عنوان الكتاب: العرق والطبيعة والثقافة.. من “منظور أنثروبولوجي“
–المؤلف: بيتر ويد
–عدد الصفحات:170
–الطبعة: الأولى 2002
–الناشر: بلوتو، لندن
يأتي هذا الكتاب لبيتر ويد المحاضر في جامعة مانشستر البريطانية ليضاف إلى سجل كتاباته حول الأقليات العرقية والإثنيات.. والواقع أن الكتاب يتناول موضوعا يمكن القول إنه الآن في مرحلة التفاعل تحت السطح، أو إن الجزء الظاهر منه هو رأس الجبل الجليدي المختفي تحت مياه البحر.
فعمليا وبعد أن تبدى ولسنوات -ولا سيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية- أن المناهج التي تعتمد التقسيمات العرقية والتركيبات الجينية البيولوجية أساسا للتفريق بين المجموعات البشرية قد تراجعت. وتزايدت مؤخرا قوة اتجاه مضاد يرى أن هناك تعسفا في تقزيم أهمية البيولوجيا في فهم الظواهر السلوكية والاجتماعية.
و يرى هذا الاتجاه أن نزوع بعض العلماء والسياسيين للتلاعب في تفسير الدلالات البيولوجية لترويج أيديولوجيات وسياسات عرقية مثل النازية أدت لردة فعل مبالغة وصورة نمطية تضاهي بين الدلالة الاجتماعية والسلوكية للبيولوجيا والتركيبات الجينية والتمييز العنصري العرقي.
وتتمحور أطروحة ويد الرئيسية في الكتاب حول ضرورة مراجعة المعنى الفعلي لكلمات مثل البيولوجيا والجينات والدم والطبيعة، فهو يدعو لدراسة “طبيعة” الطبيعة، وإلى التفريق بين المعاني المختلفة لهذه السياقات في الخطاب اليومي للناس العاديين سواء الاختلاف ما بين زمن وآخر وبين مكان وآخر في العالم، لا سيما مع وجود اكتشافات علمية وبيولوجية تلقي المزيد من الضوء حول التركيب البيولوجي والجيني للإنسان، ويدعو لاعتماد مناهج البحث الأنثروبولوجي في الدراسة لأصول تطور المصطلحات والتفاعل البشري مع هذه المصطلحات
مشاركة في النقاش
والواقع أن أهمية الكتاب أنه يشارك في النقاش الجاري حول الفرضيات القائلة إن التقدم الحاصل في علم الجينات ونظم المعلومات (الحاسوب) تسمح الآن بقدر أكبر من التحكم في حياة البشر أو في تخطيطها على أسس علمية، باعتبار الجينات التي أصبح يمكن فهم خريطتها وسبل عملها بواسطة الاكتشافات العلمية الحديثة، وتعطي المجال لتقييم مهارات وقدرات البشر وبالتالي اختيار الشخص المناسب للعمل المناسب، وبناء العلاقات الاجتماعية وتكوين العائلات على أسس بحثية جينية علمية تتم في المختبرات. وهو ما قد يعني للبعض -على الأقل- عودة لنظريات النقاء والتمييز العرقي التي سادت في بداية القرن العشرين، على شكل المذاهب الفاشستية والنازية.
يراجع ويد مناهج تعريف العرق الشائعة، فبعض علماء -العرقية العلمية- في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أيدوا فكرة أن الإنسان مقسم لأعراق مختلفة، وأن هذه الأعراق مختلفة في ما بينها وبعضها متفوق على الآخر. بالمقابل ولا سيما في بدايات القرن العشرين نمت حركة أنثروبولوجية ترفض تقسيم البشر بهذه الطريقة وترفض ربط الإنجاز الفكري والاجتماعي بشكل الناس وهيئتهم الخارجية، ومن أهم قادة هذا الاتجاه كان هناك فرانز بواس، وإذ ضعفت العرقية العلمية تدريجيا فقد بقيت سندا للنظريات القائمة على الاختيار الطبيعي – البقاء للأصلح- الداعية للحد من التناسل ومن “إعادة الإنتاج” للأعراق الأقل تطورا ومن ذلك النظرية النازية.
على أنه إذا ذهبنا لفترة أقدم تاريخيا، فإن هناك اعتقادا شائعا بأن الخطاب العرقي هو ظاهرة متغيرة اجتماعيا منذ القرن الرابع عشر عندما بدأت بالتوازي مع حركة التوسع الاستعماري الأوروبي، وبنيت حول أفكار عن التشابه والتمايز بين البشر في الفضاءات الجغرافية المختلفة، مع تعريف العرق بأنه المميزات الخاصة بالشكل واللون والدم والعوامل الوراثية.
