الكتاب بالفرنسية: Le Proche et le Lointain – Un Siècle D’Anthropologie Au Maroc
ترجمة عنوان الكتاب بالعربية: القريب والبعيد- مئة عام من الأنثروبولوجيا في المغرب
الكاتب: حسن رشيق
مكان النشر : ستانفورد – كاليفورنيا
الناشر : Editions Parenthèses/ Maison Mediterraneenne des Sciences de l’Homme (MMSH)
تاريخ النشر : 2012
عدد الصفحات: 272
عرض: يحيى بن الوليد*
-1-
كان الباحث الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق (1945- ) قد أمضي عشر سنوات (1983-1993) بين ظهراني ثلاث قبائل مغربية من الأطلس الكبير تضم 300 عائلة ، وذلك لفهم مظاهر وظواهر من حياتها اليومية وعلي نحو ما تجسد في ممارسات طقوسية وتطبيقات قربانية في غاية من ” التعقيد” و “الرمزية” . عاد بعد ذلك للعمل في المدينة التي كبر فيها وهي مدينة الدار البيضاء، وفي إطار من الاقتناع بأن «الوضعية الإثنوغرافية» لم تتغير في العمق بالمغرب .
درس رشيق، أكان من قبل أم من بعد، ومن «وجهة نظر أنثروبولوجية محكمة»، موضوعات ذات صلة بإشكالات «غرائبية» مثل «الأضحية »و«الطقوس» و«الرحل»…وإشكالات أخرى تـُخفف من حدّة «الغرائبية »(Exotisme) أو تبتعد عنها، مثل موضوع «التحوّلات الاجتماعية
في الوسط القروي» و«استعمال الهويات الجماعية» و«أشكال وديناميات الإيديولوجيات الإثنية والوطنية» و«أشكال المثاقفة مع الغرب». في هذا الصدد يمكن أن نحيل إلى دراساته الأساسية المكتوبة باللغة الفرنسية: Sacré et sacrifice le Haut Atlas (المقدس والأضحية في الأطلس الكبير بالمغرب(1990)، و Le Sultan des autres, rituel et politique dans le Haut Atlas (سلطان الآخرين ــ الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير) (1990) (1)، و Usages de l´indentité amazighe au Maroc )استعمالات الهويةالأمازيغية بالمغرب) (2006). إضافة إلى دراسات متفرقة، بعضها متضمن في كتب جماعية .
يقول رشيق إنه منذ أن وضع حدًّا لتنقلاته الميدانية (ابتداء من سنة 1992)، عاد إلى «أسلافه» (من الأنثروبولوجيين) لكي يقرأ نصوصهم بـ «طريقة أخرى» .في هذا السياق، يمكن أن نفهم كتابه القريب والبعيد ــ مئة عام من الأنثروبولوجيا في المغرب الذي ركـّز فيه على الأعمال المهمة والتأسيسية التي كتبها الأنثروبولوجيون الأجانب عن المغرب في ما بين سنتي 1880 و 1980 ، ما دام أن أقدم كتاب بهذا الصدد يعود نشره إلى سنة 1884. لذلك يمكن التشديد، ومنذ البداية، على أن العمل كبير وشاق في الوقت ذاته، وهو ما يستلزم نظرة تركيبية مضبوطة وعدة منهجية محكمة، وعلى النحو الذي لا ينفي عن العمل «طابعه الإشكالي» و«سنده النقدي.»
-2-
يخصّ رشيق الكتاب بمقدمة تفصيلية أوّل ما يلفت الانتباه فيها ما يمكن اعتباره «خلفية معرفية مرنة »للدراسة، ولاسيما بخصوص موضوع في حجم موضوع الأنثروبولوجيا التي كثيرًا ما نُظر إليها نظرة لا تخلو من «شك» في ضوء السياق التاريخي الذي برزت فيه، أكثر، وهو سياق الاستعمار أو سياق خطاطة «النحن والآخرون». وتتضاعف حدّة مثل هذه النظرة بالنسبة إلى «أبناء العالم الثالث» ممن خضعت بلدانهم للاستعمار، ولاسيما على مدار الفترة الممتدة بين سنتي 1914 و 1931 التي لم تبق فيها أرض غير مستعمَرة .
