لثام التوارق: دراسة أنثروبولوجيّة وسوسيولوجيّة
أ. يوسف بن موسى
يعتبر مبحث اللباس مبحثا راسخا في الدراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة، فقد شهدت الدراسات المتخصّصة في اللباس تطورا منذ مطلع القرن العشرين وفيها تقاطعت عدة مناهج وعدة حقول
معرفيّة، مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات المتخصّصة في أشكال التديّن، وكذلك الموضة واقتصادالنسيج. ففضلا عن وظيفته الرئيسة المتمثّلة في الوقاية من تقلبات المناخ العنيفة (الحرّ والقرّ)، للباس وظائف عديدة منها الاجتماعيّ والطبقيّ والطائفيّ والإثنيّ والجماليّ وغيرها. ولقد اكتشف العلامة عبد الرحمان بن خلدون بشكل مبّكر أن الجماعات تتخذ اللباس (الزيّ والشعار) وسيلة للتمايز في ما بينها إثنيّا أو طائفيّا، فكل جماعة أو طائفة تعرف بلباسها الخاص الذي نجد تكثيفه الأعلى في لباس زعماء القبائل ورجال الدين القائمين على إدارة شؤون الجماعة سياسيّا وروحيّا، كما يكشف اللباس عن انتماء طبقيّ، فحسب ثمن اللباس ونوع قماشه يمكن تحديد موقع المرء من مجتمعه، أو تعين دوره الاجتماعيّ (المعلم والعسكري والطبيب والشرطي والطالب والعامل لكل واحد منهم بدلة تميّزه …). كما يؤدي اللباس وظائف الضبط الجندريّ في المجتمع فيميّيز المرأة عن الرجل ويميّز البكر عن الثيب والمتزوجة عن الأرملة والمحصّنة عن المطلّقة.
إذن يختزل اللباس حيّزا كبيرا من ترسانة القواعد الاجتماعيّة والدينية والأخلاقيّة التي تضبط نظام الأدوار في مجتمع ما، وهذا ما رشّحه لأن يكون مبحثا جامعا لعلوم شتى ومناهج مختلفة، وقد حظي اللباس في الثقافة العربيّة الإسلاميّة باهتمام كبير من قبل الباحثين، ولئن اختلفت مقارباتهم حول اللباس فإنها ظلت في معظمها تتحركّ ضمن مربّع الدينيّ والأخلاقيّ والهوويّ، أي في سياق تحديد هويّة اللباس العربي الإسلامي في مواجهة النماذج الثقافية الأخرى الوافدة بسبب غزو عولمة المركز الغربيّ لثقافات الأطراف ومنها الثقافة العربيّة.
ولعل لباس المرأة كان أكثر أنماط اللباس حضورا في البحوث والدراسات الأكاديمية أو حتى في الجدل السياسيّ والإيديولوجي وخاصة مفهوما الحجاب والسفور، فمنذ النصوص الأولى المؤسسة لهذا الجدل مع الطاهر الحداد وقاسم أمين، بقيت النظرة إلى لباس المرأة ولباس الرجل لا تغادر زاوية الجائز والمحظور والشرعي وغير الشرعي. فباستثناء كتاب المؤرّخ التونسيّ الراحل محمد الطاهر المنصوري «في التحجّب والتزنّر»( Du voile et du zunnar Du code vestimentaire en pays d’Islam, 2007) الذي درس فيه لباس النساء وأهل الذمّة في العصر الوسيط، دراسة علميّة رصينة ودقيقة، فإنه يمكن القول بأنها قلّة هي الدراسات التي نظرت إلى اللباس من زوايا أخرى جماليّة أو فولكلوريّة، وقلّة هي الدراسات التي قاربت اللباس من منظور الأنثروبولوجيا الوظيفية أوالأنثروبولوجيا الثقافية بعيدا عن جمود الطرح الديني ومزايدات المقاربة السياسية. وحتى الدراسات التي قاربت اللباس في الثقافة العربيّة من منظور انثروبولوجي فيغلب عليها التمركز الحضاري إذ أن أغلبها تدرس خصائص اللباس عن سكان المدن والعواصم الكبرى في الوطن العربي، بينما تشكل ملابس سكان الأرياف والقرى الطرفيّة في الوطن العربيّ معينا غزيرا من المادة البحثيّة التي تصلح لأن تكون قاعدة للدراسات الاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة. فمن المعروف أن الفلكلور الثقافي بمختلف تمظهراته (اللباس والموسيقى والأكل…) انسحب أمام زحف الأشكال الثقافيّة المعولمة إلى الأطراف واقتصر على المناسبات الدينية والاجتماعيّة (الأعياد وحفلات الزفاف والختان…).
