الثقافة هي طريقة حياة ، وهي التي تقدم معنى لها ، وهي التي تحدّدها أيضاً ، فالثقافة هي التي تكمن خلف سلوكنا الإجتماعي ، وكنت قد ألمحت إلى أهمية ذلك في مقالة سابقة ، وهذا سيظهر مع الكلام حول أبعادها :
- البعد الأول : المعياري (normative) .
- البعد الثاني : المعرفي (cognitive) .
- البعد الثالث : المادي (material) .
البعد الأول : المعياري ، وأهم مظاهره :
- المعايير (norms) .
- الزواجر (sanctions) .
- القيم (values) .
والأنماط الأساسية للمعايير هي :
- العادات (folkways) .
- الأعراف (mores) .
- القوانين (laws) .
وفيما يلي تحديد لكل بُعد مع مثال توضيحي .
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
البعد الأول : المعياري : وهو يحتوي على قواعد السلوك المناسبة لجماعة أو لمجتمع ! وأهم مظاهره هي : المعايير ، الزواجر والقيم .
- المعايير ، هي القواعد التي تحدد السلوك المناسب وغير المناسب ، ضمن ظروف أو حالات إجتماعية محدّدة . وهي تشرح لنا لماذا يتصرف الناس (ضمن جماعة/مجتمع) بشكل متشابه أمام ظروف متشابهة !
شرّح السوسيولوجي الأمريكي “ويليام سمنر” (William Graham Sumner) طبيعة المعايير ، واعتبر أن أعضاء المجتمع يستعينون بها لترشدهم إلى السلوك الإجتماعي المطلوب ضمن لحظة ما ! وقد لا نشعر بتحكمها بنا ، إلا في اللحظة التي يتم إنتهاكها بها .
مثلاً ، لا يفكر الفرد بالقيادة على اليمين (أو على اليسار تبعاً للدولة) كمعيار إلا عندما يرى أحداً يخالفه ! هو خالف القاعدة المتوقعة للسلوك ، إنحرف عن الطريقة المتبعة !
هذا التوقع ضروري لحفظ النظام في الحياة المجتمعية ! ودونه يقع المجتمع في الفوضى ! الفوضى التي تعني أن سلوك اليوم تتم مكافأته وتعزيزه ، أما غداً فذات السلوك يتم زجره ومعاقبته !
الروتين هنا يؤمن الإستقرار على الصعيد الفردي ، كما على الصعيد الإجتماعي ! وكسر الروتين ، يقوم به الفرد عندما يسافر أو يغير مهنته ! فقط ليؤسس روتيناً مختلفاً !
تتغير قواعد السلوك من مجتمع لآخر ، ووعي هذا الأمر يخفّف كثيراً من مأزم الصدمة الثقافية ، كما من الحكم على الآخر بمعاييرنا !
دوماً سيكون هناك نحن/هم ، لكن هذه الثنائية ليست في مواجهة أو تصارع ! بل هي حالة تلاقح ! وهذا التلاقح لن يكون إلى عبر وعيه أولاً ، ومن ثم يمكن تعلم مهارة الحكم على السلوك تبعاً لمعاييره ، بعبارة أخرى النسبية الثقافية .
إذن ، لقد حدّد “سمنر” ثلاثة أنماط أساسية من هذه المعايير ، وهي :
- العادات : هي القواعد التي تشمل الطرق العادية من التفكير ، الشعور ، والتصرف ، دون أن تحمل إيحاءات أخلاقية أساسية (أو ذات أهمية مرتفعة) للجماعة . إستخدام الجوال أثناء تناول الطعام قد يكون غير محبذ عند جماعة ما ، لكن هذا لا يعني أن من يقوم بهذا السلوك ضمن ذات الجماعة ، سيعتبر منحرفاً أو عديم الأخلاق !
- الأعراف : هي قواعد ذات حمل أخلاقي كبير . وتعتبر ضرورية للحفاظ على رفاه المجتمع ! وبالإنقياد لها نحصل على إستحسان الجماعة ، أما إنتهاكها فيثير الرفض والإستهجان !
إن كان الإنقياد للعادات مسألة خيار شخصي ، فالإنقياد للأعراف هو مطلب إجتماعي . العادات تحدّد لنا السلوك الصحيح من الوقح ! بينما الأعراف تحدّد السلوك الصحيح من الخاطئ ! العادات متغيرة بإستمرار ، بينما الأعراف أكثر ثباتاً .
بعض الأعراف أكثر خطورة ، كالتابو ! فالهندوس مثلاً يعتبرون قتل البقرة تابواً . كما أن سفاح القربى هو التابو الوحيد الموجود في كل المجتمعات .
