ورقة تقديمية لكتاب “المرض والأيديولوجيا. الشباب ومسارات التعايش مع السيدا بالمغرب”، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة إبن زهر-أكادير، 2018.
بوشعيب مجدول
يحاول هذا الكتاب الذي يقع على 340 صفحة موزعة بين مدخل عام وخمسة فصول، الدفاع عن أطروحة مفادها أن التعايش مع الأمراض المزمنة من خلال نموذج داء فقدان المناعة المكتسب، يتعدى إشكالية تدبير الأبعاد الصحية للمرض، ليجد صداه في تدبير التفاوض مع القيم والمعايير الاجتماعية التي تؤسس لها الإيديولوجيا السائدة. فالمرض، وبغض النظر عن أبعاده الطبية الصرفة، ينتج بناءات اجتماعية وسياسية وثقافية، تصبح فيما بعد إطارا عاما لا يمكن تجاوزها من أجل فهم جيد لظاهرة الصحة والمرض.
فمن خلال إعادة أطروحة ميشل فوكو، يمكن القول على أن “البيولوجي” يرتبط ارتباطا وثيقا بجهاز السلطة، وأن النظام الاجتماعي حاضر من خلال الجسد الفيزيقي، وأن السياسي يتدخل في الصحي. فإنتاج أي تمثل سياسي حول المرض يرتبط حتما بطبيعة الانقسامات المجتمعية التي يحدثها هذا المرض، ولا يمكن استيعابها وفهمها إلا من خلال إسقاطها أو ربطها بانقسامات أخرى مرتبطة بمشاكل سابقة عليها في الزمن. تظهر هذه الانقسامات والتقاطبات على مسرح الفضاء العام من خلال التعاطي الإعلامي مع المرض، حيث لا تقتصر إثارة موضوع المرض على انخراط الفاعلين السياسيين ودفعهم إلى الخوض في السجالات الإيديولوجية، استغلال للموضوع في الصراعات السياسية، بل قد يتطور الأمر بالموضوع ليصبح قضية “رأي عام”، حيث تلعب الصحافة على اختلاف أشكالها، مكتوبة أو مرئية، حزبية أو مستقلة دورا مهما في بناء واقع اجتماعي حول المرض بالفضاء العام. ولأن المرض، وخصوصا داء فقدان المناعة المكتسب، يضع كذلك في قلب تأويلاته سؤال الموت والقدر والأخلاق، فمن المتوقع أن يكون للخطاب الديني حضورا قويا في بناء تمثل ثقافي حول المرض والمصابين به ينضاف إلى البناء السياسي والمديائي ويتقاطع معهما.
حملت الفرضية الأولى للدراسة حول تمثلات المرض لخلاصة مفادها أن جل تمثلات المصابين للمرض ترتبط بالخلفية الثقافية للمجتمع والأيديولوجية السائدة التي يتم الترويج لها عبر كل الوسائط المتاحة. فحضور “الآخر” و”الأجنبي” في تمثل المرض وأسبابه وإحالة المرض “للخرافة” و”الأسطورة” كان له الأثر البارز في استبعاد فرضية الإصابة لدى العديد من الشباب. وقد يؤشر استبعاد فرضية الإصابة على غياب السلوك الوقائي لدى شريحة مهمة من أفراد المجتمع والشباب على وجه التحديد. في حين أن اعتبار المرض نوعا من “الانحراف” و”العقاب الإلهي” في التمثلات الاجتماعية يحيل على المسؤولية المباشرة للمصاب وغياب المسؤولية المجتمعية ومسؤولية المؤسسات المعنية على حفظ وسلامة صحة أفراد المجتمع.
من جهة أخرى كان لتمثل المرض وأسبابه انعكاسات أخرى ترتبط بالظروف والسياقات التي أدت لاكتشاف الإصابة. فتمثل المرض كداء لا يصيب إلا الآخر أو المنحرف، ثم الجهل بالأعراض المباشرة للمرض هو ما جعل المصابين في انتظار الوصول للحالة المرضية أو اكتشاف الإصابة لدى الشريك أو أحد الأطفال حتى يتم الانتباه لاحتمال انتقال الداء إليهم. ولعل مناخ الخوف الذي يتم بناؤه حول المرض لا يشجع على المبادرة للقيام بالفحص المبكر، رغم كل الحملات التحسيسية، ورغم التأكيد على مجانية وسرية وسرعة الفحص.