إنّ دراسة اللباس من زاوية أنثروبولوجيّة كفيل بكشف الكثير من الحقائق حول تاريخيّة نشأة العقائد والأفكار وأنماط التديّن وأشكال التطوّر الاجتماعيّ فضلا عن التثاقف والتبادل.
ولقد اخترنا في هذا السياق دراسة ظاهرة ثقافيّة فريدة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة وهي اللثام التارقيّ، وهو عادة درج توارق الصحراء الكبرى الإفريقيّة عليها منذ آلاف السنين ولم يتخل عنها إلى يومنا هذا. ونرى في هذا الصدد ضرورة تعريف هذه المجموعة البشريّة لكي يتمثّل القارئ موضوع البحث بشكل دقيق.
التوارق
التوارق مجموعات بشريّة تنحدر في أغلبها من قبائل صنهاجة الأمازيغيّة مثل تاركا وجدّالة ولمتونة ومسوفة وهي قبائل استوطنت منذ عصور قديمة الصحراء الكبرى الإفريقيّة من المحيط الأطلسي غربا إلى بحيرة التشاد وصحراء فزان شرقا، ومن واحات توات وغدامس وسجلماسة شمالا إلى تنبكت وأغاديس وتادمكة جنوبا. وقد تفاعلت قبائل التوارق الأصيلة في العصر الوسيط مع قبائل عربيّة أهمّها القبائل الهلاليّة خاصة في شمال الصحراء الكبرى (فزّان والهقّار والتاسالي والصحراء الموريتانيّة)، ومع قبائل سودانيّة مثل السنغاي والتكرور والبمبارا والهوسا في جنوب الصحراء، خاصة في تنمبكت وجاو وأغاديس وطاو وزندر والأطراف الشمالية للسافانا الإفريقيّة عموما. وقد أنتج هذا التفاعل تركيبة اجتماعيّة حافظت على الموروث الاجتماعيّ-الثقافي الأمازيغيّ أساسا، تركيبة استفادت كثيرا من الرافدين العربي والسودانيّ بدرجة ثانية. أسّس في حضارة عظيمة في الصحراء الكبرى، حضارة تجد تمثيلها الأنسب في جوهرة الصحراء مدينة تنبكتو، التي أسّسها توارق مقشارن.
مجتمع التوارق مجتمع تقليديّ يقوم على تراتبيّة طبقيّة غير مرنة، فبعض التوارق ينحدرون من قبائل النبلاء وبعضهم من قبائل العبيد وبين الطبقتين، قبائلَ الأتباع ورجال الدين. أمّا نمط عيشهم فتهيمن عليه البداوة واقتصادهم يقوم على الرعي والغزو والصيد والتجارة بالأساس. وتتميّز التشكيلة الاجتماعيّة التارقيّة بأنّها تشكيلة شبه أموميّة تحظى فيه المرأة بمكانة متميّزة، لا تتوفر لغيرها من النساء في المجتمعات المسلمة عادة.
أمّا ثقافتهم فهي ثقافة هامش صحراويّ (ليست ثقافة العواصم التاريخيّة للحضارة العربيّة الإسلاميّة). وهي بدويّة تغلب عليها المشافهة ويسيّجها تصوّر أسطوريّ للكون. كما أنّ اللغة الحاملة للثقافة التارقيّة هي اللغة الأمازيغيّة بالأساس ثم العربية بدرجة ثانيّة.
