رضا محمد عبد الرحيم
فى كتابهُ الشهير الكون والآلهة والبشر L’Univers,les dieux,les homes;Recits grecs des origins ينطلق بيار فيرنان من تعريفهُ للأسطورة على أنها تبدو على صورة قصة آتية من سحيق الأزمان –خارج الحيز الزمنى الذى نعيشهُ- حيث أنها قد تكون وجدت حتى قبل أن يعمد راوية إلى حكايتها.بهذا المعنى ،ليصل إلى أنها لا تصدر عن أختلاق فردى ولا عن خيال خلاق،وإنما عن التناقل والذاكرة.
هذه العلاقة الوثيقة الصلة بالتذكر تقرب الأسطورة من الشعر الذى يندمج -فى مظاهره القديمة والبدئية –
مع مسيرة تكوين الأسطورة ،واليوم أيضا لا وجود للقصيدة إلا عندما تتداولها الألسن .إذ يتوجب حفظها غيبا عبر كلمات صامتة تنتمى إلى كلام داخلى.وهذا ما يفسر لنا أن الأساطيرالإغريقية الكبرى جاءت على لسان شعراء عظام أمثال: هوميروس وهزيودوس وبنداروس وأوفيديوس .
إذا لا يمكن للأسطورة أن تعيش إلا إن رويت من جيل لآخر فى خضم الحياة اليومية .إن شروط وجود واستمرارية الأسطورة تتلخص إذا فى كلمات ثلاثة:الذاكرة والشفاهة والتراث.
تأتى هنا فرضية إختلاق الأسطورة الذى أدخلها كلود ليفى ستروس ،لنسلم بأن كل قصة محكية ،هى إنتاج شخص.وما أن تغادر شفتى الراوية الأول حتى تندرج ضمن التراث الشفوى ،أو على الأقل حتى تتلقى أختبار أفواه وآذان الآخرين،وخلال مسيرة التنقل الشفهى ،أى عبر سلسلة الرواة التى لا تتوقف ،تكتسب القصة التراثية بنية أشد انتظاما،وهو ما يسبغ على الحكاية(الأسطورة) بعدا رمزيا أكبر-الواقع أن الإغريقى كان يدعو الأسطورة كلاما مقدسا- يلخص ليفى ستروس ذلك بقوله :إن الأعمال الشخصية هى كلها أساطير بالقوة،ولكن تبنيها على الصعيد الجماعى هو الذى يحدد بعدها الأسطورى عند الضرورة.
اذا كيف يمكن الوثوق بالرواية المسموعة؟من المستحيل منحها الثقة،خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعصور السحيقة القدم،عندها يجب التزام الصمت،فهذه الروايات سند للمؤرخ فى دراسته للأحوال الاجتماعية والنفسية والخلقية لأمة ما،وهى تعبير عن النفسية العميقة الكامنة التى لا تشبه الملبس ولا المأكل،وإنما تمثل خصائص روحيه لا ترى بالعين المجردة،فهى إذن من الدراسات الأساسية فى الوثائق التاريخية،والتى يجب أن يلجأ إليها المؤرخ فى تدوين التاريخ.
شيد أمنحتب الثالث(1405- 1367ق.م) معبده الجنائزى الهائل والذى كان يحمل أسم “شسبت آمون”شمالى ملقاطة جنوب مدينة طيبة ،وقام مرنبتاح بهدمه عند تشييد معبده الخاص فلم يترك من المعبد الأول سوى التمثالين الشامخين اللذين أقيما على جانبى الصرح وهما يمثلان الملك امنحتب الثالث جالسا ،يبلغ ارتفاع كل منهما تسعة عشر مترا ،وقد نحتا من كتلة واحدة من الحجر الرملى.
وقد حبك الخيال الإغريقى الخصب الخرافات حول الأصوات الموسيقية العذبة التى كانت تسمع كل صباح من التمثالين القابعين على حافة الصحراء يريان مدينة طيبة واطلقوا على التمثالين اسم تمثالى ممنون ..أما لماذا هذا الأسم خاصة ؟ وما سر ما يصدر من التمثالين من موسيقى عذبة كل صباح ؟ فهذا ما سنبحث عنه معا فى هذا المقال ،
تقول الأسطورة إن” ممنون ” كان يهاجم أهالى مدينة “طروادة” هو وجيش من الأثيوبين ضد الإغريين،وقد قتلهُ “أخيل”البطل الإغريقى،غير أن أمهُ”إيوس” -الإلهة الإغريقية إلهة شفق الفجر- التقطت جثتهُ من ساحة القتال،ودعت الإله “زيوس”أن يمنحه الأبدية .وقد صارت الدموع التى أنهمرت من عينيها عليه تمثل نقطة الندى التى تظهركل صباح عند مطلع الشمس ،وهى فكرة دينية مصرية خالصة بأن البشر قد أنبثقوا من دموع الخالق ولا أدل على ذلك من أن كلمتى دموع وبشرى متماثلتان فى اللغة المصرية القديمة.