ويرى بعض العلماء، مثل أودري سميدلي، أن هذه الحركة من التمييز أخذت دفعة قوية في القرن الثامن عشر ولا سيما على يد الإنجليز في المستعمرات الأميركية والقائمة على إيجاد هوية اجتماعية لهم تميزهم عن الآخرين استنادا لاعتقادات حول الاختلاف في اللون والشكل والبنية الجسمانية.. ويرى ويد أن إرجاع تطور الخطاب العرقي للإنجليز هو بحد ذاته تحيز عرقي فيه تهميش لدور مستعمرين أوروبيين آخرين كالإسبان والبرتغاليين.. كما أن قصر الدراسة على أميركا الشمالية وأوروبا دون أماكن أخرى في العالم هو بحد ذاته تحيز
العرق.. مفهوم غير واضح
على أن ما يركز عليه ويد في الفصل الأول من الكتاب كما في مختلف أجزاء الكتاب أن مفهوم العرق غير واضح، وأن الكثير من التنظيرات عن العرقية لا تمتلك الأساس الواضح، وأن الكثير من التعريفات نزعت لاستبدال البعد البيولوجي للعرق بأبعاد ثقافية واجتماعية تخلق التمايز بين البشر وتحكم سلوكهم وتجاهلت الجانب الجسماني والطبيعي البيولوجي والجيني في فهم العرق.
يشير ويد إلى وجود أربعة مناهج رئيسة في هذا الصدد،
- الأول هو: منهج العرق وعلاقته بالفئات والطبقات الاجتماعية، وأهم مدارس هذا المنهج الفكر الماركسي الذي يرى أن من يشيع خطاب التمييز العرقي هم الرأسماليون الذين من مصلحتهم التمييز بين الشعوب لأجل تفتيت وحدة الحركة العمالية العالمية على أسس وهمية كالعرق، وضمن هذه المنهج أيضا هناك ماكس فيبر وأتباعه الذين يركزون على أن هناك في المجتمعات من يريدون خلق تجمعات ومؤسسات سياسية وبيروقراطية على أساس معين يقصي مجموعات أخرى باعتبار أن ذلك التجمع العرقي يعطيهم مجالا لتقلد أهم المناصب واحتلال مكانات مرموقة. إذن فهذا الخطاب بموجب هذا المنهج يقوم على مصالح فئة داخل المجتمع من مصلحتها خلق تفرقة بين البشر
المنهج الثاني هو منهج “العرق والقومية والجندرة” وقد يكون امتدادا للمنهج الأول، فهو يركز على أن خطاب العرق هدفه تعزيز عدم المساواة بين البشر، ومن ذلك فكر القومية والهوية الوطنية، فالقومية الإنجليزية قامت على تميز الإنسان الأبيض، وفي أميركا اللاتينية على أساس لون مختلط معين، وتقوم هذه الأفكار على أن أصحاب ميزات بيولوجية معينة هم الشيء الطبيعي وغيرهم غير طبيعي، والقومية تقوم على تعزيز هوية وطنية وإثنية تساعد على التجمع الداخلي ضد قومية أخرى، وتعتمد القومية على شمول مجموعات معينة في نوع من الوحدة وإخراج آخرين منها، وذلك بهدف منافسة قوميات أخرى وصراعها في مجالات الحداثة والحرب وغيرها، وتركز القومية عادة على إعلاء أهمية تراث معين وعلى تميز مجموعة ما بقدرات كامنة معينة، وهنا تظهر فكرة النقاء العرقي وتميز البناء الجسمي واللون كفكرة داعمة لصناعة القومية.
وتتصل بفكرة النقاء العرقي أفكار حول العلاقات الجنسية فالمحافظة على النقاء العرقي والقومي مرتبط بعملية “إعادة إنتاج البشر” مما برر تاريخيا وضع قيود على التزاوج والعلاقات الجنسية، فكانت الجيوش الأوروبية الغازية لأنحاء العالم تنظر بشكل سلبي للتزاوج مع أبناء البلاد الأصليين باعتبار ذلك خطرا على النقاء العرقي.