إن اختيارنا لدراسة ظاهرة اللثام عند التوارق نابع من فرادة هذه الظاهرة في محيطها، ففي كل المجتمعات المسلمة جرت العادة أن يكون الرجل سافر الوجه والمراة (المرأة) محتجبة أو مقنّعة أو مبرقعة، إلاّ في المجتمع التارقي فإنّنا نجد عكس ذلك، إذ يلتزم الرجال بوضع اللثام على وجوههم بينما تلتزم النساء السفور.
ومنبع الاختلاف والمغايرة في هذه الظاهرة إنّ أغلب الفقهاء المسلمين القدامى والمحدثين لم يقتصروا على اعتبار احتجاب المرأة ومنع اختلاطها بالرجال من غير محارمها فريضة مقدّسة، بل تجاوز بعضهم ذلك إلى اعتبار النقاب (البرقع) الذي يحجب وجه المرأة، فريضة شرعيّة تُعتبر المرأة المتخليّة عنه في حكم الخارجة على كلام الله وسنّة رسوله (ﷺ)، ومن اللاتي يردن أن تشيع الفاحشة في المجتمع. ومن البديهيّ إنّ هذه الدعاوى لا أساس لها في القرآن الكريم والسنّة النبويّة.
لثام التوارق
وإنّ ما يمييّز المجتمع التارقيّ المسلم في العصر الوسيط -وإلى اليوم- عن غيره من المجتمعات ليس فقط إباحته لسفور المرأة وعدم إجبارها على الاحتجاب على عكس بقيّة النساء المسلمات في مجتمعات أخرى، بل منعه الشديد لسفور الرجل، إذ تفرض الأعراف على الرجل التارقيّ أن يتلثّم(1)، وألاّ يكشف وجهه – الذي هو عورة – مادام حيًّا. وسنحاول في هذا السياق دراسة ظاهرة اللثام في المجتمع التارقيّ والوقوف عند دلالتها الاجتماعيّة والثقافية والأنثروبولوجيّة.
ويسمي التوارق اللثام بلغتهم «تجلموست» أو «تقلموزت» وهي كلمة أمازيغية بلهجة التماشق التارقيّة وتعني القناع الذي يستر الوجه ويخفي الرأس عموما. وتعني هذه الكلمة اليوم في الأمازيغية المعاصرة في الجنوب التونسي، غطاء الرأس(2). واللثام ميزة التوارق بين شعوب العالم به يُعرف التارقيّ، ولشّدة التصاقهم به صار لهم اسما مشهورا ، فَالمصادر القديمة تطلق عليهم عدة أسماء منها «الملثمون» و«صنهاجة اللثام» و«أهل اللثام».
واللثام قطعة قماش طويلة يصل طولها تقريبا إلى 25 ذراعا (12 مترا)، يتعمّم بها التارقيّ في شكل طيّات متراصفة فوق رأسه ثم يسحب طرف اللثام ويسدله على وجهه من الأذن إلى الأذن مرورا بالأنف حتى يغطيه فلا يُرى منه إلاّ محاجر العينين. ويلبس التوارق اللثام ليلاً ونهارا حتى الموت ولا يخلعونه أبدا لا عند الأكل ولا عند النوم، بل بلغ بهم الأمر إلى مباشرة زوجاتهم هم واضعون اللثام. ويعتبر نزع عمامة الرجل أو لثامه عارا كبيرا وأعظم إهانة تلحق بالسيّد الشريف(3).