ونعود إلى رواية أخرى من الأسطورة بأن “ممنون” كان رجلا أثيوبى الأصل وأنه قبل ذهابهُ إلى طروادة أتى إلى مصر وحسب الخرافة الجديدة التى نشأت حول التمثالين نعرف أن الأصوات الموسيقية العذبة التى كانت تسمع كل صباح عند مطلع الشمس هى نبرات صوت هذا البطل يرحب بوالدته عندما تشرق الشمس فى السماء الوردية اللون.
وحقيقة الأمر أنه فى عام 27 ق.م حدث زلزال قضى على بعض ما كان ماثلا من خرائب مدينة طيبة وهشم التمثال الشمالى من تمثالى ممنون ،فكسر نصفين،وسقط نصفه الأعلى ،وكان هذا الزلزال الذى أعقبه الكسر فاتحة عهد جديد فى شهرة هذا الأثر،إذ بعد حدوث هذا التصدع كان المارة يسمعون فى الصباح الباكر صوتا موسيقيا ينبعث من التمثال المكسور،كأنه صوت ناى أو عود (صوتا شجيا) ،وهذه الظاهرة التى لم يعرف المصريون أسبابها قد جذبت انتباه محبى الاستطلاع من اليونانيين فالمؤرخ اليونانى استرابون مثلا ذهب إلى مكان التمثالين لكى يستمع إلى هذا الصوت الغريب ،ولم يستطع أن يقنع نفسه بسبب هذه الظاهرة وقال:
إنه يمكن الأقتناع بأى شىء أكثر من الاعتقاد بأن مثل هذه الأحجار يمكن أن تصدر صوتا،ولكن شيئا فشيئا اقترنت هذه الظاهرة بالأساطير اليونانية وخلال السنوات الأولى من القرن الأول الميلادى ،كان البر الغربى من طيبة يحمل اسم ممنويا فى الوثائق اليونانية ،واطلقت هذه التسمية المحلية الجديدة على تمثالى أمنحتب الثالث وعدا من الآن مثالا لصورة البطل ممنون.
وفى القرن الثانى بعد الميلاد قام الإمبراطورالرومانى “هادريان “بسياحة إلى طيبة ليستمع إلى هذا الصوت،وبعد مرور سنين على زيارته هذه جاء الإمبراطورالرومانى “سبتموس سفيروس” لزيارة هذا التمثال وسر به كثيرا لدرجة أخذته فأمر بإصلاح ما تهدم منه ،فركب الجزء العلوى فى مكانه وبذلك ظهر بصورته الحقيقية ،غير أنه مما يؤسف له أن هذا الإصلاح كان إيذانا باختفاء هذا الصوت ،ومن ثم بقى صامتا إلى الأبد ،ومنذ ذلك العهد فقد التمثال سر شهرته،فأنفض الزوار الكثيرون من حوله،وأمسى التمثالين فى عالم النسيان .
ويبقى السؤال بعد هذ العرض آنفا طارحا نفسه لماذا ممنون لا هيراقليس أو حتى الأسكندر الأكبر؟
وما سر تلك الأصوات؟
والحقيقة أنه عند قيام المرشدين بشرح الآثار للرحالة الإغريق الأوائل أختلط عليهم الأمر وهم يتحدثون عن “نب ماعت رع” وهو لقب أمنحتب الثالث فنطقوه بعد تصحيفه”ميموريا” Memnoniaعلى وجه التقريب،فساد الأعتقاد أن التمثال الضخم الواقع إلى الشمال هو للبطل “ممنون” قائد الفرق الإثيوبية الذى قتله أخيل خلال حرب طرواده ،وأن مقبرته على ما يقال موجوده أسفل التمثال.
أما عن سر تلك الأصوات فالعلم -الذى دحض تلك الأسطورة- وطبقا لظاهرة طبيعية ثبتت حديثا فى معابد ادفو والكرنك أن الأحجار تهتز أثناء تغيرات الرطوبة أو الحرارة والتى تصحب شروق الشمس،ويظن أن الصوت الذى كان يخرج منه إنما كان من أثر الندى وأشعة الشمس الأولى على الحجر الرملى للتمثال.