الظاهر أن صاحب الكتاب حاول، ومنذ نص المقدمة، عدم تأطير التعامل مع الأنثروبولوجيا في إطار من تلك النظرة التي تردّ كل شيء، في العالم العربي، إلى الاستعمار، والربط بالتالي، وعلى صعيد المعرفة والوجود، ما بين الأنثروبولوجيا والإدارة الاستعمارية. هذا فضلًا عن كون الأنثروبولوجيا« تعميمية واختزالية» في نظرتها إلى الثقافة المغربية، إضافة إلى أنها «تسمح برؤية أشياء وتغييب أخرى»، وهو ما يلغي جانبًا من «التعددية النظرية» (2) التي تطبع الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية بصفة عامة. إلّا أن ذلك لا يحول، وعلى صعيد النظرة ذاتها، دون الإقرار بـ«سياق الهيمنة »الذي تبلورت فيه الأنثروبولوجيا، والأخذ، تاليًا ،بالاستعمار باعتباره «حادثًا تاريخيًا مفصليًا» في تاريخ الكثير من الشعوب، وخصوصًا من ناحية التفكير في «القطيعة» مع العصور الوسطى من أجل الانتماء إلى «الأزمنة الحديثة» (3).
و«حدث الاستعمار» هذا هو ما جعل صاحب الكتاب يعتمد خطاطة أو ترسيمة ثلاثية تشمل «المرحلة ما قبل الكولونيالية» و«المرحلة الكولونيالية» و«المرحلة ما بعد الكولونيالية» ، وهي ترسيمة منهجية وتصورية في الآن ذاته ما دامت تسعف على نوع من «جرد التفصيل »وفي المدار ذاته الذي يسعف على الكشف عن «طرح» صاحب الكتاب الذي ينتمي بدوره إلى «المطبخ الأنثروبولوجي»؛ هذا وإن كان، وبسبب من «بنية الكتاب» كما ينبغي أن نضيف، قد أرجأ هذا الطرح إلى الخاتمة. وقبل أن نخوض في الفكرة الأخيرة، تجدر الإشارة إلى أن الدارس يمثّـِّل (أو «يختار» بلغته) للمرحلة ما قبل الكولونيالية بكل من شارل دو فوكو وأوغيست موليراس وجورج سالمون وميشو بلير وإدموند دوتي وإدوارد وسترماك، فيما يمثّل للمرحلة الكولونيالية بكل من إيميل لاوست وروبير مونتاني ولويس برونو وجورج هاردي وجاك بيرك. أمّا المرحلة ما بعد الكولونيالية، فيمثّل لها بكل من إرنست غيلنر وجون واتربوري وكليفورد غيرتز .والمؤكد أن عدد الأنثروبولوجيين والمستفيدين من الأنثروبولوجيا وفي سياق العلوم الاجتماعية ككل، ومن الذين اشتغلوا على المغرب، أكبر كثيرًا من العدد الذي اعتمده الباحث. ولهذا يقول هذا الأخير: « وهذا العدد، المحصور نسبيًا، أملي علينا من قبل مقاربتنا التي ترغب في أن تكون أكثر كثافة» (ص22).
