كتاب تاريخ الإنسان حتى ظهور المدنيات:دراسة في الأنثروبولوجيا الفيزيقية والثقافية
تأليف: د. أسامة عبدالرحمن النور ود. أبوبكر يوسف شلابى الجا
النشر: دار فاليتا – مالطا -1995
يمثل هذا الكتاب بحثاً دراسياً تمهيدياً أعد ليلبى حاجة طلاب الجامعات العربية الدارسين للعلوم الاجتماعية، وكذلك رغبة القارئ المهتم بقضايا الأنثروبولوجيا بصورة عامة. ينطلق الكتاب من طرح إشكالية محددة يمكن تلخيصها في الآتي: إذ لم يتسن لنا نحن بنو الإنسان الخروج من بداية الرئيسات فهل كان من الممكن لنا أن نطور ثقافاتنا؟ وإذ لم يكن أسلافنا قد طوروا ثقافاتهم فهل كان من الممكن لنا أن نطور شكلنا الفيزيقي ليصل إلى ما نحن عليه الآن؟ من ثم فإن هذا الكتاب يمثل محاولة لتقديم المعلومات الأساسية والأفكار الرئيسة التى تقوم عليها الأنثروبولوجيا بفرعيها الفيزيقي والثقافي- الاجتماعي إجلاءً للغموض الذى يكتنف تاريخ بني الإنسان.
المعضلة الأولى في تناول تاريخ الإنسان ترتبط بإشكالية تحديد عمر الجنس البشرى. يقود البحث في تاريخ الإنسان للبحث عن التاريخ الذى تفرعت فيه فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان عن غيرها من الفصائل في رتبة الحيوانات العليا من الثدييات. أنه لما تجاوزت الكائنات الشبيهة بالإنسان نقطة التفرع تلك لم يعد أمامها غير أحد احتمالين: إما أن تصبح بشرية أو أنها تعجز عن البقاء. وفي واقع الأمر فإنَّ الصنف الوحيد من فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان الذى استمر في البقاء هو جنس الإنسان، والنوع الوحيد من جنس الإنسان الذى استمر في الوجود هو نوع الإنسان العاقل عاقل (الآدمي).
يطرح الكتاب سؤالاً شائعاً لخصه آرنولد توينبي في كتابه ” تاريخ البشرية” قائلاً:” هل يمكن لنا أن نحدد بداية لتاريخ الإنسان باللجوء لواحدة أو أكثر من خصائصه التشريحية المميزة؟ هل يكون ذلك ممكناً عن طريق تتبع تاريخ عاداته وإنجازاته المميزة؟ هل يجوز القول بأن تاريخ بني الإنسان يستمد بداياته من لحظة ظهور كائنات تمارس حياة أرضية لا شجريَّة الطابع؟ هل يستقيم افتراض بداية تاريخ بني الإنسان عندما اكتسبوا القدرة على المشي والركض على قدمين محررين أطرافهم الأمامية لأغراض أخرى غير المشي عليهما؟ هل بدأ تاريخ الإنسان عندما نما دماغه لا من حيث أنه أصبح أكبر حجماً من بقية الكائنات الشبيهة بالإنسان فحسب، بل أصبح أكثر تنظيماً بازدياد عدد الأساليب البديلة فيما بينها؟ أم هل لنا أن نؤرخ لتكون الطبيعة الإنسانية بالنسبة للوقت الذى حقق فيه الإنسان إنجازات معينة مثل التجمعات ومثل اللغة؟ أم ترى أن تاريخه يبدأ منذ أن تعلم كيفية الاحتفاظ بالنار مشتعلة مستخدماً إياها لأغراض التدفئة والطبخ؟ أم ترى أنه يفضل استبعاد كل تلك الفرضيات لمصلحة فرضيَّة مغايرة ترفض أن تؤرخ لظهور الإنسان انطلاقا من خاصة تشريحية، أومن تحقيق إنجاز معين، وتطرح بديلاً يرى في الوعي الحدث الذى يعلن عن بداية تاريخ الإنسان؟ قراءة تاريخ الوعي، وفق هذه الفرضية، ممكنة فقط من البقايا المادية التى خلفها أسلاف الإنسان الأوائل. ومن ثم فإن الإمكانية المتوفرة هي أن نخمن تاريخ الوعي في حدود التطور التشريحي لبني الإنسان واكتسابهم منجزات اجتماعية وتقنيات معينة. أم علينا أن نرفض كل ذلك لنقول مع القائلين باعتماد الكتابة بداية لتاريخ الإنسان؟”. سعياً للوصول إلى إجابة ذات معنى لهذا السؤال قام المؤلفان بتقسيم الكتاب إلى أبواب وفصول راعيا فيها ضرورة الالتزام بتواتر منطقي للأفكار. تناولا في الفصل الأول من الباب الأول المفهوم العام للأنثروبولوجيا وتاريخ نشوئها علماً مستقلاً قائماً بذاته، وأهدافها وتطبيقاتها. كما أنهما أشارا إلى علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى. واضح أن الهدف من هذا الفصل هو تعريف الطالب، الدارس للأنثروبولوجيا للمرة الأولى، بالمصطلحات والمفاهيم الأساسية لهذا العلم. في الفصل الثاني من ذات الباب تناول المؤلفان الأنثروبولوجيا بوصفها دراسة تتعلق ببني الإنسان وأسلافهم من الرئيسات.
هنا أشار الكتاب إلى الفرعين للأنثروبولوجيا: الأنثروبولوجيا الفيزيقية التى هي دراسة لبني الإنسان نوعاً حيوانياً تهتم أساساً بالتنوع الإنساني وتطور الإنسان؛ والأنثروبولوجيا الثقافية التى هي دراسة لما تعلمه الإنسان حتى يتسنى له التكيف مع بيئته. وتتم الإشارة في هذا الفصل إلى حقول مختلفة متخصصة في الأنثروبولوجيا الفيزيقية تشتمل علم الوراثة المقارن، والنمو والتقدم، ودراسة الأشكال القديمة للإنسان اعتمادا على العظام المتحجرة (علم الاحاثة)، وعلم العظام الإنسانية، وعلم الرئيسات. ويشير الكتاب إلى أن البحث عن البقايا الثقافية لبني الإنسان القدماء يكون عبر التنقيب وهى مهمة ينهض بها علماء الآثار الذين ينقسمون بدورهم إلى مجموعتين: التاريخيين وما قبل التاريخيين. ويعمل علماء الآثار التاريخيون في دراسة بقايا المدنيات القديمة، ويعمل آخرون منهم في دراسة مراحل أكثر حداثة، وفي بعض المواقع المعاصرة، وفي التنقيب في أعماق البحار والمحيطات.
ويعمل علماء آثار ما قبل التاريخ من جانبهم في مواقع تمتد على مدى زمني متسع للغاية بدءاً من تلك المجتمعات التى لم تتعرف على الكتابة والموجودة حالياً في بعض أجزاء العالم، وانتهاءً بتلك الخاصة بالكائنات الشبيهة بالإنسان والتي يرجع تاريخها إلى بضع ملايين من السنين. وبرز في الآونة الأخيرة توجه جديد لدى علماء آثار ما قبل التاريخ يتمثل في التأكيد على منهج علمي أكثر صرامة وفي التأكيد على دراسة المجتمعات المعاصرة تمكيناً لهم من تفسير أحداث الماضي. ويعالج المؤلفان في هذا الفصل مصطلحين لهما المعنى نفسه: الكائن الشبيه بالإنسان والإنسان. تعريف المصطلح الأول قريب من تعريف الثاني، لكن الأخير شمل ظاهرة المخ المعقد القادر على إنجاز التفكير المجرد والاتصال عبر الرموز والثقافة.
