* نبيل درغوث
صدر عن دار أمل للنشر والتوزيع بتونس كتاب “العرب في الجاهلية الأخيرة والإسلام المبكّر ” للدكتورة حياة قطاط في 360 صفحة من الحجم الكبير وهذا الكتاب هو في الأصل أطروحة دكتوراه.
واعتمدت الباحثة فيه علي المنهج الأنثروبولوجي الستروسي (نسبة إلي Levi Strau Claude) محاولة فيه تقديم استقراء أنثروبولوجي بنيوي. وقد خرجت الباحثة بكتابها هذا ـ وهي المؤرخة في الأصل ـ عن نطاق ما هو مألوف ومعروف في كتابات المؤرخين الكلاسيكية ويكمن هذا الخروج عن المألوف في الكتابات التاريخية من حيث الموضوع والمنهج في نفس الوقت يتنزّل الموضوع في إطار تاريخ الأبنية الثقافية داخل الفضاء العربي الإسلامي وهو إطار لم يوله المؤرخون في البلاد التونسية ـ علي حدّ علمنا ـ الاهتمام الذي أولوه للدراسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
حياة قطاط ـ باحثة تونسية ـ متحصلة علي الدكتوراه في التاريخ. عضوة في مخبر العالم العربي الإسلامي الوسيط بكليّة العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. وعضوة في وحدة بحث مشتركة حول تاريخ وتراث السّاحل التونسي ومكلّفة بالبحوث بالمعهد الوطني للتراث (تونس) وتشغل خطّة مديرة متحف العادات والتقاليد الشعبية لمدينة تونس ورئيسة فرع الأنشطة المتحفية بالمعهد الوطني للتراث بوزارة الثقافة والمحافظة علي التراث (تونس).
قسمت الباحثة الكتاب إلي ثلاثة أبواب وكلّ باب إلي ثلاثة فصول علي النحو التالي:
الباب الأوّل: الزّواج في المجتمع العربي الجاهلي والإسلامي الأوّل
وفيه:
الفصل الأوّل: أهمّ أنواع النّكاح وطقوسه في المجتمع العربي الجاهلي
والإسلامي الأوّل
الفصل الثاني: الزواج ودوره في تأطير الحياة الجنسية في المجتمع العربي
الجاهلي والإسلامي الأوّل
الفصل الثالث: أطراف الزواج العربي واستراتيجياته
والباب الثاني: دراسة التراكيب الاجتماعية في المجتمع العربي في الجاهلية والإسلام المبكّر
و فيه:
الفصل الأوّل: أبرز أشكال التّراكيب الاجتماعية في المجتمع العربي
الجاهلي والإسلامي الأوّل
الفصل الثاني: أسس التّراكيب الاجتماعية العربية
الفصل الثالث: القبيلة العربية ومؤسّساتها التأطيرية
الباب الثالث: دين العرب
وفيه:
الفصل الأوّل: جدليّة الصّحراء والبداوة والحيوان في الثقافة العربية القديمة
الفصل الثاني: مؤسسة التضحية في الثقافة العربية وأهمّ عناصرها
الفصل الثالث: مؤسسة التّحريم عند العرب القدامي
من منطلق اشتراك شعوب الشرق في نبذها لحياة العزبة واعتبارها إثما وخطيئة، خصّصت الباحثة الباب الأوّل الموسوم بـ الزّواج في المجتمع العربي الجاهلي والإسلامي الأوّل الذي ركّزت فيه علي محاور ثلاثة لدراسة الزواج في المجتمع العربي في القرنين 6 و7 ميلادي.
ففي المحور الأوّل قامت الباحثة بعرض أهمّ أنواع الزواج العربي وطقوسه مختارة استعمال مصطلح النكاح عن غيره من المصطلحات الأخري لتعبيره عن الجانب الجنسي في إطار مؤسسة الزواج حسب قولها. وقد اكتفت الباحثة بعرض أهمّ أنواع النكاح التي حرّمها الإسلام وهي: نكاح الاستبضاع ـ نكاح الشّغار ـ نكاح المساهاة ـ نكاح البدل ـ نكاح المتعة ـ نكاح الضيزن ـ نكاح الرهط ـ نكاح المخادنة ـ نكاح الضماد ـ نكاح صواحبات الرايات ـ نكاح السرّ. ووقع اختيارنا علي نكاح الاستبضاع لتعريفه للقارئ لطرافته ولدلالاته المختلفة من بينها علاقة عرب الجاهلية بالطبيعة في إطار جدلية الثقافة والطبيعة. تذكر الباحثة في هذا النوع من النكاح:
قال ابن الأثير الاستبضاع نوع من نكاح الجاهلية وهو استفعال من البضع أي الجماع أو النكاح وذلك أن تطلب المرأة جماع الرجل لتنال منه الولد فقط وهو نكاح انتقائي ومؤقت كان الرجل يدفع إليه زوجته أو أمته بعد أن يكون اختار لها الطرف المناسب الذي يكون عادة صاحب شأن كبير في المجتمع، شاعر أو فارس له خصال جسدية كالوسامة فيقول لها إذا طهرت من طمثها أرسلي إلي فلان فاستبضعي منه ويعتزلها ولا يمسّها أبدا حتي يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي ستبضع منه وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد . ولعلّ هذا النوع من النكاح ناتج عن معرفة يمارسها العرب في انتقاء النسل الجيّد من حيواناتهم المختلفة.