ومازال رجال التوارق إلى اليوم يلبسون اللثام، ويبدو أنّه عادة قديمة ومنذ عصور مبكّرة لاحظ المؤرخون والرحالة العرب ذلك، فقد ذكر اليعقوبي صاحب “كتاب البلدان” في سياق حديثه عن الشعوب الساكنة على طول الطريق بين سجلماسة والسودان، إنّه ثمّة قوم صنهاجيون يتلثمون بعمائمهم «ثم يلقاه قوم يقال لهم أنْبيّه من صنهاجة في صحراء ليس لهم قرار شأنهم كلّهم أن يتلثموا بعمائمهم سُنّة فيهم»(4)، وهذه الإشارة المبكّرة يؤكدها الجغرافي ابن حوقل أين يقول «ولم يُرَ لأحدهم ولا لصنهاجة مذ كانت من وجوههم غير عيونهم، وذلك أنّهم يتلثّمون وهم أطفالٌ وينشؤون على ذلك»(5). ويبدو أن هذه الإشارات لم تقتصر على كتب المتقدمين فقط بل وردت في متون مَنْ جاء بعدهم، فقد فَصَّلَ صاحب المسالك أبو عبيد البكري القول في اللثام وسمّاه (النقاب)«وجميع قبائل الصحراء يلتزمون النقاب وهو فوق اللثام حتى لا يبدو منه إلاّ محاجر عينيه ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال ولا يميّز رجل منهم وَلِيُّهُ ولا حميمه إلاّ إذا تنقّب وكذلك في المعارك إذا قُتل منهم القتيل وزال قناعه لم يُعلم من هو حتى يُعاد عليه القناع وصار لهم ألزم من جلودهم»(6). ثم وفي القرنين التاسع والعاشر للهجرة انتبه الرحالة الحسن الوزّان (ليون الإفريقي) إلى انتشار ظاهرة لبس اللثام في مجتمع التوارق فقال عنها «يضع أشرافهم على رؤوسهم لثامًا أسود يحجبون بطرف منه وجوههم»(7).
إذن فاللثام ميزة اجتماعيّة وثقافيّة أصيلة عند التوارق لا يُعرف تاريخ نشأتها على وجه التحديد، ولعلّ أقدم إشارة تاريخيّة إليها قد تكون إشارة اليعقوبيّ. ونحن هنا لسنا بصدد التأريخ للثام، بل الضرورة المنهجيّة تقتضي النظر في مدى أصالة هذا الملمح الثقافي الجوهريّ عند التوارق. فاللثام شعار التوارق الأساسيّ إلى يومنا هذا به يُعرفون، وقد تغيّرت الكثير من عاداتهم غير أنّ اللثام بقي زيّا رسميّا راسخًا عندهم فهم يحضرون اجتماعاتهم في المحافل الدولية بلثامهم الأزرق أو الأبيض أحيانا مع تعديل بسيط بخفض اللثام تحت أرنبة الأنف.
أسباب وضع اللثام
لقد تنبّه المؤرخون والجغرافيّون العرب إلى غرابة هذه العادة أو هذا الطقس (Rite) فحاولوا تفسيره بطرق شتى. ونورد هنا خبرا رواه ابن الأثير في تفسير سبب اتخاذ توارق صنهاجة اللثامَ مفاده أنّ قوما من لمتونة خرجوا للغزو فخالفهم عدوٌ آخر إلى مضاربهم، ولم يكن بها غير الأطفال والنساء، فأشار الشيوخ على النساء بالتلثم وحمل السلاح لإرهاب العدو، ففعلن فظنّهم العدو رجالاً مسلّحين، فساق الأنعام من المراعي وعدل عن غزو المضارب، حتى أدركه رجال القوم فحاربوه وطردوه، ومنذ ذلك العصر اتخذت لمتونة اللثام سنّة للتبرك به «فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنّة يلازمونه، فلا يعرف الشيخ من الشاب. فلا يزيلونه ليّلاً ولا ﻧﻬارًا»(8).
وأمّا صاحب الحلل الموشية فقد ذكر سببًا مغايرًا لما ذكره ابن الأثير «… هذا سبب خروج سلف الملثمين عن اليمن، كما ذكر، وكانوا أوّل من تلثم، ثم انتقلوا من قطر إلى قطر… حتى صاروا بالمغرب الأقصى، بلاد البربر، فاحتلوا به، واستوطنوه، وصار اللثام زيّهم الذي أكرمهم الله به، ونجاهم لأجله من عدوهم، فاستحسنوه، ولازموه، وصار زيّا لهم ولأعقابهم لا يفارقونه إلى هذا العهد. وإنّما تبربرت لسانهم لمجاورة البربر، وكونهم معهم، ولمصاهرتهم إياهم»(9).