وفي الفصل الأول من الباب الثاني يشير المؤلفان إلى أن مفهوم التطور كما نعرفه اليوم من الممكن تتبعه مباشرة إلى التطورات في الفكر المستنير على مدى الثلاثمائة سنة الأخيرة بخاصة إسهامات كل من لينايوس، ولامارك، وبوفون، ولييل، ومالتوس الذين تركوا بصماتهم على عمل شارلس داروين. ويمثل عام 1859 حداً فاصلاً بالنسبة لنظرية التطور، ففي ذلك العام بلور عمل داروين “أصل الأنواع” العملية التطورية (بخاصة فيما يتعلق بالدور الهام للاصطفاء الطبيعي). واستمرت المجادلات داخل الأوساط العملية وخارجها لعدة حقب ولازالت تدور في بعض الأركان. لكن نظرية التطور غيرت جذرياً مد الفكر المستنير. أخذت تركيبات شارلس داروين للعملية التطورية تجد تقبلاً تدريجياً من قبل العلماء بوصفها أساساً لكل العلوم البيولوجية بما في ذلك الأنثروبولوجيا الفيزيقية. وتساعد إسهامات علماء الوراثة في القرن العشرين في التدليل على ميكانيزم التطور بطريقة لم يعرفها داروين ولا المعاصرون له. إن الاصطفاء الطبيعي هو العنصر المركزي الحاسم الذى يؤثر على النزعة طويلة المدى للتغير التطوري. ويمكن تفسير الكيفية التى يعمل بها الاصطفاء الطبيعي نجاحاً تفاضلياً نهائياً في إعادة الإنتاج.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب الثاني يتعرض المؤلفان إلى النوعين من الخلايا: الجسدية والجنسية، تتكون من الأولى أجسامنا بينما تقوم الثانية فقط بنقل المعلومة الوراثية. وتنقسم الخلايا الجسدية عبر الانقسام الفتيلي (الميتوزي) لتنتج خليتين متماثلتين تماماً ومتطابقتين مع الخلية الأم. وتنقسم الخلايا الجنسية مرتين عبر الانقسام المُنصف (الميوزي) لتنتج أربعة أمشاج. ويعرف الانقسام المُنصف بأنه انقسام اختزالي لأن العدد الثنائي للصبغيات (46) يُخفض للعدد الفردي (سلسلة كاملة من 23 صبغية). هناك 23 زوج للصبغيات في الخلية الإنسانية، صبغيتان في مواقع متشابهة منها 22 زوج تسمى متماثلة والزوج الثالث والعشرون هو الصبغيتان الجنسيتان. وتكون المعلومة الوراثية محتواة في الحلزون المزدوج للحمض الريبى النووي منقوص الأكسجين (دنا DNA). وتؤخذ المعلومة الوراثية من النواة إلى السيتوبلازم عن طريق الحمض الريبوزي النووي الرسول (رنا الرسول RNA ).
وتقوم الريبوسمات في الخلية بترجمة رنا الرسول، وتجذب نيوكليتيدات رنا الناقل التى تقوم بدورها بنقل الأحماض الأمينية إلى الريبوسمات لتشكل سلسلة متعدد البيبتيدات (أو السلاسل) الحمضية الأمينية التى هى البروتين الذى يؤلف معظم بنية الخلية ويقوم بمعظم الوظائف الأيضية للخلية. وليست الجينة وحدة مباشرة، لكنها تتابع منتظم لكودونات “دنا” التى تحدد السلسلة المعينة للأحماض الأمينية. ويتم استخدام المعادلة (جينة واحدة = سلسلة متعدد بيبتيدات واحدة) في تعريف الجينة في بعض الحالات.
وبعد أن يكون المؤلفان قد أكملا الدورة كلياً حيث انطلقا في الفصل الأول من الباب الثاني بمناقشة التطور بالحديث عن السكان حيث يحدث التطور تحديداً يعودان للقول بأن السكان يتكونون من من كائنات حية منفردة، وتتألف الكائنات الحية من خلايا، وتحتوى الخلايا على صبغيات، وتتكون الصبغيات من حمض دنا. ويتأتى فهم الميكانيزم الفعلي للعملية التطورية فقط بعد إدراك كل تلك المستويات المختلفة للتنظيم وهو ما يشرعان في معالجته في الفصل الثالث من هذا الباب الثاني.