بالطبع التفرقة بين الأعراف والعادات خاضعة للجماعة ذاتها ، كما لعملية التثاقف ، فكلما زادت نسبة التلاقح كلما تبدلت العادات ، لتلحقها الأعراف (ولو بعد حين) . العذرية في أمريكا الخمسينيات مثلاً كانت من الأعراف ، لتصبح الآن من العادات ! [أي أنها كانت تعدّ شأنا مجتمعياً وأصبحت الآن خياراً فردياً ، فالفتاة التي تفقد عذريتها كانت تجلب العار لنفسها ولعائلتها ، أما اليوم فإختلف الأمر وأضحى التجريب مسألة متسامح بها] .
- القوانين : هي معايير محدّدة بشكل رسمي ، ويتم تطبيقها من قبل مسؤولين (القضاة ، الشرطة ، …) . تنشأ العادات والأعراف ببطء وبشكل لاواعي ، بينما القوانين يتم وضعها بشكل واعي ويتم فرض تنفيذها بالقوة كما معاقبة منتهكيها . قد تنشأ القوانين من الأعراف ، فالمعاقبة على جريمة القتل مثلاً ، لم تكن مكتوبة ضمن قانون ، ومع تطور المجتمعات ، تم تدوينها ومن ثم إلتزم المحاكمة فالمحاسبة مسؤولون رسميون . لكن ، ليس كل القوانين كذلك ، فالقوانين التي تمنع رمي النفايات من السيارة ليست ولم تكن عرفاً !
لأن المعايير يتم تعلمها ، وعلى الأفراد تقبلها ، لذا فالطاعة والإنقياد لها ليست تلقائية ! لذا على الجماعات/المجتمع إعتماد وسائل لتعليم المعايير وتشجيع طاعتها . من بين هذه الوسائل الزواجر .
- الزواجر : هي حوافز وروادع تستخدم لتشجيع الطاعة للمعايير ، وهي ليست عشوائية ، بل هناك علاقة إرتباط بين زواجر ومعايير معينة . أن تحصل على علامة مميزة هو نوع من التشجيع للإنقياد لمعايير محدّدة من قبل المدرسة ! أن تشكر شخص على سلوك جيد قام به ، مثل آخر . أن يتم إعتقال لص أو التشهير بفاسد هي أمثلة عن روادع .
تقوم التنشئة الإجتماعية بإستدخال الطاعة للمعايير ضمن البنية النفسية فنزجر أنفسنا قبل القيام بإنتهاك أحدها . ولذا يكون التغيير صعباً ، ويحتاج إلى وقت طويل ، كما إلى تنشئة مغايرة !
إن المعايير والزواجر محدّدة ومحسوسة ، على عكس القيم ، العامة والمجردة .
- القيم : هي مبادئ ثقافية عامة ، يعتبرها أغلب الأفراد محبّبة ومطلوبة . هي عامة لدرجة أنها لا تحدّد طرقاً خاصة في التفكير ، الشعور ، أو التصرف . لذا قد نجد مجتمعات (أو جماعات مختلفة ضمن ذات المجتمع) تمتلك معاييراً متنافرة لكنها تستند إلى ذات القيم .
قيمة الحرية مثلاً ، إختلفت معاييرها وطرق التعبير عنها ما بين الإتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية ، ففي الأول كانت قيمة الحرية تعني حق العمل ، الضمان الصحي ، والتعلم . بينما عنت في الثانية ، حق الإعتصام ، والتعبير ، وتأسيس شركة خاصة !
قيمة البر بالوالدين تعني في البلاد العربية أن يكون الأولاد سنداً للوالدين عندما يكبرا ، بينما في بعض قبائل الإسكيمو (الإنويت) تعني أن يؤمنوا لهما موتاً رحيماً (لأن الإنويت يعتمدون على البيئة في تأمين بقائهم ، لذا إذا اشتدت قساوتها يضطرون إلى قتل الكبار في العمر غير القادرين على تأمين طعامهم) – بالطبع إنقرضت هذه الممارسة مع دخول التجارة والتقنيات (التثاقف الموسّع مع الرأسمالية) التي سهّلت الحصول على الطعام – !
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
البعد الثاني : المعرفي : نقصد بالمعرفي كيفية التفكير ، وعملية معالجة المعلومات (الترميز ، الحفظ ، وإستعادة المعطيات) ! فالبعد المعرفي يشمل مركب الأفكار والمعارف ، والأكثر أهمية ضمنها هو المعتقدات [الأفكار حول طبيعة الحقيقة] . إن قبيلة تانالا في مدغشقر ، مثلاً ، تعتقد أن أرواح ملوكها الأموات تحلّ في الأفاعي .