ولم يغفل المؤرخون الإشارة إلى وظائف اللثام التي قد تكون سببًا كفيلا بتفسير المغزى من اتخاذ رجال التوارق اللثام شعارًا، فهو يقي من برد الشتاء وحرّ الصيف وخاصة من الزوابع الرمليّة الدائمة في مجابات الصحراء الكبرى الإفريقيّة، «وكانوا قبل أن يملكوا يتلثّمون في الصحراء من الحرّ والبرد مثلما يفعل العرب…»(10)، لكن المعاصرين طرحوا اسئلة وجيهة في هذا الصدد، فإذا كان اتخاذ التوارق اللثام زيا راجعا إلى إكراهات البيئة الصحراويّة، فلماذا لم تجاريهم بقيّة الشعوب البدويّة مثل العرب الذين يتلثّمون لكن في سياقات مخصوصة؟ ولماذا لا تلتزم نساء التوارق اللثام أيضا؟ ثم ألاّ تنتفي إكراهات المناخ ليلا في البيوت عند النوم فلماذا يمتنع التارقيّ عن خلع لثامه ليلا ؟
كل هذه القراءات لا تكفي لتفسير ظاهرة اللثام التارقيّ خاصة مع وجود تصوّرات أخرى نقلها لنا ابن حوقل مثلا وهي مهمّة في نظرنا، إذ قال متحدّثا عن الملثّمين التوارق في هذا السياق «ويزعمون أنّ الفم سوءةٌ تستحق الستر كالعورة لما يخرج منه، إذْ ما يخرج منه عندهم أنتن ممّا يخرج من العورة»(11). ولا ندري في هذا السياق ماذا يقصد المؤرخ بـ «ما يخرج منه عندهم أنتن؟» هل يقصد به القيء وهو لعمري صحيح لأنه خرج من غير موضع خروجه حتى أوحى بتطابق مخرجه الاستثنائيّ بمخرجه الأصليّ. أم أنّه يقصد به خبيث القول مما ينافي الأخلاق العامة أو مما يقود إلى إغضاب ربّ العباد؟ وهذا القول على غرابته يعتبر رأيًا مخالفًا لما وَقر في المدوّنة الرسميّة مِنْ تصوّرات فقهيّة لمفهوم العورة، صاغها الفقهاء والعلماء من مختلف الفرق والمذاهب، وهي تصوّرات تتأسس عليها عدّة أحكام في باب العبادات والأخلاق.
ولعلّ فهم التوارق المختلف لمفهوم العورة سيتجاوز أحيانًا اعتبار فم الرجل عورة إلى الحدّ الذي يحدث انقلابا جذريّا لمفهوم العورة، حتى يغدو ستر الفم أولى من ستر الفرج، وذلك ما أورده لنا النويري في مصنّفه نهاية الأرب «ولقد حكى لي من أثق به أنّه رأى شيخًا من الملثمين بالمغرب… منزويا في ضفة نهر، يغسل خُلْقانه (ثيابه الباليّة) وهو عريان، وعورته بارزة، ويده اليمنى يغسل بها والأخرى يستر بها وجهه. فقال له: «استر عورتك بيدك» فقال: «أنا ملثّم بها»(12). وهذا القول على غرابته وطرافته إلاّ أنه لا يخلو من وجاهة فالإنسان عندما يخفي ملامحه تنتفي هويّته بالتالي ينتفي ما به يتعيّن ويتحدّد داخل المجتمع بالتالي يدخل تحت تصنيف المجهول وبالتالي يزول عنه الخجل الناجم عن اختراقه للأعراف الاجتماعيّة السائدة.
تؤكد كتب التاريخ والرحلة أنّ التوارق يعتبرون الفم عورة تستوجب الستر، ومازال الكثير من التوارق ينضبطون لهذا المعتقد. وفي هذا الصدد يقول الأديب التارقيّ إبراهيم الكوني في إحدى رواياته «وجدت الحكمة المجهولة التي دعت إلى السلف لاختراع القناع، إخفاء العار عمل إجباريّ لمخلوق يريد أن يحترم نفسه، وعمل مشروع لرجل يريد أن يستر عريه ويحترم بدنه»(13).