أمّا في ما يخصّ طقوس النكاح تقول الباحثة: تخضع مؤسسة الزواج إلي طقوس وأعراف منظّمة ظل يقدسها المجتمع العربي من العهد الجاهلي إلي العهد الإسلامي .
و هذه الطقوس/الأعراف هي: ما قبل الخطبة ـ الخطبة ـ دور الوليّ ـ المهر والصّداق ـ الهداء. فالعرف الأوّل هو المرحلة التي تسبق في العادة الخطبة التي تلعب فيها النساء الدور الرئيسي في الوساطة بين الرجال والنساء الراغبين في الزواج وتشير المصادر العربية إلي جانب النساء ان هناك المخنثين يقومون أيضا بدور الواسطة بين الرجل والمرأة قبل الخطبة وتذكر المصادر أيضا حالات أخري مثل الأب الذي يعرض ابنته للزواج. وللخطبة طرق وسنن خاص بالعرب القدامي التي وصل منها الكثير إلينا وهي تلك الطقوس المتعارف عليها في الخطبة اليوم. فقد كان العرب يخطبون المرأة إلي أحد أفراد قرابتها العاصبة الذي اصطلح عليه في ثقافتنا باسم الوليّ ويكون حسب المصادر العربية ذكرا وراشدا. وللوليّ دور أساسي ومهمّ في مؤسسة الزواج فمن دونه يبطل الزواج ويكون قبول عرض الزواج أو رفضه في يده بعد استشارة المعنية بالأمر عادة.
ويتم عقد الزواج بعد دفع المهر وحضور الشهود. والمهر، حسب ما تذكر الباحثة؛ يعود تاريخه إلي حوالي 2500 ق.م من الماضي السّامي الجدّ قديم. فهذا المصطلح تم العثور عليه في النصوص البابلية والآشورية. وتقول الباحثة: يعتبر المهر في الثقافة الأنثروبولوجية العربية والإسلامية وغيرها من الثقافات الإنسانية ركنا أساسيا من أركان الزواج لا يستقيم من دونه وإلا اعتبر زنا إذ ليس علي زان مهر .
وجاءت الشريعة الإسلامية مؤكدة علي وجوب الصداق كركن أساسي من أركان الزواج وليستقيم هذا الزواج وجب علي العريس أن يسوق الصداق للعروس حتي يستحلّ فرجها. واعتباراً لمركزية هذا الركن قام بيت مال المسلمين بدفع مهر العروس عن العريس المعوز في إطار سياسة التشجيع والحث علي الزواج التي انتهجها الإسلام. وآخر طور من أطوار طقوس الزواج هو الهداء الذي يعتبر تتويجا لكل مراحل السابقة الذكر وتقول الباحثة فيه: الهداء (متمثل) في مغادرة العروس مقرّ إقامة أهلها للعيش مع زوجها وسط أهله وذويه . وهذا الطقس معروف لدينا اليوم بمراسم الزّفاف.
تناولت الباحثة في الفصل الثاني دور الزواج في تأطير الحياة الجنسية، حيث جاء الإسلام مدعّما ومنظّما العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة في إطار مؤسسة الزواج محرّما النكاح الممنوع الذي تنبذه وتدينه الثقافة العربية منذ العهد الجاهلي والتي تنعته بالزنا والسفاح. وتقول الباحثة في هذا الإطار: يتبين […] مدي أهمية الوظيفة الاجتماعية والتشريعية التي تكتسيها مؤسسة الزواج في الثقافة العربية وفي كل الثقافات الإنسانية والدور التاريخي الذي تقوم به في تأطير استمرارية الجنس البشري ومنحه هويته الاجتماعية والثقافية بهدف تكوين أمّة عربية إسلامية متماسكة علي أساس النسب الصريح […] فالإنجاب ظلّ من أهم أهداف الزواج في الحضارة العربية الإسلامية وهو ثمرة العلاقة الجنسية بين الزوج وزوجته .
و قد تبيّن أن وظيفة الزّواج لا تقتصر علي إنجاب الأطفال فقط بل يضطلع بوظيفة أساسية ذات طبيعة جنسية وهدفه الأصلي تعاطي الجنس والتمتّع. ومن بين هذه المتع التي تحبّذها العرب وقد أكّدت عليها المصادر العربية المرأة البيضاء البدينة اللّينة اللّطيفة المطيعة ذات الشعر الطويل الأسود الفاحم المعتنية بزينتها ونظافة جسمها والمتعطّرة. ومن خلال هذا المبحث كشفت الباحثة عن جانب دقيق من الثقافة العربية والإسلامية وهو: وجود ثقافة جنسية عريقة ومتجذرة في واقعها التاريخي والبيئي وعن حس إنساني مرهف وحوار جنسي حقيقي بين المرأة والرجل فكانت المرأة بحرصها علي التزين والنظافة والتعطّر تهدف إلي نيل إعجاب الرجل بها وإثارة رغبته ليداعبها ويقبّلها ويقول لها رقيق الكلام كتمهيد لبلوغ ذروة المتعة الجنسية التي يشتركان في الوصول إليها .