ومن وجهة نظر «سوسيولوجيا المعرفة»، يجد الدارس ذاته معنيًا بالموضوعات ذات الصبغة «الغرائبية»، كموضوعات «القبائل» و«الطقوس »و«الأضحية» و«الترحال»… جنبًا إلى جنب موضوعات أخرى أقل غرائبية، مثل موضوع «الحركة الوطنية» و«الأيديولوجيات السياسية .»وهذا ما يفرض عليه التركيز على أنثروبولوجيين دون سواهم، لكن مع الانفتاح على أنثروبولوجيين آخرين وفي السياق ذاته الذي يخدم «تكثيف القراءة»… كل ذلك في المدار ذاته الذي لا يفارق تعريف الأنثروبولوجيا كدراسة للثقافات الأجنبية (Etrangers) ( ص 8)
-3-
حتى نعود إلى موضوع «الخطاطة» السالفة الذكر، ومن وجهة نظر «سوسيولوجيا المعرفة» فإن «التمييز لا يعني الانفصال». وتفيد دراسة «القريب والبعيد»، وقبل البحث في ما يصل ما بين المراحل الثلاث، أن أهم ما ميَز المرحلة ما قبل الكولونيالية هو «المعرفة» الملتبسة بـ«الاستكشاف»(Exploration) («استكشاف المغرب»)، هذا بالإضافة إلى الصعوبات التي كانت تعترض رحلة السفر والبحث عن «المادة الإثنوغرافية»، وهو ما كان يفرض ضرورة الاحتماء بـ«الزطاط» (تبعًا للتسمية المتداولة وقتذاك)، وهُم من العارفين بالطرق والقادرين على التصدي لقطاع الطرق، خصوصًا أن أربعًا أو خمسًا من مجموع ست قبائل كانت تابعة لـ«مغرب السيبة» تمييزًا له من «المغرب» الذي كان خاضعًا لـ«المخزن»، كما يشير إلى ذلك شارل دوفوكو( Ch. De Foucauld) في مقدمة كتابه استكشاف المغرب. وكان اعتماد هؤلاء ضروريًا ،وبما في ذلك حتى داخل المناطق «الخاضعة » أو «التابعة للمخزن» كما يقول شارل دوفوكو نفسه في كتابه «استكشاف المغرب»(4) الذي يعدّ من الكتب الأولى والأساسية في «المرحلة ما قبل الكولونيالية» والممهِّدة ــ في الوقت ذاته ــ لـ «المرحلة الكولونيالية » .
أمّا المرحلة الثانية، فقد خفّت فيها صعوبات التعاطي مع المهنة، مثلما لاح في أفقها البحث الميداني بسبب من الهيمنة الناجمة عن «علاقات القوة» أو دعم الإدارة المباشر والسافر، وهو ما أتاح للأنثروبولوجي أكثر من هامش للتحرّك وملاقاة الأهالي دونما «تقنع» (Déguisement) كما كان يحصل في المرحلة ما قبل الكولونيالية ،أكان في شخصية «يهودي» كما بالنسبة إلى دوفوكو أم في شخصية «درويش» كما بالنسبة إلى المخبر محمد بن الطيب الذي اعتمده أوغيست مولييراس(A. Moulières )في صوغ كتابه المغرب المجهول (1895). فالتنكر في شخصية يهودي أو شخصية مسلم يبرهن على استحالة إقامة مسيحي صلات مع الأهالي (ص 21)، إضافة إلى استحالة قبوله من قِبل المجموعات المدروسة. أمّا بالنسبة إلى أنثروبولوجيي «المرحلة الكولونيالية»، فقد بدأ المغرب يصير «مألوفًا» لهم حتى داخل البوادي .وينبغي ألّا يغيب عن ذهننا تحوّل آخر حصل في المرحلة الكولونيالية، ويتمثّل في نوع من التحوّل من نقل الاهتمام بالقرية إلى المدينة وعلى النحو الذي أفضى إلى التعاطي مع موضوعات جديدة كليًا مثل «ميلاد البروليتاريا» و«الدعارة الكولونيالية»… إلخ (5).
أمّا المرحلة ما بعد الكولونيالية، فتميـّزت بدخول أنثروبولوجيين أنغلوساكسونييّن بالخصوص في الإطار الذي أعلى من «الأنثروبولوجيا التأويلية »مع جيلين. وهؤلاء، كما يلخص الدارس ،لا علاقة لهم بالاستعمار، يأتون بين الفينة والأخرى، وبمنح، إلى المغرب لتمضية العُطَل ويبقون سنة بكاملها (وأكثر) للبحث برفقة زوجاتهم وطلبتهم. هؤلاء لهم مسار آخر، وتجربة أخرى مخالفة، ذلك أن «مغرب ما بعد الاستعمار » سيسمح بهذا النوع من الدراسات. وفي هذا السياق أحدث الباحث البريطاني إرنست غيلنر(E. Gellner) تحوّلًا في الأنثروبولوجيا بالمغرب (ص 163)، وكما أثرى الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز( C. Geertz) – وبفريقه الهائل من الباحثين – البحث الأنثروبولوجي بشأن المغرب (6).