أما الفصل الأول من الباب الثالث فيكرسه المؤلفان لمعالجة “التنوع الإنساني” الذى يقسمانه إلى جزأين هما التصنيف السلالي، والسلالة والسلوك. ويشير المؤلفان إلى أن مسار دراسة السلالة اتجه في السنوات الأخيرة من تطوير تصنيفات تقوم على أساس المناخ والجغرافيا إلى استخدام علم قياسات جسم الإنسان (الأنثروبومتريا)، إلى تطبيق المبادئ التطورية والوراثية. ويوضحان بأن العديد من علماء الأنثروبولوجيا وعلماء آخرون في الوقت الراهن يعتقدون بأن مفهوم السلالة لم يعد أداة بحثية صالحة وبالتالي لا طائل من ورائه. ومن ثم فإن المؤلفين ناقشا في هذا الفصل إشكالية السلالة والسلوك من وجهة نظر اختبارات الذكاء. فأشارا إلى أن ينسين وآخرون قد أكدوا في السنوات الأخيرة على العلاقة المتبادلة بين السلالة والذكاء وحاولوا دعم وجهة نظرهم بالاستناد إلى النتائج المتوصل إليها من اختبارات الذكاء. لكن المؤلفان يقولان بأن قيمة اختبارات الذكاء معياراً أوحداً للذكاء دون اعتبار للظروف البيئية مسألة يثار حولها الكثير من اللغط، ويشيران إلى أن الرأي الغالب يرى أن اختبارات الذكاء لا تشكل أداة صالحة لقياس الذكاء إذ أن البيئة تؤلف عنصراً له وزنه، وأنه لا يجوز قبول الوراثة سبباً رئيساً للتنوع السلالي في الذكاء. ويرى المؤلفان أنَّ هذا الجدل إنما يؤكد على الطبيعة الثنائية لبني الإنسان. فالوراثة والتطور الإنساني لا معنى لهما، في رأى المؤلفين، بدون اعتبار لعناصر البيئة المماثلة، وأنَّ البيئات الإنسانية كانت لوقت طويل ثقافية. وفي هذا الفصل نفسه ناقش المؤلفان العنصرية بوصفها ظاهرة ثقافية يدعى البعض بأنها ترجع بجذورها إلى عامل الوراثة، وهو ادعاء لا يجد من البينات ما يدعمه (لمزيد من التفصيل انظر: تطور الإنسان عمليَّة بيولوجية ثقافية). في الفصل الثاني من هذا الباب الثالث حاول المؤلفان تتبع التاريخ التطوري لأصول الإنسان التى ترجع للرئيسات بين 10-70 مليون سنة.
كان أسلاف الرئيسات المبكرة بدءاً من الدهر الكريتازي المتأخر أكثر من مجرد آكلي حشرات تكيفوا مع حياة شجرية. وفي عصر الباليوسين تأخذ في الظهور نزعات أكثر تحديداً للرئيسات مع الاحتفاظ بالعديد من السمات “البدائية”. وفي عصر الإيوسين اللاحق يلاحظ تنوع الرئيسات حيث يأخذ في الظهور أشباه التيمور والأسلاف المبكرين للتارسير ليبدأ بزوغهم التطوري. وإلى ذلك التاريخ، على ما يبدو، ترجع الأصول المبكرة للأنتروبويد. وفي العالم القديم يكشف عصر الاوليجوسين عن عدد كبير من الأسلاف المحتملين للأنتروبويد في الفيوم.