إن ثقل تمثل المرض باعتباره انحرافا أو عقابا إلهيا هو ما يفسر إلى حد كبير ردود فعل المصابين تجاه خبر الإصابة. فالخوف من الوصم والتمييز، والخوف من الموت المحتمل، والخوف من العقاب، هو ما ينتج الصدمة والإنكار والثورة على خبر الإصابة، ويؤجل بشكل ملحوظ مرحلة تقبل المرض. وكلما تأجلت مرحلة تقبل المرض والتعايش معه، كلما تعطلت إمكانية الدخول الجدي في مراحل الوقاية والعلاج. فالفترة التي تفصل مرحلة الإصابة عن مرحلة تقبل المرض يتخللها التفكير المقلق والانعزال عن المحيط، سواء الاجتماعي أو المحيط الطبي، وعدم الرغبة لدى المصاب في الحديث عن المرض. وفي هذا يتم الحديث عن فئة من المصابين تقرر الاختفاء، بحيث لا يعرف لهم أثر بعد علمهم بالإصابة، منهم من يعود بعد غيبة طويلة لطلب المساعدة بعد وصوله مرحلة المرض بما تتطلبه من استشفاء ورعاية مركزة، ومنهم من يختفي بشكل نهائي عن الأنظار، وهم مسجلون في ملفات تحت عنوان “Les perdus de vue”. ولنا أن نتصور ما يمكن أن يشكله هذا الوضع من بقاء الداء وانتشاره في دائرة الظلام وبعيدا عن أعين المراقبة والترصد.
إن محاولة السلطة المهيمنة إضفاء الشرعية عن نفسها، من خلال تعزيز بعض المعتقدات والقيم التي تتوافق مع مصالحها، ومن خلال محاربة القيم والأفكار المناوئة لها، وتعتيم الواقع بشتى أساليبها، في سبيل بناء واقع آخر يعمل على قمع وإخفاء الصراعات الاجتماعية القائمة أو المحتملة، لابد وأن يصطدم بواقع يفرضه الوباء بأبعاده البيولوجية الصرفة التي لا تحابي فكرا أو ثقافة أو أيديولوجيا. وكل محاولة من الأيديولوجية المهيمنة السباحة عكس التيار الذي يفرضه واقع الوباء سينتهي لا محالة بخلق صراعات قيمية وثقافية واجتماعية.
وإذا كانت الإصابة فرصة يكتشف من خلالها مجتمع المصابين زيف ما يتم الترويج له بخصوص المرض من خلال اصطدامهم بواقع حقيقي يختلف كليا عن الواقع المبني، فإن السؤال يبقى مطروحا حول عموم أفراد المجتمع ممن لا تزال تعتقد فيما يتم الترويج له. كيف ستعمل على حماية نفسها من الإصابة والمرض يبدو بعيدا عنها؟
وارتباطا بموضوع التمثلات وثقلها، ومن خلال الفرضية الثانية للدراسة، تبين أن حدث الإصابة، وبالنظر لخصوصيته البيولوجية والاجتماعية، لا يمر دون أن يترك أثره على المسارات الاجتماعية للمصابين، فيحولها ويعدل من وجهتها بأشكال مختلفة من حيث الحدة والكثافة، وذلك باختلاف الرصيد الاجتماعي لكل مصاب وتطلعاته المستقبلية. فكل المصابين يعترفون بطريقة أو بأخرى، أنهم “لم يعدو كما كان الحال عليه قبل الإصابة“، حيث يعبر حدث الإصابة عن نوع من الانكشاف révélation وبداية في مسلسل تغيير اجتماعي وليس حدث صحي وكفى. فالمرض بصفة عامة والإصابة بداء فقدان المناعة المكتسب على وجه التحديد، لا تعتبر منعطفا عاديا يصيب المسار الصحي لوحده، بل هو حدث يتجاوز هذا المستوى الأولي ليؤثث كل المسارات الاجتماعية الأخرى، الأسرية والدراسية والمهنية والروحية.