إنّ هذا الانزياح اللساني والإتيقي والديني في ضبط مفهوم العورة عند التوارق المسلمين من شأنه زعزعة مفهوم العورة الذي استقرّ في المدونة الفقهية والذي يحصره الفقهاء بين الركبة للسرة بالنسبة إلى الرجل وبين جسد المرأة كلّه عدا وجهها وكفيها ورجليها. زعزعة من شأنها أن تقود إلى مراجعة شاملة للأسس الأخلاقيّة والدينيّة لمفهوم اللباس الشرعيّ وما يستتبع ذلك من مراجعات في الشريعة والعقيدة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأنثروبولوجيّ الفرنسيّ جيلبير ديران له فكرة في هذا السياق في كتابه «البنى الأنثروبولوجية للمتخيل» في تحليله للفم باعتباره امتدادا فزيزلوجيا وثقافيا للفرج ويستحضر بيتا للشاعر الفرنسي شارل بودلير «إن فمك الذي تفخر به هو في النهاية قاع فرجك»
ولعل اللثام في حقيقته ممارسة موغلة في البدائيّة تتجاوز التصوّر الدينيّ الإسلاميّ الوافد على التوارق، ممارسة لعلّها تنبع من رؤية أسطوريّة وسحريّة للكون والوجود(14) تقضي بضرورة إخفاء الوجه تجنبا لتأثيرات القوى الماورائيّة. وقد ذكر المؤرخ الموريتاني المعاصر الناني ولد الحسين نقلاً عن شيخ الربوة، أنّ التوارق يعتقدون أنّ الجنّ ينشر الأمراض في الفضاء، وهذه الأمراض تصيب الإنسان عبر فمه وأنفه، ولذلك يجب أن يحتاط الرجال بتغطية أفواههم وأنوفهم، وستر وجوههم وأفواههم «بلثام محكم خشية تسرّب الأرواح الشرّيرة لجنود الملكة إلى أجسادهم»(15)، ومن الطبيعيّ أن يكون الأمر متعلّقًا بالرجال فقط فالمرأة في اعتقادهم لديها صلة قويّة بالأرواح وبالجنّ عبر السحر(16) وبالتالي فهي محصّنة من هكذا أخطار.
وظائف اللثام:
مما لا شك فيه أن للثام وظائف عمليّة اقتضاها المناخ واستوجبتها الصحراء، فاللثام يقي التارقيّ من الحر والبرد والرمال في بيئة صحراويّة متطرّفة المناخ بين شتاء شديد البرودة وصيف شديد الحرارة، أو حتى بين الليل والنهار. ولكننا نرجّح أنّه بمرور الزمن اكتسب اللثام وظائف جديدة أغلبها اجتماعيّ وثقافيّ.
فإذا حاولنا تقصّي هذه الوظائف نجد أن اللثام هو قبل شيء وبالأساس آليّة تعيين إثنيّ، اقتضتها ضرورة التمركز الإثني لمجموعة أمازيغيّة في فضاء صحراوي متعدّد الإثنيات (عرب تبو فلان سونغي تكرور…). فابن خلدون حين تحدث عن صنهاجة الصحراء «واتخذوا اللثام خطاماً تميزوا بشعاره بين الأمم»(17). فلا يتلثّم إلاّ التوارق أو بعض جيرانهم الصحراويّين الذين تطبعوا بطباعهم مثل الفلاني والتبو وبعض العرب وبعض التكرور. فاللثام يميّز التوارق ويسمح لهم بالمحافظة على اختلافهم وضمان عدم اختلاطهم بغيرهم من الشعوب مما يتيح لهم المحافظة على بعض خصوصيّاتهم الاثنيّة والاجتماعيّة وتصوراتهم الثقافيّة الأصيلة. وحتى حين أراد بعض عامة الناس في الأندلس تقليد التوارق في اتخاذ اللثام زيًّا على عهد دولة المرابطين (صنهاجة اللثام)، تصدى لذلك بعض أهل الحسبة، وفي هذا السياق أورد ابن عبدون (ت 527 هـ) في رسالة الحسبة هذا الحُكم «يجب أن لا يلثم إلاّ صنهاجي أو لمتوني أو لمطيّ فإنّ الحشم والعبيد ومن لا يجب أن يلثم يلثمون على الناس ويهيبونهم ويأتون أبوابًا من الفجور كثيرة بسبب اللثام»(18).
