كتاب “ليفي ستروس” لموريس غودلييه

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن (سلسلة ترجمان) كتاب “ليفي ستروس” لموريس غودلييه وترجمة نصير مروّة. يقع الكتاب في 700 صفحة.

يتناول في قسمين، من خلال دراسته أهم مؤلفات كلود ليفي ستروس، مجالَي القرابة والأساطير؛ فيعرض في الأول نظم القرابة والزواج حول العالم وخصوصًا عند قبائل السكان الأصليين، فيصنفها ويحللها ويقارن بينها، ويرى أن المشترك بينها هو مبدأ واحد: تبادل النساء، أو

الهبة. ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تحليل الأساطير عند السكان الأصليين،ولا سيما في قارتي أميركا وأوقيانوسيا، ويربطها بمحاولة هذه الشعوب تفسير نشوء الكون والإنسان والطبيعة والظواهر المرتبطة بها، ثم يخلص إلى أن ثمة عملياتٍ للعقل البشري تنتج هذه الأساطير وفق ترسيمات تحكمها معادلة واحدة ابتكرها ليفي ستروس، سمّاها المعادلة الأم للأساطير.

لقد تمكن غودلييه من تطوير فهم أعمال كلود ليفي ستروس؛ كونه كان مساعدًا له، فشكّل كتابه هذا سبرًا لأعماله ودراسة نقدية لأفكاره وتطورها، ومرجعًا لا غنى عنه لطلاب ليفي ستروس، والباحثين في الأنثروبولوجيا البنيانية عمومًا.

البنى الأولية للقرابة

استرجع كتاب ليفي ستروس مسيرة الرجل من خلال زوايا ثلاث: الطموح، والمنهج، والنتائج. فأما الطموح، فقد كان واضحًا منذ المنطلق: بلورة نظرية عامة في القرابة في ثلاث مراحل وثلاثة كتب.

القسم الأول من البرنامج أُنجِز مع كتابة البنى الأولية، أما الاثنان الباقيان، فقد أُنجِزا جزئيًا على صورة مقالات وكتابات تتالت على امتداد سيرته. وقد بتنا نعرف اليوم المعايير التي أفضت بكلود ليفي ستروس إلى تصنيف نُظُم القرابة كافة في تلك الحقبة في فئتين. أوليّةٌ هي النُظُم التي تقضي بالزواج بين بعض أنماط الأقارب، ومن ثم تقسيم هؤلاء إلى أقران ممكنين وأقران محرّمين.

وإذا كان الزواج ممنوعًا من بعض الأقارب، وكان هذا المنع ينطبق على نحو متزامن على الأفراد والجماعات كافة التي تكوِّن المجتمع، يكون من الجلي عندئذ أن هؤلاء الممنوعين هم متاحون لآخرين. بذلك يصبح التبادل ممكنًا وضروريًا. وإن تحريم غشيان المحارم/ التبادل/ الزواج الداخلي – الزواج الخارجي هي عناصر في “بنية” حاضرة في كل نظام قرابة.

يجند كلود ليفي ستروس المفاهيم التي استنتجها وعرَفها من زاوية نظرية واضحة لتحليل نُظُم القرابة الموجودة. الاستنتاج الأول يدور حول الفرق في الطبيعة بين أبناء وبنات الخال والعمة وأبناء وبنات العم والخالة، الأولون يُسمَح التزاوج بينهم، أما الآخرون فلا. ويعمد ليفي ستروس، متسلحًا بهذه المجموعة من المفاهيم الحاضرة أصلًا في الأنثروبولوجيا قبل أن يعيد هو تعريفها، إلى التصدي لتحليل النُظُم الأسترالية على التوالي، من تلك التي تستند إلى الأشكال المباشرة لتبادل النساء في كنف عالم مقفل مكون من اثنتين، وأربع، بل ثماني مجموعات تبادلية تدعى نصفيات وفروعًا وفروع فروع. ثم يطرح معادلة الممنوعات المصوغة بعبارات ذاتية المركز [متمحورة على الذات]، وممنوعات أخرى مصوغة من زاوية مجتمعية المركز [متمحورة على المجتمع]، بحب انتماء الأشخاص إلى فرعٍ أو إلى فرعِ فرعٍ مختلف.

