كليفورد غيرتز: رائد الأنثروبولوجيا المعاصرة
كليفورد غيرتز Clifford Geertz واحد من أبرز أعلام الأنثروبولوجيا المعاصرة. كان ميلاده في أغسطس (آب) سنة 1926 بالولايات المتّحدة الأمريكية. وتُوفي في العشرية الفارطة أي في 2006. ارتبط اسمه بالمدرسة الأنثروبولوجية الرمزية أو التأويلية بوصفها منحى يُعنى بتفهم أنساق الرموز التي تشكل مجتمعة نظاماً من المعاني التشاركية والدلالات التبادلية لمجموعة ما تضمن انسيابية الفعل ومرونة التواصل الاجتماعي. كان قد نال درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد ليلتحق بها مدرساً في سنة 1956 ثمّ في مركز الدراسات المتقدمة للعلوم السلوكية في “بالتو آلتو” سنة 1958. وانتقل بعدها للتدريس بجامعة كاليفورنيا من سنة 1958 إلى سنة 1960.
يُعد “غيرتز” من المجددين الفعليين في الدرس الأنثروبولوجي تنظيراً وممارسة، فقد انتقد المقاربات الدارجة لمسألة الثقافة من حيث تجلّياتها ووظائفها وأنظمة اشتغالها في الحياة الاجتماعية متجاوزاً المقاربات الموروثة عن “دوركهايم” و”فيبر” و”مالينوفسكي” تلك التي تكتفي بمجرد الوصل بين الطقسيات الشعائرية وجملة الروابط الاجتماعية. وقد اقترح “غيرتز” أن تهتم الأنثروبولوجيا بتفهم أنظمة المعنى وأنساق الدلالات الثقافية التي تشكل الفعل الإنساني وتولده وتوجهه وتجعله نمطياً في داخل أي جسم اجتماعي. وقد وسع “غيرتز” هذه المقاربة بفضل أبحاثه الميدانية في أندونيسيا والمغرب الأقصى واضعاً ثقاقات المجتمعات الإسلامية موضع استقصاء وتفكيك للتدليل على وجاهة أطروحاته التي ترمي إلى الاستدلال على قيمة الأنساق الدلالية للرموز والأفعال الدينية خاصّة في توحيد الأفعال وضبط المشاعر والمواقف.
وتمثل أبحاث “غيرتز” نقلة في الدراسات الأنثروبولوجية والاستشراقية أيضاً بتجاوزها القراءات التاريخية أو الوصفية للإسلام تلك التي تكتفي بالبحث التاريخي أو التصنيفي، لتنخرط في تحليل الإسلام المعيش أو إسلام الممارسة أو الإسلام الحي. فقد درس الظاهرة الدينية في المغرب بين سنتي 1963 و1971. وفي “أندونيسيا” في “جاوة” وفي “بالي” سنة 1951 ونشر هذه الأبحاث في كتابه “ملاحظة الإسلام: التطوّرات الدينية في المغرب وإندونيسيا” سنة 1968.
وانتهى في هذه الأبحاث إلى التأكيد على المضمون الثقافي للظاهرة الدينية بطقوسها وشعائرها وسلوك المنتمين إلى الطائفة الدينية الواحدة، فالممارسة الدينية تكفل عبر رمزياتها تبادل المعاني وتثبيت الدلالات والأدوار بما ينعكس على انتظام الطائفة ولُحمتها. فقد ركز على شعيرة “السلامتان” في “جاوة” الأندونيسية، وهو طقس احتفالي موصول بالولادة والموت، وفيه يجتمع الناس للمؤاكلة في مشهد تضامني يعزز عرى الوحدة والانسجام الداخلي. وانتهى إلى رصد التحوّلات السياسية والمشكلات الاجتماعية التي نشأت بتراجع هذا الطقس وضموره.
وفي طقس آخر، استعار مفهوم “اللعب وحسّ اللعبة” في تحليله لـلعبة الشعبية التي تجري في جو طقسي احتفالي “صراع الديكة” في مدينة بالي، وهي لعبة مراهنات تستحوذ على هوس المتساكنين، ولها أجواء طقسية مقنّنة تأخذ شكل نسق رمزي جلي المعالم، وتسهم في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي بين الفئات رغم تجريم الدولة المركزية لذلك وسعيها إلى قهر هذه الممارسات الثقافية الراسخة في إطار بناء الدولة الوطنية الحديثة، وهو بذلك يصل وصلاً عضوياً بين الثقافي والديني في صميم الجسد الاجتماعي الكلي.