المؤكد أن العلاقة مع «المنجز الغربي» حول «النحن ،» ومن قِبل المفكرين والمثقفين والكتّاب في العالم العربي، لا تزال، وفي نماذج كثيرة منها، قائمة إمّا على «الاستعارة» وإمّا على «الرفض». وفي كلتا الحالين يظل الغائب الأكبر هو «التأصيل» الذي تتأكد «دلالاته» من خلال «التناص الموجب» مع المنجز الغربي (الفرنسي، تعييناً) وفي إطار من التفكير في تأكيد «التنوع الإنساني» الذي دافع عنه مؤرخ الأفكار تزفتان تودروف في كتابه نحن والآخرون (7).
في الحقيقة يختار حسن رشيق التعامل مع المنجز الأنثروبولوجي من خارج أي دائرة من دوائر «الثقافة المغلوبة»، وهو ما يحصر التعامل نفسه في مربع «التوتر» الذي يبلغ حد «الدرامية» مع المنجز الغربي. ولذلك، يتصوّر الدارس أنه سيكون من باب الاختزال والخطأ النظر إلى الأنثروبولوجيا الكولونيالية كمجرد انعكاس بسيط للأيديولوجيا الكولونيالية وكعامل مساعد لـ «سياسة الهيمنة .»
الأعمال الكولونيالية المنجزة حول المغرب ،كولونيالية أكانت أم غير كولونيالية، تندرج ضمن تقاليد نظرية مختلفة لها أسئلتها ومعجمها ورهاناتها الخاصة (ص 15). وليس نشازًا أن يتكئ مؤلف على أفكار سيئة وعلى مصالح غير محمودة ويتمكن، في مقابل ذلك، أو بشكل مفارق (Paradoxal)، من إنتاج معرفة سليمة. كما أنه ليس استثناء أو نشازًا أن يتمكن باحث، على الرغم من أحكامه المسبقة الاستشراقية، الكولونيالية أو غير الكولونيالية، من تقديم أوصاف ملائمة وحقائق جزئية حول المجتمعات المدروسة (ص 12).
والدارس لا يدعو إلى «القطيعة» باعتبارها موقفًا جذريًا، أو لا يدعو حتى إلى «النزعة التصحيحية »باعتبارها موقفًا وسطًا، فالأساس هو الإقرار بـ«أفضال» بعض الأنثروبولوجيين والتعلم منهم .ومن الجلي، كذلك، أن يعالج الأنثروبولوجيون المجتمع المغربي من زاويا نظر مختلفة. وليس كونهم كولونياليين هو الأهم، وإنما الأهم هو المفاهيم والنظريات التي اعتمدها كل واحد منهم لفهم الثقافة المغربية . ويركـّز الدارس على أنه حاول أن يفهم لماذا كتبوا بهذه الطريقة، وما هي الشروط المعرفية التي اعتمدوا عليها، أهمية الكتاب نابعة من هذا الأساس، لأنه يسعى إلى تفكيك بنية قرن من الأنثروبولوجيا في المغرب، ولأنه يبحث في «الغطاء المعرفي» الذي اعتمده الأنثروبولوجيون من أجل فهم تكوُّن المجتمع المغربي، وفهم بنية اشتغاله، أبهدف معرفي أم بهدف كولونيالي. لقد أنجز هؤلاء أبحاثًا مهمة ولا يمكن الاستغناء عنها في سياق فهم الثقافة المغربية والروح المغربية والذهنية المغربية والمزاج المغربي والإسلام المغربي… إلخ.