أما الميوسين فيكشف عن مركب هائل لأشكال البشريات التى تنقسم إلى مجموعة أفريقية مبكرة (قرد الأشجار) ومجوعة آسيوية لاحقة في الأساس (قرد الراما). وفي الوقت الذى تقل فيه البينات التى تربط تلك الأشكال من المتحجرات مع القردة العليا ومع بني الإنسان، فإن بينة نسبية تشير إلى ارتباط قرد الراما بعلاقة مع أسلاف الاورنجوتان. أين إذن أسلاف القردة العليا الأفريقية أو حتى أسلاف بني الإنسان؟ هذا الموضوع حاول المؤلفان معالجته في الباب الرابع من الكتاب. في الفصل الثالث من الباب الثالث حاول المؤلفان توضيح حقيقة أن الطبيعة الثنائية البيولوجية الثقافية لتطور بني الإنسان تتطلب بالضرورة اختبار كلا المعلومتين البيولوجية والثقافية على حد سواء. ومن ثم فإنَّ التناول الباليوأنثروبولوجي (علم الإنسان القديم) يتميز بتكامل علوم مختلفة ويربط بين تخصصات علمية عديدة بهدف التوصل إلى إعادة تركيب البنية التشريحية للبشريات المبكرة وسلوكها وبيئاتها.
بالتالي فإن هذه المهمة تتمركز حول مهارات كل من علماء الجيولوجيا، الباليوأنثروبولوجيا، والباليوإيكولوجيا، والآثار، والأنثروبولوجيا الفيزيقية. ويأتي الكثير مما نعرفه عن أصول الثقافة الإنسانية بين مليون ومليوني سنة مضت من أعمال التنقيب الآثارى التى قادتها مارى ليكى في منطقة خانق أولدواى بشرق أفريقيا. وقد جعل التواتر الاستراتيجرافي الموثق جيداً والحالة الجيدة الحفظ للمخلفات في خانق أولدواي، إلى جانب التقنيات المختلفة المستخدمة للتأريخ، مصدراً عظيماً للمعلومات الباليوأنثروبولوجية. وقد أعطت المواقع التى تم التنقيب فيها في المنطقة ثروة من عظام الحيوانات المتحجرة بالإضافة إلى مواد صنعية تعكس سلوك البشريات. وتشير إعادة التركيب الايكولوجية لمواقع الإقامة والغذاء بنوع من التفصيل للعملية التطورية المؤثرة على السكان المبكرين من البشريات. ويمتلك علماء الآثار إمكانيات أكثر لتفسير العظام والحجارة” الخاصة بالسكان المبكرين وذلك من خلال التجارب. وقد تم تسليط الكثير من الضوء في السنوات الأخيرة على تقنيات صناعة الأدوات وعلى العناصر التى تؤثر على صيانة العظام. ويستخدم علماء الأنثروبولوجيا بالإضافة التقنيات الخاصة بعلم الآثار للمساعدة على توسيع إدراكنا للسلوك المعاصر عبر التحليل المنتظم للفضلات.
وفي الفصل الأول من الباب الرابع يتناول المؤلفان بالدراسة البشريات التى تمشى على قدمين وتمتلك مخاً صغيراً والتي تم الكشف عن بقاياها في جنوب أفريقيا. أكدت اكتشافات ريموند دارت وروبرت برووم على حقيقة الطبيعة الفسيفسائية للتطور الإنساني. لقد كانت القردة الجنوبية بحق بشريات كما يتضح ذلك من تفاصيل الحوض، والأوصال، والقدمين، والعمود الفقري. بالإضافة تؤكد بينة الجمجمة والأسنان هي الأخرى على السمات البشرية لتلك الأشكال. وتنقسم القردة الجنوبية إلى مجموعتين رئيستين: القوى والنحيف ويتم التمييز بين المجموعتين على أساس حجم الجسم ونسب الأسنان.