ليس مهماً صحة المعتقد أو خطله ، فهو مؤثر على معتنقيه ! صيبة العين مثلاً تؤسس لعلاقات إجتماعية وتلزم معتنقيها بسلوكيات ، ولا دليل علمي تجريبي يسندها !
البعد المعرفي (والمعتقد ضمناً) مهم ، لأنه يمأسس سلوكيات الناس ، فهم يستندون إليه في تبرير تصرفات قد تبدو للدخيل غريبة ! أن يمسك البعض الخشب أو يدقون عليه عندما يشعرون بخوف من حالة حسد ، أن يتوقعوا حزناً أو مالاً إستناداً إلى الحاجب (أو الكف) الذي يشعرون فيه بالحكة !
البعدان المعياري والمعرفي هما جزء من الثقافة اللامادية ، ويبقى لدينا البعد المادي .
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
البعد الثالث : المادي : ويتكون من الأشياء المادية ، الملموسة ، المحسوسة ، الواقعية ، العينية : السيارة ، حبوب الدواء ، المنزل ، الكرسي ، الثياب ، الطرقات ، الفن ، كلها أمثلة عن الثقافة المادية .
هذه الأشياء المادية لا تحمل معنى خاصاً بذاتها (أو إستعمالاً) منفصلاً عن المعنى الذي يعطيه الناس لها ! للتوضيح ، يمكنك تَصوّر الجريدة والفلفل الحار كما تَصوّر طريقة إستخدامهما ! لكن لا يمكنك تصورهما معاً كتقنية متراكبة ! إن مزجهما معاً كما كانت تفعل بعض القابلات لتسريع الولادة يقدم لهما معنىً مختلفاً . وإن كان لكل شيء منفرداً معناه الخاص الذي أعطاه الناس له ! فإن مجرد هذا الوجود لا يعني إمكانية إختراع معنى لهما – عبر مزجهما كتقنية – قبل وجود التقنية الواقعي !
بالطبع ، لا علاقة لشـكل وخصائص الشـيء ، بالمعنى الثقافي الذي نعطيه له ! بل هو مرتبط بالبعدين المعياري والمعرفي . إن معنى الأشياء المادية يعتمد على المعتقدات ، المعايير ، والقيم ، التي يحملها الناس بشأنها . فالباص يستخدم للنقل ، كما يمكن تحويله إلى مطعم مثلاً !
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
وفيما يلي تصوير غرافيكي لأبعاد الثقافة :
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
لماذا تفكيك الثقافة إلى أبعاد ؟!
لتسهيل دراستها .
نعم أسمع إعتراضات البعض ، ثقافتنا وثقافتهم ، هذه وجهة نظر “سمنر” ، هناك أبعاد أخرى ، ترجمة المصطلحات غير دقيق : فالعادات (على سبيل التوضيح) تعني “عندنا” غير تعريف “سمنر” لها …
نعم ، هذا صحيح ، إلى حد ما ..
لكن ، إمكانية دراسة الثقافة ككل ، ممكنة فقط عبر تفكيكها إلى أبعاد ، ومن ثم ملاحظة السلوك الإجتماعي ضمنها ، والعودة لاحقاً بتركيب الصورة المفككة ، لنحصل على لوحة تقريبية عن ثقافة المجتمع المحلي الذي نحاول دراسته !
دون هذا التفكيك ، ستبقى الدراسة مجرد كلام ! إذ لن نقدر على رؤية الكامن (هذا الذي يحركنا دون أن ندركه) ، كما لن نقدر على قيادة التغيير (إذا كان هناك إرادة حقيقية) ، دون أن نوصّف بشكل سليم (أي نفككها إلى أبعادها) !
ما سبق وفصّلت فيه هو من ألفباء المتخصصين ضمن الإنسانيات والعلوم الإجتماعية ، ويقدم فرصة لغيرهم في التعرف إليها ، كما إلى الإتساع والشمولية التي تسمها .
أما عن ترجمة المصطلحات ، فلتتفق مجامع اللغة وسنتبع تعليماتها بحذافيرها !!
لقد ذكرت المصطلح ووضعت مباشرة التعريف الذي أقصده ! وهو أقرب كلمة يمكن إستخدامها تشير إلى المعنى الذي أراده “سمنر” ! – ولا مشاحة في الإصطلاح –
يبقى إعتراض ثقافتنا/ثقافتهم ! وهو إعتراض لا يعني شيئاً ! لأن نظرية “سمنر” تطال أي ثقافة ، ففي كل ثقافة نجد الأبعاد التي ذكرها !
وإن كان هناك بُعدٌ ما لم يذكره ، فلنراكم عليه ، ونجدّد في نظرته ونظريته !
*** *** *** *** *** *** *** *** ***
الكلام في الثقافة طويل ، وهذا جزء – قد يكون له تتمة – !