ثمة فكرة في غاية من الأهمية في التعامل مع المنجز الأنثروبولوجي، وتتحدد في عدم الاكتفاء بـ«التقليد النظري» فقط أو بـ«المحددات النظرية» كما ينعتها الدارس؛ فهناك ما يسمّيه «الباحثَ القاطن أو المقيم» الذي ظهر خلال الفترة الاستعمارية. و«مدة الإقامة» هي بمنزلة معيار في النقد والتقويم. وثمة أيضًا مفهوم مركزي في الكتاب، يستوعب مفهوم «الإقامة»، وهو ما يسمّيه الدارس «الوضعية الإثنوغرافية» للباحث الأنثروبولوجي. ومعنى ذلك أن هذه الوضعية لا تتحدّد من خلال «المحددات النظرية» فقط، وعلى أهميتها البالغة، ما دامت تحمي الأنثروبولوجيين من السقوط في «الإثنوغرافيا الهاوية»، فهناك «المحددات الاجتماعية» أيضًا. وضمن المحددات الأخيرة يقع هذا، بالإضافة إلى محدِّد «الإقامة» الذي سلفت الإشارة إليه.
إن الفكرة تفرض ذاتها، في نظرنا، حتى بالنسبة إلى المرحلة ما بعد الكولونيالية؛ فعمل مثل بازار صفرو لغيرتر، وعلى الرغم من منحاه النظري المحكم، لا يُفهَم بمعزل عن «الإقامة»، إن لم نقل «الانغراس» بين الأهالي. فـ «الوصف الكثيف» الذي اعتمده لا يمكن أن تكون المعرفة/ النظرية مصدره. هناك أيضًا «الملاحظ» الذي كان يستعين بفريق عمل، وضمنه الفوتوغرافي. ومن قبل، ثمة «منهج الملاحظة بالتعايش» الذي حاول دوفوكو أن يعكس المجتمع المغربي من خلاله. وفي ضوء هذا المنهج تظاهر هذا الأخير بـ«التعايش» مع المغاربة على الرغم من أنه لم يكن مقتنعًا بإمكانية ذلك، وهو ما يؤكده حسن رشيق أيضًا.
ثمة معيار آخر في التعاطي مع المنجز الأنثروبولوجي، في أفق الإقرار باستخلاص الطابع الكولونيالي، ويتصل بالتمييز داخل الإطار النظري ذاته، وعلى النحو الذي يتكشف بموجبه نوع من «الانقسام» على صعيد الإنتاج الأنثروبولوجي، وعلى النحو الذي يبدو الأنثروبولوجي بموجبه أيضًا «ساقطًا بين كرسيين»، إذا جاز المثل الفرنسي، كرسي «الموظف» الذي يخدم «المشروع الأيديولوجي الاستعماري» عن طريق تقديم النصائح للإدارة الاستعمارية، وكرسي «الباحث» الذي يرتبط بالمعرفة الأنثروبولوجية على الرغم من سياق الاستعمار الذي يتحرّك في إطار منه.
ولا يبدو غريبًا أن نبحث في مكانة «النظرية الانقسامية» (Théorie de la segmentarité) التي أثارت، ولا تزال، نقاشًا واسعًا – وحادًّا – في «الأنثروبولوجيا المغربية» و«المغاربية» بصفة عامة، ومن قِبل باحثين، أكان في حقل الأنثروبولوجيا على نحو ما فعل عبد الله حمودي، أم في السوسيولوجيا على نحو ما فعل عبد الكبير الخطيبي أو في التاريخ على نحو ما فعل عبد الله العروي أو في حقل «التحليل الثقافي» (لكي لا نقول النقد الأدبي) على نحو ما فعل محمد مفتاح في أثناء معالجته موضوع «الخطاب الصوفي» في المغرب. بل إن النظرية ناقشها، ومن منظور نقدي، مستشرقون وأنثروبولوجيون أجانب كما هو الشأن بالنسبة إلى جاك بيرك وغيرتز.