إن ما جاءت به البنى الأولية للقرابة من تغييرات هائلة في المنظورات؛ لا سيما أن التحليلات كانت تستند إلى تبحر واسع مؤسس على معرفة بالمعطيات التجريبية، وعلى النقاشات التي راكمها خلال أكثر من نصف قرن علماء الأنثروبولوجيا في العالم الأنكلوسكسوني: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأستراليا. لكن شيئًا من هذا لم يكن متوافرًا في فرنسا ولا في أوروبا. فإنما هو ليفي ستروس من أنشأ القاعدة الضرورية لعمل الباحثين الذين سيخلفونه.

أما الموجة الثانية من الابتكارات الأساسية، فقد أطلقها في “محاضرة هكسلي التذكارية السنوية”، التي ألقاها في عام 1965 أمام نخبةٍ من علماء الأنثروبولوجيا الأنكلوسكسونيين. وقد أعاد كلود ليفي ستروس تسمية النُظُم التي يطلق عليها اسم كراو – أوماها، التي وعد منذ البنى الأولية أن يهتم بها ذات يوم، باسم “البنى نصف المركّبة”، فحذف منها كل النُظُم التي توصي بالزواج من واحدة فقط من بنات الخال والعمة، هي ابنة الخال، والتي كانت تصنَّف حتى ذلك الوقت بصفتها نُظُمَ كراو – أوماها.

حينما كتب كلود ليفي ستروس سبيل الأقنعة (1975)، وجد نفسه يواجه صعوبتين سبق أن صادفهما فرانز بواس على الرغم من مرور عقود من المعاينات والمشاهدات القيّمة في محاولته توصيف نظام القرابة لدى أقوام الكواكيوتل، صانعي ومستخدمي الأقنعة الرائعة التي كان ليفي ستروس مولعًا بها. وقد شرع الرجل في حل المشكلة حين تراءت عنده موجة ثالثة من الابتكارات النظرية في حقل القرابة.

بدأ كلود ليفي ستروس رحلة حول العالم، عبر عشرات الدراسات التي قام بها علماء أنثروبولوجيا ومؤرخون، لكي يجد أمثلة على مجتمعاتٍ “ذات بيوتات”. وبانتقاله من إندونيسيا إلى مدغشقر، مرورًا بميلانيزيا وبولينيزيا، اكتشف الكثير، وتخيل البعض القليل. أحد الأوجه المهمة لتلك الرحلة هو أنها كانت رحلة في الزمان أيضًا، وأن أعمال مؤرخي القرون الوسطى الأوروبية أو القرون الوسطى اليابانية هي التي أرشدته إلى الطريق. حوارٌ جديد وتعاونٌ جديد أصبحا ممكنين بين مؤرخين وعلماء أنثروبولوجيا.

ولا ينبغي لنا أن ننسى كذلك أن كلود ليفي ستروس قد كتب إبان حياته، على فترات زمنية غير منتظمة، ثلاث مقالات ليبرهن وجود ما سماه في عام 1945 “ذرّة القرابة”، في هذا النظام أو ذاك من نُظُم القرابة.

الأساطير والفكر الأسطوري

خلافًا لدراسة نُظُم القرابة التي لم تشهد في فرنسا إبان النصف الأول من القرن العشرين أي تطورٍ مهم منذ إميل دوركهايم، فإن دراسة الأساطير والنظم الدينية سجلت الكثير من التقدم مع كلٍ من مارسيل موس وروبرت هرتز ومارسيل غرانيه ولوي جيرنيه وجورج دوميزيل.

كان مارسيل موس قد تساءل مع دوركهايم عن طبيعة النُظُم التصنيفية لبعض الشعوب التي يُطلق عليها اسم البدائية، وذلك قبل أن يستأنف كلود ليفي ستروس العمل على هذا الموضوع بنصف قرن، ويدفع بالتحليل في كتاب الطوطمية اليوم إلى أبعد ما كان قد وصل إليه بكثير. مع ليفي ستروس، سوف يحقق تحليل الأساطير والفكر الأسطوري قفزة جبارة. فأعمال ليفي ستروس سوف تسجل، كما يشدد جان بيير فرنان، تواصلًا ثم قطيعة ثم نقطة انطلاق جديدة بالنسبة إلى أسلافه، من موس إلى جورج دوميزيل.

