جهود الباحث: كلود ليفي ستروس في دراسة الحكاية العجيبة
مع نموذج تطبيقي للدراسة
الأستاذة: بوقفة صبرينة
باحثة في الأدب الشعبي من الجزائر
ركز بروب في دراسته على الشكل دون المحتوى كما فصل بين الجانبين وذلك بتفريقه بين أفعال الشخوص من جهة والشخوص التي تقوم بهذا الفعل من جهة أخرى.
يرى ستروس أن بروب عزل الحكايات الخرافية عن دراسة الأساطير وأعطاها أولوية كبرى بالرغم من وجود علاقة وطيدة بينهما حيث أن الحكاية الخرافية في الأصل هي سليلة الأساطير، وجاء في” قاموس الأنثروبولوجيا” أن الأسطورة : “قصة تقليدية من عالم غير موجود متخيل وزمن غير معروف ولمؤلف مجهول أبطالها خياليون وهم رجال وحيوانات وآلهة وأرواح ومخلوقات فوق الطبيعة، وتفسر الأسطورة نشأة ومعاني المعتقدات والأعراف والظواهر الطبيعية وأية حقائق أخرى يعجز أفراد المجتمع عن تفسيرها”(1).
والأسطورة بهذا المعنى مرتبطة بكل ما هو مقدس وتسعى إلى تفسير ما ينسجه خيال المجتمع الشعبي كما أدت دورا فكريا عقائديا في فترة كان الإنسان في حاجة ماسة لها ثم تراجعت بعد ذلك، وفي الفترة التي فقدت فيها وظيفتها الطقوسية خرجت من المعابد والمسارح إلى إبداعات الأدباء والقصاصين فتحولت إلى حكاية دنيوية أصبحت تنتمي إلى نوع شبيه بالأسطورة أي الحكاية الخرافية أو القصة البطولية(2).
وبذلك فستروس ينتقد بروب في هذه النقطة بالذات، ويرى أن الفرق الوحيد بين الشكلين يكمن في الدرجة فلم لا تكون الدراسة ملمة بالاثنين وحاولنا أن نوضح الفرق بينهما من خلال الجدول الآتي:
يرى ستروس أن منهج بروب يهدف إلى تحليل المحتوى الشكلي في مقابل منهجه “البرجماتي”(*) الذي يهدف إلى الغوص في أعماق السطح لاستخلاص الوحدات المرتبطة بالنظام الاجتماعي المتصل بالحكاية الخرافية، ولفهم ذلك نبدي المثال الذي أوردته الدكتورة نبيلة إبراهيم في كتابها: “قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية” حيث تقول: « فخروج البطل وحيدا مدفوعا بالرغبة في المغامرة، ثم عودته إلى أسرته بعد أن يكون قد نجح في أداء مهمته ثم التحريم الذي يفرض عليه والضرر الذي يعود عليه من جراء ارتكاب الشيء المحرم كل هذا من شأنه أن يكشف عن نظام اجتماعي محدد”(3).
ــ يعتمد ليفي ستروس في عرض منهجه الخاص بتحليل الأساطير على إعطاء مفهوم للأسطورة وتمثل لديه نظاما متسقا من التقلبات ذات لغة رمزية، وينطلق في تحليله البنيوي للأسطورة من المبادئ التالية:
1 ــ لا يتوقف معنى الأسطورة على عناصرها وهي منعزلة بل يتوقف معناها على الطريقة أو الكيفية التي تنتظم بها العناصر المكونة لها.
2 ــ تنتمي الأسطورة إلى نظام اللغة وهي تمثل جزءا مندرجا فيها، أي أن هذه اللغة داخل الأسطورة لها خصائص تميزها عن باقي الاستعمالات الأخرى.
3 ــ ويتمثل المبدأ الثالث في كون هذه الخصائص ذات طبيعة مركبة ومعقدة ذات مستوى أعلى من مستوى الاستخدام العادي للتعبير اللغوي، ومن خلال هذه الفرضيات الثلاث نستخلص النتائج التالية:
أ ــ تتشكل الأسطورة من وحدات داخلية مكونة لها.