ولا يبدو غريبًا أيضًا أن يُضاعَف التشديد، في أثناء النقاش، على البريطاني غيلنر. ويبيـنِّ رشيق أن هذا الأخير وجد في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ومرة واحدة، ما يوافق مزاجه واختياراته النظرية (ص 163). وقد أحدث غيلنر تحولًا في الأنثروبولوجيا في المغرب، كما أسلفنا، مع رشيق نفسه؛ المغرب الذي صار، كما يشهد غيرتز، جنة بالنسبة إلى الباحثين الغربيين (ص 163). وكتاب غيلنر شرفاء الأطلس (Saints Of Atlas)(1969) ، الذي هو مدار النظرية الانقسامية، الكتاب الأكثر إثارة للجدل في الأنثروبولوجيا في المغرب؛ كتاب مشكوك فيه، كما تمّ استهدافه في سياق محدّد هو «سياق فك الاستعمار والبناء الوطني» (ص 178).
ربما يطول بنا، وفي منظور الكتاب ذاته، تتبّع كيف أن غيلنر وجد في مفهوم الانقسامية ما هو أكثر مواءمة من الديمقراطية (ص 165) . لذلك، يهمنا أكثر كيف يلخـصِّ الكتاب النقاش حول النظرية وما هي – بالتالي – «إضافته» مقارنة بمن ناقشوا النظرية من قبل (8). وقبل ذلك، ينبّه الدارس إلى أنه يميـٍّز بين تصوَّرين أو نوعين من النقد: الأول يركز على «لامواءمة النموذج» للوقائع المدروسة، والثاني يبحث في «اللامواءمة» ذاتها (كما يمكن أن نؤوّل) لكن في إطار من الأسس النظرية ذاتها التي انبنى عليها النموذج (ص 178). والظاهر أن غيرتز لخـصّ جانبًا من الإشكال عندما قال «غيلنر جاء المغرب بنظرية جاهزة باحثًا فقط عن توضيحها»(ص 179).
-4-
يخلص الباحث إلى خلاصات تخص «سياسة الأنثروبولوجيا» من ناحية صلة «النموذج» بـ«الواقع»، ومشكلة «التعميم»، أو «سياسة المعرفة» بتعبير شامل، ويختم بـ«الغائب» في «البحث الأنثروبولوجي» بالمغرب في دلالة على «مجال تحركـِّه».
على المستوى الأول، ينتهي إلى أن النموذج الذي يكون مجرد استنساخ للواقع ليس نموذجًا. وسيكون من العبث، كما يواصل، أن نطلب من نموذج مقترَح من مؤلـِف، أن يستغرق أو أن يترجم مجموع ما «يميـِّز» المغاربة. وكان دوفوكو قد أكـّد في استكشاف المغرب (1888) صعوبة الحديث عن «طبع »(Caractère) المغاربة مقارنة بموضوعات أخرى مثل لغاتهم وعاداتهم ولباسهم… إلخ. وأهم ما يلفت في كلام دوفوكو، كما يمكن أن نضيف، هو أن المغربي لا يختلف عن المغربي فقط، وإنما يختلف عن ذاته أيضًا (9). وبما أن النموذج لا يترجم الواقع، وجدنا حسن رشيق يقترح نموذجًا يجعل واقعًا مركّبًا مفهومًا وواضحًا. في هذا الإطار ينتقد، وبلغة مفهومية كثيفة، مختلف صيغ التعميمات المعتمدة (ص 245) . الأهم، أو جوهر المشكل، وفي نظر الدارس دائمًا، كامن في «المحيط السوسيو ثقافي». وهذا الأخير هو في بلد مثل المغرب مركّب وغير متجانس بدوره.
بصفة عامة، إن مفهوم الثقافة باعتبارها مجموع ملامح تمييزية لمجموعة (قبيلة، إثنية، شعب، أمّة) هو ما يشكـِّل، في منظور الدراسة، موضع بحث وسؤال. وفكرة «تشكـُّل عام» يـُنظم ويـُدمج بطريقة منسجمة مجموع ملامح مجموعة، هي فكرة مطمئنة ومغرية جدًا، لكنها اختزالية وخطاطية أيضًا. ويقفل الدارس كتابه بفكرة أو بنقد جريء نصه هو أنه خلال سنوات التسعين أُنجزت دراسات أنثروبولوجية كثيرة حول المغرب، وضمنها جزء مهم أنجزه مغاربة، بعد أن وُجِّهت من خارج قالب أو قاعدة «شعوب وثقافات» ومن خارج فكرة عالم صنيع كليات ثقافية متمايزة. وغاية الدارس من الفكرة هي أن يخلص إلى أنه حصل نوع من التعامل المبسـّط مع مشكلة التعميم بعد أن أُرجعت إلى مجموع المغاربة (ص 251) .