المنهج الثالث ويقوم على “علاقة العرق بالهوية” وتحديدا الهوية الفردية والاجتماعية التي زاد الاهتمام بها مؤخرا لأسباب متباينة منها ردة الفعل على الهويات والقواعد التي حاولت حركات الاستعمار والعولمة فرضها لاستغلال فئات لأخرى، فنشأت العديد من التجمعات التي من شأنها الربط بين بعضها وبعض بقاسم مشترك معين، فأصبحت النساء بمثابة حركة ذات هوية، وأصبح الشذوذ الجنسي بمثابة هوية، والكل يدعو للمساواة على نحو مطلق بغض النظر عن القومية والسياسة والتقسيمات العرقية المختلفة. وهذه الحركات تعتمد على أسس مختلفة لتجمعها، فبعضها يجمعها رفض المتغير البيولوجي العرقي كأساس للتجمع وتركز على أهمية الثقافة والبيئات المختلفة، والبعض بات يرفض أصلا أن هناك فروقا بيولوجية بين البشر كما سيتم الإيضاح لاحقا.
المنهج الرابع في دراسة العرق يقوم على رؤية العرق كفكرة علمية، ويقوم على بحث تطور دراسات العرق تاريخيا، وتربط هذه الدراسات بين تطور علم البيولوجيا والخطاب العرقي وصولا إلى التفريق بين الجانبين وجعل الخطاب العرقي المرتبط بالبيولوجيا من المحرمات، ويرى ويد أنه من الضروري فهم التمايز العرقي بين البشر دون أن يعني ذلك إعطاء ميزة لبشر على آخرين، وضرورة عدم المبالغة في الفصل بين الثقافي والبيولوجي
في استعراضه لدراسات علماء الاجتماع الحديثين ممن يرفضون الأثر البيولوجي على الحياة الاجتماعية يشير إلى أنهم لا زالوا رغم ذلك يستخدمون مصطلحات وإشارات بيولوجية، في المقابل فإن علماء البيولوجيا في القرن التاسع عشر كانوا يعرفون الوراثة بأنها انتقال للصفات والقدرات خلال عملية إعادة الإنتاج مع ما تطوره هذه القدرات والاحتمالات في فترة ما بعد البلوغ، هذه النظرية من المزاوجة بين البيئي والطبيعي أو الأصيل والمكتسب سرعان ما تراجعت لصالح تركيز أكبر على المكتسب.
ولكن مع اكتشاف خريطة الـDNA عام 1953 جاء من يقول بأن التركيب الجيني في الجسم هو “المحرك الذي لا يتحرك” أو “الذي يغير ولا يتغير”، الأمر الذي قد يشاهد على أنه المسمار الأخير في فكرة السلوك والصفات المكتسبة لصالح دعم فكرة القدرات والسلوكات الموروثة، وكما تعلق الباحثة ميشيل كونديت على مثل هذه النظريات بأن الإنسان تقلص بفعلها لكيان تافه تتحكم جيناته بكل شؤونه الاجتماعية والأخلاقية والتاريخية. كما علقت باحثة أخرى هي رينا راب بالقول إن مثل تلك النظريات شكلت جزءا من أيديولوجية جينية تربط بين الشؤون الفردية والمشكلات الاجتماعية والجينات.
ولكن الطريف أن تواصل تقدم العلم حول الجينات جعل فكرة “المحرك الذي لا يتحرك” تفقد قوتها مرة أخرى. فقد أكد العلماء أن الجينات ليست ذلك الفاعل دائما، بل هي المفعول بها أحيانا.. ولكن وفي السياق نفسه من الطرافة والتناقض في الجدل حول دور الجينات والعوامل الطبيعية الكامنة في جسد الإنسان والموروثة من أسلافه، فإنه بموازاة تطور الكمبيوتر واعتقاد البعض بأن الوقت قد حان للتحكم في حياة الإنسان وشفائه من الأمراض وتحديد مسار حياته بقراءة جيناته فإن السينما والأدب الشعبي في الغرب كرس التصورات حول تفوق الجين وصفات الفرد الموروثة وتحكمها بحياة الناس، مما يسهم في تكريس أفكار الانقسام العرقي بين مجموعات البشر وتعزيز الخطاب العرقي البيولوجي
لعرق والطبيعة والثقافة
في الفصل الخامس الذي يحمل عنوان الكتاب، يريد الباحث أن يثبت أن مقولات حول علاقة الدم، والخصائص البيولوجية الطبيعية للإنسان لا زالت حاضرة بقوة في الفكر الغربي والممارسات اليومية للناس رغم المقولات التي تساوي بين الإشارات البيولوجية والتمييز العنصري.. ففي نيوزيلندا مثلا استخدم السكان المستعمرون مقولات بيولوجية صارخة في حديثهم عن أهل البلاد الأصليين الماوريس Maoris، فمثلا أحدهم يقول إن تجمع السكان الأصليين في مناطق ومجموعات منفصلة هو عامل وراثي في مجتمعاتهم، وآخرون قالوا إن في التركيب الجيني لهؤلاء السكان الأصليين ما يجعلهم يعادون الدراسة والعلم. وفي الولايات المتحدة لا زال تزاوج البيض بالسود يعد شيئا شاذا غير مقبول.