بـ ــ يستلزم حضور هذه الوحدات المكونة للأساطير حضور وحدات أخرى تدخل في تكوين بنية اللغة مثل الفونيمات والمورفيمات والسيمانتيمات، وأطلق ستروس على الوحدات الكبرى المكونة للأساطير اسم الميتامات (mytem) وهي أشد تعقيدا من باقي الوحدات فهي لا تندمج معها لكن توجد على مستوى أعلى منها كما أنها لا تعني دراسة العلاقات منفصلة، وإنما تعني دراسة مجموع العلاقات مما يكسبها وظيفة دلالية، وإذا أدخلنا عنصر الزمن فإن هذه العلاقات تبدو متباعدة “إذا ما وضعت في مكان من وجهة نظر زمنية تطورية، لكن إذا وضعت في مكانها من وجهة نظر آنية أو تزامنية تم التوصل إلى إعادتها مجموعتها الطبيعية”(4)، وبذلك توضع الأسطورة داخل نظام مزدوج من الإشارة الزمنية فهو من ناحية البعد الأول زمني متحرك وآخر ثابت متوقف أي تتمثل فيه خصائص كل من اللغة والكلام وذلك كما يلي:
“يحمل خصائص الكلام من حيث هو وجود حي مباشر واستخدام فردي للغة(…)، ويحمل الثاني خصائص اللغة من حيث هي نظام اجتماعي له وجود حقيقي في العقل وتنتظم عن طريق الحضور المتزامن أو (الآني)”(5).
ويعتمد ستروس في تطبيق منهجه على بعض الخطوات واضعا في البداية الأحداث حسب تتابعها في المتن بحيث يمكن قراءتها من اليمين إلى اليسار في محور أفقي ومحور آخر عمودي والذي من خلاله يمكن معرفة تشابه وحداتها الدلالية، وبهذا يمكننا فهمها بعمق وتمثل كل وحدة داخل العمود موتيما تفصح من خلاله الأسطورة على النظام الاجتماعي الذي تنتمي إليه.
كما قدم العديد من الدارسين تحليل ليفي ستروس لأسطورة “أوديب” الشهيرة كنموذج للتطبيق ومنه الأستاذ الطاهر وعزيز في كتابه:”بنيوية كلود ليفي ستروس” والأستاذ عبد الحميد بورايو في كتابه: “منطق السرد”، وفي محاولة أردنا التقرب قليلا من هذا التحليل وخطو خطواته بتطبيقه على أسطورة نشرها العالم الأنثروبولوجي بول ريدن سنة 1949 تحمل عنوان :”ثقافة الونباغو” وفيما يلي تلخيص لها وقدحسبها ريدن شاذة هي كالآتي:
كان هناك صبي يتيم، وهو صياد ماهر كأبيه يعيش مع جدته في طرف القرية وقد رأته ابنة زعيم القرية ووقعت في غرامه ليته يتشجع في تصرفاته معي أو يقول لي شيئا أو يتودد إلي، هذا ما اشتهته بقوة وما فكرت فيه باستمرار ولكن الصبي كان ما يزال يافعا بعد فلم يوجه لها كلمة واحدة قط وهي لم تجرؤ على الكلام، وبعد وقت طويل أمضته في هذا الشوق الممض وقعت فريسة المرض وماتت وكوموا التراب على قبرها حتى لا يتسرب منه شيء.