ومن ثمة يصبح اللثام شعارا للتوارق به يحقّقون فرز أنفسهم في فضاء متعدّد الإثنيات. فكل من لا لثام له يعتبر عند التوارق غريبًا وأجنبيًا، ولا يكتفون بذلك بل يلقّبون غيرهم بألقاب ساخرة «وهم يسمّون من خالف زيّهم هذا من جميع الناس أفواه الذبان بلغتهم»(19).
أمّا الوظيفة الثانية التي يضطلع بها اللثام فهي وظيفة الفرز الطبقيّ. فلثام الرجال النبلاء من الإيموهاج يختلف عن لثام الرجال المنحدرين من قبائل الإمغاد التابعين، في لونه وطوله وطريقة وضعه. بالتالي يحكمُ اللثام على المجتمع التارقي بطبقيّة صارمة وجامدة فكلّ يتمّ فرزه طبقيّا عبر لثامه. وترى عصمت عبد اللطيف دندش، أنّ خِمَارَ السادة يختلف عن خمار العبيد «ويتخذ السادة لثاما مخالفا للثام العبيد»(20)، اعتماد على ما ورد في رسالة ابن عبدون في الحسبة الذي قال في هذا الباب «(على) عبيد المرابطين إنْ تلثّموا فتكون علامة يعرفون بها مثل أن يتلثموا بخمار أو مئزر وشبه ذلك، وكذلك الحشم والأتباع يكون شكلهم غير شكل المرابطين»(21).
وقد ظلّ مجتمع التوارق إلى مطلع القرن العشرين يكرّس عمليّة الفرز الطبقيّ عبر آلية اللثام. وقد رصد الرحالة الفرنسي ليون بروفنكيار في زيارته لمدينة غدامس الليبيّة مطلع القرن العشرين أنّ الوجهاء التوارق يلبسون اللثام الأزرق بينما يرتدي الفقراء اللثام الأبيض(22).
ويعدّ اللثام مرجعا أساسيّا في ضبط خريطة الأدوار الاجتماعيّة فالقبائل التارقيّة تتمايز في ما بينها بطريقة كل منها في ارتداء اللثام، وبالتالي يتخذ اللثام وظيفة تعين الأفراد داخل مجتمع بنيته في الأساس ترتكز على المفهوم القبليّ، وما يترتب عن ذلك من تصنيفات طبقيّة وسياسيّة تعتبر ضروريّة في تحديد موقع كل قبيلة من المجتمع التارقي الواسع.
أمّا الوظيفة الثالثة فهي الفصل بين الأطفال والرجال فالتارقيّ يلبس اللثام في عمر معيّن، ويقام له احتفال هو بمثابة طقس عبور(23)، إذ لا يُلبَسُ اللثام إلاّ عند البلوغ أو في سنّ العشرين أو الخامسة والعشرين حسب الروايات. ومن العادة ألاَّ يتلثم طفل حتى يصل سنّ البلوغ(24)، ويتلثم للمرة الأولى في طقس احتفاليّ شبيه بطقس التعريس الذي تقيمه القبائل البدائيّة للشبان حديثي البلوغ والذي يقتضي أنّ يتم تجميع البالغين الجدد في مخيّم ويقع عزلهم بعيدا عن القبيلة ويتم تدريبهم على فنون الحرب والقتال واختبار قدرتهم على التحمّل. وفي هذا السياق يقول حسن أحمد محمود «لا يعتبر الفرد مكتمل الرجولة إلاّ إذا تلثم ويقيمون احتفالاً كبيرًا، هو نذير باكتمال الفرد لحقوقه المدنيّة، واعتباره عضوًا عاملاً في المجتمع الملثّم»(25).