وفي المغرب الأقصى انشغل “غيرتز” بدراسة الوليّ ومقامه الروحي والاجتماعي وجملة المواصفات والوظائف التي ينهض بها في النسيج الاجتماعي، من خلال جملة الدلالات الثقافية التي يمنحها للمؤمنين به، وتابع “غيرتز” ما لحق بفكرة الزعامة الروحية من تصدّعات بسبب التحوّلات التي أحدثها الاستعمار الفرنسي تحديداً، وأخذ لذلك نموذجاً بحثياً هو الوليّ “اليوسي” لينتهي إلى دور “البركة” والهبة الروحيةفي الفعاليات الاجتماعية ليبرهن أنّ الدين نظام اعتقادي يحدّد رؤى الكون والحياة ويضبط السلوكيات الجمعية في شكل نسق تعبيري ثقافي مخصوص في رموز محمّلة بالمعاني.
ويُعتبر كتاب “تأويل الثقافات” أشهر مؤلفاته التي جمعت جملة من البحوث ليس لها من رابط إلا مفهوم الثقافة في حد ذاته كما أعلن عن ذلك “غيرتز” نفسه. وقد تُرجم إلى اللغة العربية من طرف “المنظمة العربية للترجمة” و”مركز دراسات الوحدة العربية” من قِبل محمد بدوي ومرتجعة الأب بولس وهبة. وضم فصولاً جمعت بين التنظير والأعمال الإثنوغرافية الميدانية التي درست الإسلامين الأفريقي والآسيوي علاوة على الديانات المحلية.
ويعود الفضل إلى “غيرتز” في كشف المحاميل الرمزية للأعمال الدينية بوصفها نواقل للمعنى التشاركي ليضع مفهمة جديدة للدين بوصفه “نسقاً من الرموز يعمل على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة وانتشار واستمرار دائمين لدى الناس وذلك عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود”، وهو مفهوم أساس من ضمن طائفة من المفاهيم التي صكها في بحث عن مقاربة متكاملة لدراسة الرمزيات الدينية والطقسيات الاجتماعية عموماً. فكان لزاماً اجتراح مفهوم جديد للثقافة يتجاوز ذلك المعتاد إلى مفهوم يعتبر الثقافة أساساً “نظاماً من التصورات الموروثة التي يعبر عنها بأشكال رمزية التي بواسطتها يتواصل البشر ويطورون معرفتهم عن الحياة ومواقفهم من الحياة”.
لذلك اخترع “غيرتز” مفهوم “التوصيف المكثف” لدراسة الرمزيات الثقافية واستكشاف بواطن الفعل الاجتماعي وشحنته الرمزية التي تترك آثاراً اجتماعية ملموسة في الأفراد والروابط وتمنح العالم دلالته، فتكون الثقافة هي التي “تضفي المعنى على العالم في أعين أصحابه؛ فهي تُقرأ كما يُقرأ النصّ والثقافة بما هي نص تتألف من الرموز التي هي نواقل المعنى”.
لكنّ أعمال “غيرتز” التي غيرت طرائق العمل ومفاهيم الفعل الاجتماعي والمعنى الرمزي لها لم تلق كل القبول والرضى من الأكاديميين والباحثين. فبعضهم اتّهمه بالغموض والتعمية وتعقيد المعنى من خلال أسلوبه الذي لا يراعي مقتضيات اللغة البحثية المعهودة بما فيها من صرامة ووضوح. إلى ذلك فأسلوب “غيرتز” ميّال إلى الأدبية المشحونة بالمجاز والإشارة بما يتعارض والنزعة التقريرية المائزة للخطاب البحثي الأنثروبولوجي.
ولكنه رغم يظل علامة من علامات البحث الأنثروبولوجي في القرن العشرين من خلال جملة الأبحاث والدراسات والكتب التي تركها، إذ أصدر “غيرتز” طيلة نصف قرن تقريباً جملة من المقالات والكتب من أبرزها:
ــ “الدين في جاوة” (the religion of Java) في 1960.
ــ “تأويل الثقافات” (The interpretation of cultures) في 1973.
ــ “الأسطورة والرمز والثقافة” (Myth, symbol and culture) في 1974.
ــ “مقاربة أنتروبولوجية في دراسة الدين” (An anthropological approach to study of religion) 1975.
المصدر: مجلة ذوات