قرر الزعيم الذي برج به الحزن أن ينتقل مع سكان القرية كلهم إلى مكان يبعد ميسرة عدة أيام، لكن الصبي اليتيم لم يرغب في الذهاب معهم خشية ألا يكون الصيد بالجودة نفسها هناك فبقي بعد الاستئذان من الزعيم هو وجدته للعناية بقبر ابنة الزعيم وكان قد طلب قبل الرحيل أن تغطى أرضية بيتهم بالتراب للحفاظ على الدفء وفي ليلة من الليالي بعد أن عاد متأخرا من الصيد لأنه لاحق طريدة جريحة أبعد من المعتاد، مر من وسط القرية فلاحظ ضوءا في بيت الزعيم القديم وهناك رأى شبح ابنة الزعيم الذي أخبره بسبب موتها، وقالت أنه لكي يعيدها إلى الحياة لابد من يخضع لامتحان يجب أن يمض ليال في بيت الزعيم وعليه كل ليلة أن يقاوم النوم برواية القصص أمام نار عارمة، وإذا ما شعر بالنعاس واضطجع فإنه سوف يحس وكأن شيئا يزحف على جسده ولكن ما يزحف ليس حشرات، يجب ألا يمد يده ليحك الجزء الذي يحكه قطعيا، ومع أن الأمر كان يزداد صعوبة كل ليلة إلا أن الصبي اليتيم نجح في الامتحان وتركته الأشباح التي كانت تعذبه واستطاع أن يعيد الفتاة إلى الحياة وأن يصطحبها إلى أهله ويتزوجها.
عندما سمع القرويون بالنبأ عادوا إلى قريتهم ولم يطل الأمر بالزوجة الشابة قبل أن تضع مولودا ذكرا وعندما كان الصبي قادرا على إطلاق الأسهم الحقيقية تحدث الزوج قائلا لزوجته :رغم أنني أموت كما مت، كل ما هنالك أنني سأعود إلى موطني هكذا واختارت الزوجة أن تذهب معه فتحول الاثنان إلى ذئبين عاشا تحت الأرض وهما يعودان أحيانا إلى هذه الأرض ليباركا هنديا أثناء صيامه(6).
عمد ليفي ستروس إلى حزم مجموع العلاقات في أعمدة وهي طريقة تكشف لنا على معنى ودلالة المجموع ومدى ارتباطه بالنظام الاجتماعي والنظم القرابية التي نبعت منها كما يلي:
أعاد ليفي ستروس أجزاء الأساطير إلى ترتيبها وذلك في سلسلة أعداد خطية، وحاولنا السير على حذوه وتطبيق ذلك على النموذج المدروس كما يلي : 4.3.1.1.4.3.4.2.2.1، أما إذا أردنا جمع الأعداد في جدول فسيكون ذلك كما يلي:
بملاحظة الجدول السابق والذي يضم مجموع العلاقات يتبين لنا أن كل ثنائي من الأعمدة مرتبط بالتناقض، أما العمود الثالث فهو يعالج صراع البشر مع الأشباح والتي كثيرا ما صورت الأساطير عالمها ونسجت الحكايات الخرافية أهوالها وخوف الإنسان من كل ذلك، كما يعالج ظاهرة المسخ والتي تشير إلى قدرة الإنسان على التحول من صورته الآدمية إلى هيئة حيوان، أما العمود الرابع والأخير فهو على طرف نقيض أيضا بسابقه ذلك أنه يعمد إلى إثبات آدمية الإنسان وذلك من خلال عودة شبح ابنة زعيم القرية والذي سيكون ممهدا لظهورها على صورتها الآدمية، فتاة من دم ولحم كما أنجبت ولدا ورغم إثبات عملية المسخ إلى ذئاب إلا أن هذه الأخيرة تبقى ذات أصول بشرية مرتبطة بعالمها الأرضي وتصر على العودة إليه أحيانا وممارسة طقوسها الدينية وذلك بزيارة الهندي ومباركته أثناء صيامه.
لقد أشرنا سابقا إلى كتاب ليفي ستروس الموسوم ب : “بالميثولوجيات” وهو على أربع أجزاء درس من خلاله فكرة الإنتقال من الطبيعة إلى الثقافة بدءا من الطبخ والذي يعتبره واجهة لا يمكن الاستغناء عنها في كل مجتمع وذلك بالتآلف بين النيئ والمطبوخ والمتعفن، حيث يرى أن المطبوخ يعتبر تحولا ثقافيا للنيئ بينما يعتبر المتعفن تحولا طبيعيا ” وينطلق ستروس من بعض نماذج جاكابسون الصوتية وخاصة تلك التي يقدمها العالم اللغوي على شكل مثلثات ليبني هيكلا نموذجيا لنظام الأغذية في المجتمعات التي تسمى بدائية”(7).