وإذا كان طقس العبور عادة يواكبه تغيير أو (تشويه) جسديّ أو تمييز ما مثل الختان، أو الوشم، أو خلع أسنان، أو تعليق أقراط، أو تمائم إلخ، هذا التمييز الجسدي عادة ما «يهدف إلى طبع الجسد إعلانًا عن البلوغ الاجتماعيّ»(26)، فإنّ اللثام بناء على هذا الفهم الأنثروبولوجي يعتبر «طقس عبور». ولهذا نرجّح أن منشأ عادة اللثام عند شعب التوارق لا يستبعد أن يكون قدّ حفّت به ظروف غامضة لها علاقة وطيدة بالمعتقدات الإحيائيّة القديمة في الصحراء الإفريقيّة الكبرى، ظروف أعطته ذلك الجانب الذي يستمد منه غموضه وعجائبيته وسحريّته. رغم أنّ اللثام في الأغلب كما ذهب القدامى والمحدثون اقتضته حاجة التارقيّ إلى غطاء رأس يقيه برد الشتاء وحرّ الصيف والرمال الصحراويّة.
وإلى جانب ذلك يعتبر اللثام آليّة فرز جندريّ فالنساء لا يتلثّمن أبدًا وإن حدث وفعلن ذلك فللتشبه بالرجال (كما يذكر المؤرخون عن سبب ظهور عادة اللثام)، فالرجال هم من يتم فرزهم جندريّا وتعليمهم بعلامة. وهذا الفرز الجندريّ المقلوب الذي يناقض تماما تصوّرات المجتمعات المسلمة الأخرى التي تحتكم إلى بنية ذكورية، له دلالات عميقة من شأن البحث العلميّ إذا ارتكز عليها أن يصل إلى نتائج مهمّة في ميدان الدراسات التاريخيّة والاجتماعيّة للأديان، أو الدراسات التي تهدف إلى فصل التاريخي عن النصّي في فهم المسلمين للإسلام.
وأعجب ما في مسألة اللثام أنّه يعطي التارقيّ هويّته الفرديّة، فإذا سقط التارقيّ في الحرب صريعا وزال عنه لثامه وانكشف وجهه فلا يُعرف من هو حتى يُعاد اللثام على فمه وأنفه. هكذا يتحول القناع إلى أداة تعريف ويغدو السفور شكلاً من أشكال التخفي، (يمكن تعميق هذه الفكرة بالعودة إلى الفيلسوف سلافوي زيزاك) وهذا ما لا تشترك فيه مع التوارق أيّة مجموعة بشريّة على الإطلاق، وهذه الفكرة من شأنها أن تخلخل الأساسات القانونيّة والأخلاقيّة والأمينة التي يرتكز عليها منع لبس البرقع في الكثير من الدول الغربيّة، وتربك منظومات التواصل بين الأفراد في المجتمعات الأخرى.
نصل إذا في خاتمة بحثنا إلى بعض النتائج من بينها:
-إنّ الأشكال الفولكلوريّة في اللباس ليست مجرّد مظاهر جماليّة تزخر بالعجائبيّة والحنين إلى عصور غابرة، بقدر ما هي جوهر هويّة الفرد، إذ يختزل اللباس انتماءات الفرد الاجتماعيّة والطبقيّة والإثنيّة والطائفيّة لا بل حتى الرياضة والحزبيّة في العصر الراهن.
-لثام التوراق دليل حيّ ملموس على تاريخيّة ظاهرة غطاء الوجه، ينسف كل ادعاء بارتباط إخفاء الوجه –خاصة عن المرأة- بوجود نصوص دينيّة تسيّج ذالك سواء في القرآن أو السنّة النبويّة.
-إنّ الإقصاء الجندريّ للمرأة من الفضاء العام في المجتمعات المسلمة وحجبها وإخفاءها ليس مردّه النصوص الدينيّة بقدر ما يرجع إلى هيمنة البنية الذكوريّة والثقافة الباطرياركية.
-إنّ اللباس حصيلة تراكم تاريخيّ لمجموعة كبيرة من المحدّدات منها المناخيّ والاجتماعيّ ومنها الإثني ومنها الجندريّ ومنها الدينيّ، ولا يمكن أن يستمد اللباس أهميته أو أولويته من عامل واحد.
المصدر: مجلة الثقافة الشعبية