تفضي بنا الفكرة الأخيرة، إلى جانب ما يفضي بنا في الوقت ذاته إلى «منهج المقارنة»، إلى أن هناك نوعًا من التراكم بخصوص البحث الأنثروبولوجي في المغرب، وهو ما يجعل هذا الأخير قابلًا لأن يراجع ويدرس ويحاور في حدود ما يسمح به حجمه. لذلك، يهمنا أن الفكرة الأخيرة، وبتركيزها على «الثقافي» أو «المنفذ الثقافي» إذا جاز ذلك، لا تخلو من «غمز» لعبد الله حمودي. ونتصور أن طبيعة الخاتمة مماّ لم يُسمح للدارس باستحضار هذا الأخير، وإلّا لما كان في إمكاننا الاطّلاع على هذا النقد من جانب عبد الله حمودي ذاته في دراسة حسن رشيق المتضمنة في كتاب الأنثروبولوجيا في الوطن العربي (10). وهذا ما يتطلب بحثًا مستقلًا؟
إن كتاب القريب والبعيد لا يخلو من أهمية بالغة يمكن تأكيدها من خلال انتساب الباحث إلى المطبخ الأنثروبولوجي، وهو ما جعله عارفًا ومطلعًا على «النص العام» الذي فرض عليه التركيز على «النصوص الأساسية» في هذا المطبخ. وقبل ذلك تجدر الملاحظة إلى أن الباحث لا يخفي تشديده على «المعرفة الأنثروبولوجية» في حد ذاتها بالنظر إلى طبيعة الموضوعات أو الظواهر الاجتماعية التي تدرسها مثل موضوع السحر والشعوذة وزيارة الأضرحة والدعارة… إلخ. وهي موضوعات تحقّرها عادة «الثقافة العالـمِة» بل «الناس» ذاتهم، مثلما يحقّرها رجال السياسة والمثقفون أنفسهم. هذا مع أن دور العلوم الاجتماعية كامن في تحليل الواقع المحلي وتعريته بصرامة ومن دون تشف في الوقت ذاته. ولعل هذا ما يندرج في نطاق ما عبـَّرنا عنه، ومن خلال دراسة مستقلة، بـ «المسكوت عن المسكوت عنه» في الفضاء المعرفي العربي ككل(11). وإنجاز أبحاث في هذا المجال تستلزم، علاوة العدة المعرفية والمسؤولية الأخلاقية، الانتظام في مؤسسات وأكاديميات ومراكز بحث.
بقيت فكرة لم نُشر إليها هي «اشتراط» رشيق الأساس الأكاديمي في العطاء الأنثروبولوجي، وعلى نحو ما يتجسد من خلال استخدام النظريات والتصورات، بما في ذلك داخل الأعمال الميدانية ذاتها في اشتغالها على ثقافات معيّنة، وعلى النحو الذي يضمن للأنثروبولوجيا – ومن ناحية موازية – مكانها في الحقل العلمي والأوساط الأكاديمية. والمؤكد أن تصورًا من هذا النوع لابد من أن يستبعد أشكالًا من الآداب (الرحلات مثلًا) لامست، بدورها، وبطرائقها المخصوصة، موضوعات ذات صلة بما تهتم به الأنثروبولوجيا. والسؤال الذي يفرض ذاته، هنا، وفي إطار من «التخصص الأنثروبولوجي» ذاته، هو التالي: ألا نلمس كثيرًا من «النثر» (الأنثروبولوجي، تعييناً) في تحليلات غيرتز؟ وقبل ذلك، ألا نلمس النثر ذاته في كتابات شيخ الأنثروبولوجيين كلود ليفي سترواس؟
كتاب القريب والبعيد الذي نأمل أن نكون قد حاورناه وفي المدار ذاته الذي لا يفارق عرض أهم أفكاره، وفي «الحيز المعرفي» الذي عادة ما تتيحه مجلات العلوم الاجتماعية المحكّمة، هو من الدراسات التي قلما يجود بها الزمن المعرفي، أكان في المغرب أم في العالم العربي ككل. لذلك، لا يمكن للباحثين في الأنثروبولوجيا والنقد الثقافي، وغير ذلك من الفروع والتخصصات المعرفية، الاستغناء عنه. ولا أجد ما أهو أدق من توصيفه بـ«القراءة النبيهة والمقرّبة» (12) لقرن من الأنثروبولوجيا في المغرب. والكتاب، وعلاوة على ما سلف، من الكتب الداعمة لما يُصطلح عليه بـ«البنى التحية» في دنيا البحث الفاتنة في العلوم الاجتماعية. هذا وإن كان ينبغي التفكير في أعمال أخرى سعت إلى الانخراط في الموضوع ذاته، أكان من منظور «التأريخ النقدي» أم من منظور «إعادة الصياغة».