أعاد كلود ليفي ستروس تأكيده مراتٍ عدة منذ مقالة عام 1955 “الدراسة البنيانية للأسطورة”، وفي عام 2001 في الطبعة الأخيرة من كتاب منقريب ومن بعيد. فقد أفاد في الواقع من أعمال دوميزيل ليبرهن على أن “المنهج التاريخي ليس مباينًا البتة للموقف البنيوي” وذلك بالرجوع إلى أحد كتبه من عام 1949، الإرث الهندو – أوروبي في روما. كما أن كتابه الآخر، لوكي، كان قد برهن على نحوٍ مرموق على أن الشخصية التي تتحدث عنها الوثائق المستفادة من آيسلندا وإيرلندا والقوقاز والهند هي ذاتها الشخصية التي كانت لا تزال لغزًا حتى ذاك، حيث أمكن دوميزيل أن يربط دورها وتجلياتها ببعض السمات النوعية للتنظيم الاجتماعي للأقوام التي كانت قيد الدراسة.

أما القطيعة، فقد أدى إليها اللجوء المنتظم إلى فكرتين جديدتين، هما البنية والتحول. وكان يرد دائمًا ذكر الفكرة الأولى، أما الفكرة الثانية التي لم تنبثق من المصدر ذاته، فغالبًا ما كان نصيبها النسيان. فكرة البنية هي فكرة استُعيرت من الألسنية البنيانية التي بدأها فرديناند دو سوسور وطوّرها نيقولاي تروبتسكوي ورومان جاكوبسون الذي كان ليفي ستروس قد صادقه في نيويورك. ومعنى هذه الفكرة بادئًا، هو أنه “ليس للعناصر المكونة لنظام من النظم من معنى ذاتي؛ فمعناها ينجم عن موقعها”، وأنه لا بد من أجل الفهم العميق لحكاية منعزل البَردايمات المضمرة في سلسلة التركيب التعبيري للحكاية. في ظل هذه الشروط، سرعان ما وعى ليفي ستروس أن البنية لا تُختزَل بالنظام؛ “فهذا الأخير مجموعة تتألف من عناصر ومن علاقات توحدها. ولا بد لكي يمكن الكلام عن بنية من أن تظهر علاقات ثابتة بين العناصر والعلاقات لمجموعات عدة، بحيث يمكن العبور من مجموعة إلى أخرى عبر تحول”. وسرعان ما ظهرت له فكرة التحول بوصفها فكرة “ملازمة للتحليل البنياني”. والحال أنه لم يستعر هذه الفكرة من المناطقة وإنما من الباحث في البيولوجيا والرياضيات الاسكتلندي دارسي ونتورث طومسون الذي أدى بالنسبة إليه “دورًا حاسمًا”.

شرع كلود ليفي ستروس في تحليل بضعة آلاف من الأساطير الصادرة عن الهنود الأميركيين الجنوبيين والشماليين. وكان حصاد النتائج العلمية عظيمًا، وسبق لنا أن أحصيناه عددًا؛ فلقد جرى بادئًا تبيان هيكلية منطقية في داخل الأساطير قوامها علاقات تضادّ (ثنائية أو سوى ذلك) واستخدام رموز مختلفة لبث الرسائل وتنقيح الرموز. وينبغي أن نضيف تعريف الوحدات المكونة إلى الأساطير بصفتها باقات من العلاقات التمايزية، ثم وضعها قيد العمل بترسيمات ذات وظيفة مزدوجة، منطقية ودلالية.

سلك كلود ليفي ستروس في ما عنى الأساطير، كما سلك بالنسبة إلى بنى القرابة: البحث عن عمليات الفكر الضالعة في إنتاج علاقات ووقائع اجتماعية (صيغ زواج، وأساطير وشعائر، وغير ذلك) والبقاء على مقربة من المعطيات الإثنوغرافية والتاريخية؛ ولأنه سلك هذا المسلك، فإنه جعلها تقفز قفزة كبرى في دراسة بعض الأوجه الأساسية لحياة البشر وفهمها.