كما يميز ستروس بين الشواء والمسلوق، ويرى أن الأول “يتعرض للنار مباشرة بينما يعتبر المسلوق بعيدا عنها بدرجتين فالماء الذي يغلي فيه والإناء الذي يحتويهما معا ولهذا يمكننا أن نقول أن المسلوق يعتبر استخداما ثقافيا مركبا”(8).
أما الجزء الثاني من الكتاب فعنونه بـ: ” من العسل إلى الرماد” وبنى أفكاره هنا على التقابل بين العسل والتبغ ويرى أن أحدهما يكمل الآخر، فالأوّل منبثق أصلا من الطبيعة بينما يتطابق الثاني مع اندماج الثقافة مع الطبيعة، ويتناول في الجزء الثالث والذي عنونه بـ: “أصل آداب المائدة” “ويبين هذا الجزء كيف أن الانتقال إلى الثقافة يتجلى في الأساطير بواسطة أخلاق تتعلق بآداب المائدة وتربية النساء والزواج”(9). وحلل في الجزء الرابع من نفس الكتاب التقابل بين العري الذي يمثل الطبيعة ويتم الانتقال إلى الثقافة هنا عن طريق المعاملات والتبادل التجاري… الخ وعنون هذا الجزء بـ: “الإنسان العاري”.
انتهج ليفي ستروس في دراسة الأساطير على تفسير أسطورة بأساطير أخرى وذلك بالرجوع إلى أسطورة واحدة يطلق عليها تسمية الأسطورة المرجعية(Mythe de référence) فبدل الغوص في عقد مقارنات بين عناصر الأسطورة الواحدة والتخمين في الأصول الأولى التي تعود لها، تتبع طريقة ومنهجا عمد فيه إلى تحديد كل أسطورة بمجموع رواياتها الثابتة وذلك بالرجوع إلى ثلاثة مبادئ كالآتي:
1 ــ تحتمل الأسطورة الواحدة عدة قراءات إذ لا توجد قراءة واحدة لها ولابد من الربط بين هذه التفاسير.
2 ــ يشترط الباحث هنا عدم تفسير كل أسطورة على حدى، ولابد من النظر إليها ككل، ومن هنا يتكون المبدأ الثالث والذي يقوم على :
3 ــ عدم جواز تفسير مجموعة من الأساطير وإنما بالعودة إلى:
” أ ــ مجموعات أخرى من الأساطير.
بــ ــ اثنوغرافية المجتماعات التي جاءت منها الأساطير”(10).
وبذلك فستروس ينطلق في تحليله على الأسطورة المرجعية ويستنجد في ذلك بالسياق الانثوغرافي، ثم يعمد إلى عقد مقارنات مع أساطير أخرى في نفس المجتمع كما ينتقل إلى أساطير أخرى في مجتمعات أخرى شريطة وجود روابط حقيقية بين هذه الأساطير سواء أكانت تاريخية أو جغرافية.
الهوامش:
1 ــ أحمد زغب : الأدب الشعبي ـ الدرس والتطبيق ـ مطبعة مزوار، ط1، الوادي، 2008، ص 13.
2 ــ المرجع نفسه : ص 14.
3 ــ نبيلة إبراهيم، قصصنا الشعبي من الرومنسية إلى الواقعية،ص 30.
* le Paradigme :et un ensembles des formes diverses appartenant au même mot, la rousse de poche p 474.
4 ــ عبد الحميد بورايو : منطق السرد، ص 31.
5 ــ المرجع نفسه :ص 31.
6 ــ جون ستروك: البنيوية وما بعدها ( من ليفي ستروس إلى دريدا)، تر :محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت،1978،ص 43ـ45.
7 ــ صلاح فضل: نظرية البنائية، ص 157.
8 ــ المرجع نفسه:ص 157.
9 ــ الطاهر وعزيز: بنيوية كلود ليفي ستروس ، مطبعة فضالة، المغرب ، د ت ، ص 10.
10 ــ المرجع نفسه:ص 120.
المصدر: مجلة دليل الكتاب http://www.dalilmag.net