وأدت محاولات التمييز بين المجموعتين إلى ظهور عدد من النظريات ناقش المؤلفان ثلاثة منها في هذا الفصل: نظرية أُحادية النوع، ونظرية الفرضية الغذائية، ونظرية الفرضية القائلة بجنس واحد لكن نوعين. ويشير المؤلفان إلى أن لكل من تلك النظريات ما تقوله، لكنهما يشيران إلى أن المبادئ البيولوجية الملائمة تجعل من النظرية الأخيرة أكثر موضوعية ومعقولية في الوقت الراهن. ومن ثم فإن هناك، في رأيهما، على الأقل نوعين من البشريات عاشت في جنوب أفريقيا في مرحلة ما قبل البليستوسين: القرد الجنوبي الأفريقي (النحيف) والقرد الجنوبي القوي. ونظراً لغياب كرونولوجيا معتمدة لهذا النوع من المعلومات فإنه تصعب الإجابة على الكيفية التى تدخل بها متحجرات البشريات تلك في مخطط للتطور الإنساني متماسك. لهذا النوع من المعلومات لا بدَّ من الالتفات إلى شرق أفريقيا حيث فرضت الاكتشافات التى تمت خلال الثلاثين سنة الماضية إعادة تقييم كاملة لمجمل المكتشفات السابقة من جنوب أفريقيا.
ومن ثم سعى المؤلفان في هذا الفصل إلى توضيح أن شرق أفريقيا احتوى على العديد من مواقع البشريات ما قبل البليستوسينية على امتداد فترة من حوالي خمس مليون سنة مضت حتى حوالي مليون سنة مضت. وقد خلق الكم الهائل من المواد المتحجرة للبشريات ما قبل البليستوسينية في كل من جنوب أفريقيا وشرقها إثارة عارمة إذ كلما تمَّ الكشف عن بينة جديدة رافق ذلك بروز أسئلة أكثر من الإجابات. وقد تمت في هذا الفصل مناقشة بعض التعقيدات الإضافية: (1) الوجود المستمر للقرد الجنوبي الأفريقي في شرق أفريقيا المتزامن مع القرد الجنوبي النباح والإنسان المبكر؛ (2) الإنسان المبكر المعاصر للقردة الجنوبية في جنوب أفريقيا؛ (3) الظهور المبكر في حوالي مليون وستمائة ألف سنة مضت في شرق أفريقيا للإنسان منتصب القامة؛ (4) بشريات ما قبل البليستوسين خارج أفريقيا. ويشير المؤلفان إلى أن المحاولات التى جرت لتفسير كل تلك الاختلافات الملحوظة في المادة المتحجرة للبشريات ما قبل البليستوسينية أفرزت عدداً من النظريات البديلة. من بين كل تلك النظريات لا يجد المؤلفان نظرية تحظى بدعم وقائعي متكامل. ومن ثم يعتقدان بأن المزيد من البينات قد يفرض على الباحثين إعادة تقييم أساسية في المستقبل. الهام في كل هذه المناقشات، في رأى المؤلفين، هو الطريقة التى تستخدم بها مواد البشريات المتحجرة للتوصل إلى استدلالات بيولوجية فيما يتعلق بميكانيزم التطور الإنساني.
