بين “التقسيم الهرمي الاجتماعي في بولينيزيا” (1958)، أوّل أعماله الأكاديمية المنشورة، و”ماهيّة القَرابة”، الذي صدر بالإنكليزية أيضاً عام 2012، استطاع الأنثروبولوجي الأميركي مارشال سالينز (1930 ــ 2021)، الذي رحل عن عالمنا في الخامس من نيسان/ أبريل الجاري، بناء تجربة ساهمت بالكثير في النقاش الأنثروبولوجي الذي عرفه القرن العشرين، وما نزال نعرفه حتى يومنا هذا، حول أسئلة الثقافة والطبيعة.
ورغم التطوّر الذي سيعرفه فكر سالينز خلال ستة عقود من العمل الميداني والتأليفي، والذي سينقله إلى مربّعات بحثية جديدة إلى فضاءات أكثر عمومية من بولينيزيا، إلا أنّ بحثه الأوّل، المنشور لدى “جمعية الإثنولوجية الأميركية”، سيبقى حجر الأساس في عمله، والكتاب الذي فتح له باب الاعتراف الأكاديمي واسعاً.
عملٌ جاءت منشورات لاحقة، مثل “مُوالا: الثقافة والطبيعة في جزيرة فيجي” (1962) و”رجال القبيلة” (1968)، لتثبّت دعائمه، وتُظهر تمكّن سالينز من مقترحه الأنثروبولوجي الجديد، القائم على ربط الثقافة بعناصر التطوّر الطبيعي كما حدّدها داروين، وهو ربطٌ يمكن الوقوف على آثاره، مثلاً، في نظرته إلى النظام الاجتماعي الخاص بشعب موالا في جزيرة فيجي، الذي وصفه بأنّه تكيّفي، أي أن أساساته مرنة وتتغيّر بالتوافق مع ما تتطلبّه بيئته.
وإن كانت بدايات الباحث الأميركي متأثرة بهذه القراءة التطورية، الممزوجة بشيء من الماركسية، فإنّ أعماله اللاحقة ستتخّذ خطّاً مختلفاً، يقترب فيه سالينز من مقولات البنيوية والبنيوية المحدثة، من دون أن يتخلّى تماماً عن مكانة التاريخ التي أظهرتها الماركسية، أو ضرورات التأقلم التي تقول بها التطوّرية.
أوّل، وربما أبرز، الأعمال التي شهدهت تطوّر تجربة سالينز كان كتابه “اقتصاد العصر الحجري” (1972)، الذي منحه مكانة مرموقةً كباحث وأكاديمي، وخرج باشتغالاته من عوالم الإثنولوجيا إلى مقارَبةٍ نظريّة مقارَنة، أنثروبولوجية، قائمة على فهم مختلف تماماً لمفهوم الوفرة الاقتصادي، ولعلاقة المجتمع، أفراداً وجماعة، بالعمل.
بعكس النظريات الاقتصادية والأنثروبولوجية التي كانت شائعة حتى وقت نشر الكتاب، والتي كانت ترى إلى المجتمعات الأولى، ما قبل الصناعية، ولا سيما مجتمعات الصيد والقِطاف، باعتبارها مجتمعات بقاء، أي أنها تناضل من أجل العيش، جاء سالينز ليقول بأنّها مجتمعات وفرة، مقترحاً تعريفاً جديداً للوفرة باعتبارها كفاءً، أي عملاً وإنتاجاً لما يحتاجه الإنسان في يومه الذي يعيشه، من دون الانشغال بعقلانية اقتصادية تنظر إلى التراكم و”الأمان” الاجتماعي”.
هذا الطرح الذي جاء به سالينز، على بساطته، ساهم في إضافة جديدة إلى النقاش، في العلوم الاجتماعية والفلسفة والاقتصاد، حول مفهوم الإنسان الاقتصادي، الذي نال حضوراً كبيراً منذ تنظيرات ماركس وماكس فيبر، واستعادته بدايات القرن العشرين باعتباره قريناً أساسياً للعقلانية، فلسفيةً كانت أم اقتصادية. فكرة الإنسان الاقتصادي هذه هي الهدف الذي سعى سالينز إلى انتقاده، مقترحاً بدلاً من هذا الفهم النفعي للبُنى الاجتماعية فهماً ثقافياً، باعتبار أن الثقافة هي المحرّك الأوّل للرغبات والمنظّم للتعاطي معها، كما يحدث مع العمل وتقسيمه، على سبيل المثال. أطروحة ستأتي أعمالٌ لاحقة، مثل “الثقافة والعقل العمَلي” (1976)، لتوسّعها وتثبّت من دعائمها.
بعد هذه الأعمال، سينشر مارشال سالينز، حتى عام 2012، العديد من الكتب والأبحاث التي يظهر فيها اتّخاذه مسافةً من الماركسية ونظرية التطوّر أو البيولوجيا الاجتماعية، واقترابه أكثر من الدفاع عن الثقافة وعناصرها ــ من رموز وأساطير وعلاقات قرابة ــ بوصفها المحدِّد والمؤطّر للاجتماع البشري، أكثر من الاقتصاد والعقلانية والنفعية.
المصدر: صحيفة العربي الجديد
الرابط: https://www.alaraby.co.uk/culture/%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%B4%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%B2-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%B5%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9