الهوامش
- ظهر الكتاب، في الترجمة العربية، تحت العنوان التالي: حسن رشيق ،سيديشمهروش: الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير، ترجمة عبد المجيد جحفة ومصطفى النحال (الدار البيضاء:دار أفريقيا الشرق ،2010).
- بخصوص «التعددية النظرية» في «النظرية الاجتماعية » انظر:إيان كريب ،النظرية الاجتماعية:من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم؛ مراجعة محمد عصفور ،عالم المعرفة؛ 244( الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ،1999).
- أعمال المؤرخ المفكر المغربي عبد الله العروي من الأعمال النقدية والتأسيسية في هذا الموضوع.
- عبد الأحد السبتي ،بين الزطاط وقاطع الطريق:أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، سلسلة المعارف التاريخية (الدار البيضاء: دار توبقال ،2009)، و Vicomte Ch. de Foucauld, Reconnaissance au Maroc: 1883-1884, les introuvables (Plan-de-la-Tour: Ed. d’Aujourd’hui, 1985), p. 80.
- انظر :
Robert Montagne. Naissance du prolétariat’. marocain: Enquête collective exécutée de 1948 à 1950. cahiers de l’Afrique et l’Asie; 3 (Paris: Peyronnet, 1952), et Jean Mathieu et P.-H. Maury. Bousbir: La Prostitution dans le Maroc colonial, ethnographie d’un quartier réservé, éd. et présenté par Abdelmajid Arrif. Entre rives (Aix-en-Provence: IREMAM: Paris: Paris-Méditerranée, 2003).
وقد قامت ” دار الأمان” ( المغربية) بإعادة نشر الكتاب في طبعة ظهرت في سنة 2011.
- انظر، في هذا الصدد، مقدمة الترجمة الفرنسية التفصيلية:
Daniel Cefaï. «Le Souk de Sefrou: Analyse culturelle d’une forme sociale.» (introduction), dans: Clifford Geertz. Le Souk de Sefrou: Sur l \économie de bazar, trad. et présentation de Daniel Cefaï. collection intérieurs du Maghreb (Saint-Denis: Bouchène. 2003).
- Tzvetan Todorov. Nous et les autres: La Réflexion française sur la diversité humaine, la couleur des idées (Paris: Ed. du Seuil. 1989).
وقد صدرت ترجمته بالعربية عن دار المدى، بيروت ، 1998.
- Foucauld, p. 157.
- أبو بكر أحمد باقادار وحسن رشيق ،الأنثروبولوجيا في الوطن العربي، حوارات لقرن جديد (بيروت: دار الفكر العربي ، 2012 ) .
- يحيى بن الوليد،«المسكوت عن المسكوت عنه »،القدس العربي ،13/9/2013.
- التعبير الاصطلاحي لإدوارد سعيد، انظر: إدوارد سعيد ،الأنسنية والنقد الديمقراطي، ترجمة فواز طرابلسي (بيروت: دار الآداب ،2005)، ص 14.
[*]جامعي وأكاديمي من المغرب، باحث في قضايا التراث والنقد الثقافي.