بل إن بعض من يرفض المقولات البيولوجية عن وعي يعود ليسقط في تعميمات بيولوجية، من مثل فنان أفريقي الأصل في أميركا اللاتينية أكد رفضه النظريات حول اختلاف الأجسام والدماء ولكنه في حديثه عن ارتباط الأفريقيين بالطبل عاد ليقول إن سماع الإنسان لـ2000 عام للطبل جعل ذلك جزءا من جسمه وعقله وفي حياته وحركته. إذن فالدماء والجينات حسب هذا الفنان تأثرت بالبيئة وأصبحت شيئا موروثا. والواقع أن الملاحظة اليومية والدراسات الحديثة تثبت زيادة استخدام المصطلحات البيولوجية والجينية في الحياة اليومية.
وحسب ويد لا يجب النظر لذلك على أنه شيء سلبي ويجب أن توضع الأمور في نصابها، فلا يجوز تحريم واتهام استخدام البيولوجيا في فهم السلوك الإنساني، ولكن يجب الانتباه إلى أن المفاهيم البيولوجية لا تعني أننا بالضرورة نتحدث عن تمييز وتفوق أبدي مستمر لطرف على آخر، وأن البيولوجيا متغيرة متفاعلة مع البيئة.
في خاتمة الدراسة يعود ويد ليؤكد اختلاف المفاهيم بين الشعوب حول العرق، فمثلا تسمى البرازيل بأنها دولة الديمقراطية العرقية، بينما توسم الولايات المتحدة الأميركية بأنها دولة الفصل العنصري، على اعتبار أن دولة مثل البرازيل ودولا أخرى في أميركا اللاتينية لا تلعب الهوية العرقية دورا كبيرا في الحياة الاقتصادية والسياسية فيها، بعكس الولايات المتحدة حيث هناك ارتباط بين التكوين الطبقي والسياسي والأصول العرقية.
ولكن ويد يقول إن هذه المقولات في ما يتعلق بالبرازيل ليست دقيقة وإن هناك حركات احتجاج عرقية من قبل أصحاب الأصول الأفريقية تلغي مقولة الديمقراطية العرقية، ولكنه يقول بأن الفرق الحقيقي أن العرقية في الولايات المتحدة متصلة بالدم والأصول وأنه مهما تغير واقع وشكل الإنسان فإن أسلافه يعتبرون عاملا هاما في تحديد دوره ومكانته في المجتمع، أما في البرازيل فالعملية نسبية، فتغير مظهر الإنسان وسلوكه قد يلعب دورا مهما في تغير توجهات المجتمع نحوه وبالتالي دوره ومكانته
في المجمل يمكن القول بأن دراسة ويد تشير أول ما تشير وتثبت القصور الواضح في فهم معنى العرق والخصائص البيولوجية بين البشر، ومن ثم فإن ويد يدعو لعدم اعتبار دراسة البيولوجيا وأثرها على الحياة الثقافية والاجتماعية نوعا من التمييز الاجتماعي.
والواقع أنه إذا نظرنا لمقولات ويد جنبا إلى جنب مع دراسات أخرى شاعت في الغرب مؤخرا، وإذا أمعنا النظر في مقولات ويد في سياق التغيرات الدولية السياسية الراهنة، وبشكل أكثر تحديدا حديث الإدارة الأميركية الحالية عن حضارة الحرية الغربية المتفوقة فإننا يمكننا أن نشاهد تطور موجة جديدة تتحدث عن التمايز العرقي لا سيما العرقي الثقافي، وعن أن هناك مؤهلات جينية في بيئات معينة تعطي مجموعات دون غيرها ميزة نسبية معينة، بمعنى أن الاكتشافات في عالم الجينات ما زالت مرشحة للاستغلال الأيديولوجي والسياسي لخدمة برامج معينة، ولاستخدامها مبررا للحرب على الآخرين.