواء الحرية والديمقراطية والشفافية، وبه تنهض ثقافتنا الوطنية مرتكزةً على جذورها الأصيلة المتصلة بحضارة البحر والبادية.
نستطيع أن ندّعي واثـقـين أن صدور مجلة (الثقافة الشعبية) وبداية دخولها عامها الثالث يُعدّ مظهراً من مظاهر الحرية والازدهار الديمقراطي، وأحد أوجه التشبث بالهُويّـة الوطنية العربية وتعدد الجذور والمنابت الثقافية في مملكة البحرين، وشتلة حضاربة من شتلات المشروع الإصلاحي الكبير، نتعهد رعايتها واستمرار نموها أمانة لأجيالنا القادمة، بدعم وتوجيه من حضرة صاحب الجلالة حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين حفظه الله ورعاه.
تحية لمملكة البحرين قيادة وشعبا وهي في أفراح ذكرى العيد الوطني المجيد، وفي ظل مشروع الإصلاح الوطني ستظل تتفتح الزهور. . وستظل الصدور عامرة بآمال كبار.
هيئة التحرير