وفي الفصل الثاني من الباب الرابع يناقش المؤلفان إشكالية الإنسان منتصب القامة (الذى يعرف أيضاً باسم الإنسان القردي). يمثل هذا الإنسان الدرجة الثانية من تطور الإنسان ويرتبط عادة بالبليستوسين الأوسط رغم أنه يظهر بفترة طويلة قبل ذلك التاريخ. وقد تمَّ تثبيت بداية البليستوسين الأوسط بحدود ماتوياما-برونز الباليومغنطيسية (سبعمائة ألف سنة مضت). تأتى بقايا الإنسان منتصب القامة من ثلاث قارات. ففي قارة آسيا يوجد موقعان هما جزيرة جاوة والصين. وتحتوى أوربا على ثلاثة مواقع أعطت مادة هياكل بشرية: هايدلبيرج، وفيرتسولوز، وبترالونا. وناقش المؤلفان موقعين أوربيين احتويا على مادة ثقافية لكنهما افتقدا العظام: تورالبا/ امبارونا في اسبانيا، وتيراماتا في فرنسا. وفي أفريقيا هناك ثلاث مناطق للإنسان منتصب القامة: شمال أفريقيا وشرقها وجنوبها. ويتناول المؤلفان في الفصل الثالث من الباب الرابع ظهور الإنسان العاقل للمرة الأولى في حوالي ثلاثمائة ألف سنة مضت والذي يعد بامتلاكه للسمات المميزة لكل من الإنسان منتصب القامة والإنسان العاقل نوعاً انتقاليا بين الشكلين. فقد وجد النياندرتاليون المبكرون في المرحلة الدفيئة “الإيميان”، وأعقبتهم أشكال انتقالية تطورت، في الغالب، باتجاه الإنسان العاقل الحديث تشريحياً (الذى وجد بالتأكيد في العصر الحجري القديم الأعلى حوالي أربعين ألف سنة مضت). ويظهر خلال جليد “فورم” المبكر النياندرتال المتخصص أكثر من أنواع الإنسان العاقل الأخرى وذلك في أوربا الغربية ومناطق الشرق الأدنى. وقد تم الكشف عن بقايا البشريات المعاصرة للنياندرتاليين في شمال غرب أفريقيا وشرقها وجنوبها. ويقول المؤلفان أنه حسب رأى بعض علماء الباليوأنثروبولوجيا فإن العديد من الأشكال الأفريقية يمكن عدهم من السكان الحديثين تشريحياً، وهم أقدم تاريخاً من ظهور الإنسان الحديث تشريحياً. يطرح المؤلفان في هذا الفصل الكثير من الأسئلة: ما هو خط التطور النوعي من الإنسان منتصب القامة إلى الإنسان العاقل عاقل؟ هل كان هذا الانتقال سريعاً (توازن ممفصل) أم تدريجياً؟ ما هو دور النياندرتال الكلاسيكي في تطور الإنسان الحديث تشريحياً؟ هل من علاقة بين الأفارقة الحديثين تشريحياً وبين سكان العصر الحجري القديم الأعلى في أوربا؟ هل هاجر الإنسان الحديث تشريحياً إلى أوربا ليحل، بصورة ما، محل النياندرتاليين؟ ما هى العلاقة التى تربط تقنية العصر الحجري القديم الأعلى بتقنية العصر الحجري القديم الأوسط؟ الفصل الأول من الباب الخامس خصصه المؤلفان لدراسة أصول السلوك الإنساني. بنو الإنسان هم من الرئيسات وتطوروا عنها.
من ثم يعتقد علماء الأنثروبولوجيا بأن دراسة سلوك الرئيسات من غير البشريات تساعد في دراسة أصول البشريات وتوسع من إمكانية إدراك السلوك الإنساني. وعليه قدم المؤلفان في هذا الفصل نموذجاً محدداً لأصول السلوك الإنساني كان قد طرحه الباحث لوف جوى والذي يؤكد من جانبه على عدد من الاختلافات الجوهرية بين كل من بني الإنسان والرئيسات من غير البشريات. ويرى المؤلفان أن هذا النموذج المقترح من جانب لوف جوى قد يساعد في تسليط الضوء على الكيفية التى يمكن بها استغلال الرئيسات في التوصل إلى إدراك أفضل لتطور الإنسان. يحاول لوف جوى، من جانب ثان، طرح فرضيات عن بعض المستجدات السلوكية المحددة عند أسلافنا من البشريات المبكرة. في هذا الخصوص فإن المؤلفين، برغم اختلافهما مع تلك الفرضيات، فإنهما لا ينكر أن حقيقة أن مثل تلك المجادلات تحمل قدراً من الفائدة إذ تساعد في التدليل على الكيفية التى يمكن بها استخدام النماذج المختلفة في عملية إعادة تركيب تاريخ الإنسان التطوري. وفي الفصل الثاني من الباب الخامس يتعرض المؤلفان لإشكاليات الثقافة من حيث المفهوم والتعريف والطبيعة والخصائص.