قد تبدو ظاهرة “المرض” طبية وصحية في أصلها، إلا أنها ظاهرة اجتماعية شمولية، تغير من علاقة المصاب بذاته وعلاقته بمحيطه كما تغير من علاقته بقيم مجتمعه، ما يؤكد أن المصاب بهذا الداء على الخصوص يجد نفسه في مواجهة “مرض اجتماعي” أو مرض يصنع له علاقة إشكالية مع ” الآخر”.
لقد قادت هذه الفرضية للتركيز على تأثير الإصابة وما تحدثه من منعطفات في مسار المصابين، إلا أنه ومن أجل تحقيق فهم جيد لمسار الفاعل/المصاب، تم تقديم فرضية أخرى حولت الانتباه نحو جل نشاطات المصابين بعد نقطة الانعطاف وفي مختلف دوائر انتمائهم الأسرية والمهنية وغيرها. وقد خلصت الدراسة إلى نتيجة تعتبر أنه مهما كانت قوة البنية والنظام الذي تفرضه الإصابة إلا أن ذلك لا يمنع الفاعل الاجتماعي (المصاب) من الدخول في مسلسل من التفاوض من أجل تهيئة موقعه الجديد داخل مختلف دوائره الاجتماعية، وانخراطه في أدوار اجتماعية جديدة أو الحفاظ على القديمة منها، ثم إعادة بناء روابطه الاجتماعية. وهذا ما عبرت عنه الدراسة “باستراتيجيات التعايش مع الإصابة“.
يأتي المسلسل المبنى على التفاوض دائما بمبادرة من المريض-الفاعل لأنه يتواجد على نقطة التقاطع بين مختلف مستويات حياته الاجتماعية. ففي كل مستوى من هذه المستويات هناك سيادة لقيم وقواعد وأدوار اجتماعية يفرضها وجود فاعلين آخرين (الأسرة، العمل، الجمعية…)، وفي كل مستوى من هذه المستويات هناك اضطراب ينتج على عملية إعادة إدماج المصاب داخلها، ولا تتم إعادة بناء جل هذه المستويات إلا من خلال مسلسل من التفاوض. إن الانتماءات المتعددة للفاعلين، تعني أن التفاوض لا يهتم فقط بموضوع الإصابة، ولكنه يدفع إلى إعادة الاستثمار على صعيد كل دوائر الانتماء بحثا عن وضعية منسجمة بشكل شامل.
يلجأ المصاب إلى تفاوض بشكل الانفرادية حينما يغيب الدعم الأسري بالخصوص، ويضطر المصاب للحفاظ على سر الإصابة داخل هذا المحيط، وهذا يقتضي منه نوعا من النضج في التعامل مع محيطه الاجتماعي وتجاوز الصراعات الهامشية في سبيل الاهتمام بقضيته المحورية التي تمثلها إصابته. وحينما يعجز المصاب في الحفاظ على علاقاته الاجتماعية القديمة إما بسبب الإصابة أو بأسباب أخرى، تشكل العزلة شكلا من أشكال التدبير الانفرادي. في المقابل قد يكون التفاوض تضامنيا أو جماعيا حينما ينخرط فيه بعض الأقارب (أزواج، أباء…) ممن يعلمون بسر الإصابة و”يتواطئون” في تدبير المصاب لحياته. كما يأخذ التفاوض طابعا تضامنيا بصحبة النظراء من المصابين من خلال تدبير سؤال الوصم والتمييز والدفاع عن كافة الحقوق المدنية. وتتطلب هذه الإستراتيجية في غالب الأحيان استقرارا أسريا، ومرونة وتفهما من المحيط القريب للمصاب.
في الأخير، يمكن أن تشكل هذه الدراسة مدخلا مهما ليس فقط لفهم الأبعاد المركبة لظاهرة المرض، ولكن لتسليط الضوء كذلك على فئات اجتماعية أخرى، مريضة أو مهمشة أو موصومة، تفاوض في صمت مع قيم المجتمع ومعاييره ومؤسساته من أجل ضمان بقائها الاجتماعي.