وينطلق المؤلفان من المقدمة المنطقية وهى أن الثقافة سلوك مكتسب، أي أنه سلوك يكتسب عن طريق التعلم لا عن طريق الجينات، وأن الثقافة تحتوى على روافد غير مادية مثل اللغة والفن والدين والقيم والأخلاق الخ.، أي أنها ظاهرة مكتسبة لا موروثة تشمل العادات والتقاليد والتصرفات… الأنماط السلوكية لمجموعة من الناس، طريقة حياتهم كما أنها استراتيجية التكيف الإنسانية بهدف البقاء.
يغطى الفصل الثالث من الباب الخامس طرق دراسة الثقافة، أي الفروع الجزئية للأنثروبولوجيا الثقافية. يتناول المؤلفان الفرع الجزئي الأنثروبولوجيا السوسيوثقافية والقضايا الأساسية لهذا الفرع. كذلك يلخصان موضوع البحث الآثارى من خلال تناول قضايا علم الآثار ومفاهيمه، كما ويتناولان علم اللغويات الأنثوبولوجى بالدراسة والشرح.
وفي الباب السادس ومن خلال ثلاثة فصول يدرس المؤلفان التاريخ الثقافي للعصر الحجري القديم، فيعالجان في الفصل الأول من الباب الأنماط الثقافية التى ميزت العصر الحجري القديم الأسفل، بينما يعالجان في الفصل الثاني الأشكال المبكرة للاقتصاد واكتشاف النار وظهور الاختلافات الإقليمية في أنماط التكيف في العصر الحجري القديم الأوسط.
وخصصا الفصل الثالث لعصر الإنسان العاقل عاقل الحديث تشريحياً متعرضين لنماذج التكيف في العصر الحجري القديم الأعلى. أما الباب السابع والأخير فقد قسمها المؤلفان إلى ثلاثة فصول تناولا في الأول منها التاريخ الثقافي للعصر الحجري الوسيط حيث أن العالم قد شهد منذ حوالي عشر ألف سنة مضت تحولات مناخية هائلة أدت بدورها إلى إحداث تعديلات في الجغرافيا وفي صورة المجموعات الحيوانية والنباتية. ويبدو أن تلك التحولات كانت ذات تأثيرات هامة على بني الإنسان، بخاصة على اقتصادهم المعيشي.
وقد تم التعبير عن أنماط التكيف الإنساني في مرحلة ما بعد البليستوسين في العالم القديم من خلال تقنيات جديدة، واستغلال أكثر كثافة للموارد المحلية وهى طريقة للحياة صارت تعرف باسم الميزوليتية (الحجرية الوسطية). استمرت الثقافات الوسطية في شمال أوربا في تطوير تخصصات ارتبطت بالصيد والجمع وصيد الأسماك لقرون عديدة في حين كانت الثقافات المتزامنة معها في الشرق الأدنى قد بدأت خطوات موفقة باتجاه الانتقال إلى إنتاج الطعام.. خطوات أدت إلى نشوء نمط حياتي أكثر استقراراً تميز بقدر من الاكتفاء الذاتي في مرحلة العصر الحجري الحديث وهو ما استفاض المؤلفان في مناقشته في الفصل الثاني من هذا الباب.
وفي الفصل الأخير يناقش المؤلفان نشوء المدنيات تدليلاً آخراً على أنماط التكيف ما بعد البليستوسينية التى أعقبت الإنجازات التقنية في مجال الإنتاج الزراعي للغذاء. ازدهرت المدنيات المبكرة بخاصة في السهول الفيضية على ضفاف الأنهار الكبرى: دجلة والفرات، وادي نهر النيل، ووادي نهر السند في الهند، ووادي النهر الأصفر في الصين. وأسهمت المدن، والمعمار الضخم، واكتشاف الكتابة، والتجارة، والتراتب الاجتماعي، وتطوير الفنون والعلوم في إرساء الأسس التى اعتمد عليها تراث الإنسانية الثقافي.