الفصل الثالث خصصته الباحثة لأطراف الزواج العربي واستراتيجياته وفيه تفضيل العرب الزواج من البكر والفتاة صغيرة السنّ مع الحرص علي ضمان وتحقيق التكافؤ الاجتماعي في مؤسسة الزواج. وللعرب استراتيجيات في زواجهم كانوا يشجّعون علي الزواج من غير الأقارب لحرصهم علي نوعية نسلهم لأنّ زواج الأقارب يتسبب في إنجاب أولاد معوقين وإلي جانب جودة النسل كان هذا الزواج ذا أسباب سياسية كالتصاهر مع الحلفاء والزّيادة في عدد أبناء القبيلة.
وتختم الباحثة الباب الأوّل من الكتاب بقولها: بصفة عامة تعكس مؤسسة الزّواج ثراء ثقافيا تميّز به المجتمع العربي القديم ونضجا كان وراء السمو بالزواج من مستوي الظاهرة إلي مستوي القيم التي حرص العرب علي توريثها جيلا بعد جيل في إطار عنايتهم الشديدة بالنّسب وصحّته […] وكتأكيد علي رغبتهم في التميّز بهوّيتهم العربية عن بقية المجموعات الأخري .
أمّا الباب الثاني فدرست فيه الباحثة التّراكيب الاجتماعية في المجتمع العربي الجاهلي والإسلام المبكّر. متناولة في الفصل الأوّل أهم عنصرين من التركيبة الاجتماعية في المجتمع العربي وهما العشيرة والقبيلة. تقول الباحثة: لا ترسم مصادرنا حدودا ثابتة أو دقيقة بين العشيرة والقبيلة في المجتمع العربي القديم ولا تشير مختلف التعريفات الواردة في القواميس والمعاجم إلاّ إلي لبس واختلاط في المفاهيم . ولعلّ الباحثة في توخيها المنهج الستروسي البنيوي في هذا الكتاب استطاعت الفصل بين العشيرة والقبيلة. فالعشيرة وحدة صغري من مكوّنات القبيلة حيث أن القبيلة بنيتها أكثر تعقيدا واشتباكا من بنية العشيرة التي تسير فيها الأمور بأكثر بساطة. وللقبيلة قدرة تنظيمية ونفوذ قويّ يخوّل لها الجمع والتّوحيد بين مختلف العشائر، متوليةً التنسيق بينها والإشراف عليها عند اقتضاء الحاجة.
وبيّنت الباحثة في الفصل الثاني دور النّسب في رسم الهويّة الجماعية عند العرب القدامي. وأهميته في هيكلة المجتمع العربي في القرنين 6 و7 الميلادي.
أمّا الفصل الثالث من هذا الكتاب فقد اهتمت فيه الباحثة بالمؤسّسات التأطيرية للقبيلة العربية كمجلس القبيلة ودوره في الإشراف علي الجماعات العشائرية التي تتألف منها القبيلة وإدارة شؤون أفرادها كتسوية الخلافات بين العشائر وتنظيم كلّ جوانب حياتهم. وتقول الباحثة حول هذا المجلس: يبدو أنّ مجلس القبيلة كأعلي هيئة في المجتمع العربي قبيل الإسلام كان يمارس سلطة أدبيّة قويّة علي الأفراد في مجتمع يقدّس الكلمة ويحترم مضمونها ويطبّقه دون الحاجة لأيّ سلطة تنفيذ أو قهر .
وفي الباب الأخير من هذا الكتاب تقصّت فيه الباحثة دين العرب كطريقة قي التدين وعلاقة بالعالم الفوقي وتصورا له وكيفية اتصال به. وكل القيم التي انبنت عن ذلك من مؤسسة التضحية إلي مؤسسة التحريم مرورا بعلاقة العرب القدامي بالحيوان. تقول الباحثة: لا يقصد بـ(دين العرب) الدين وحده بمعني الإيمان والعبادة… بل المراد بذلك هو تجاوز هذا الجانب الذي يشكل عنصرا رئيسيا من عناصر دين العرب بمفهومه الشامل والكبير والمتمثل في مجموعة القيم والعادات والتقاليد وكل ما يتصل بالذهنيات ويعرف بالثقافة. وهي في الحقيقة عناصر مترابطة يصعب فصلها .
أمّا في خاتمة الكتاب فقد ذكرت الباحثة: في ما يتعلق بنتائج طريقة التقصّي الأنثروبولوجي للمادّة التاريخيّة تبقي رغم الإضافات التي يمكن أن تقدمها للباحث محدودة لصعوبة تطويعها لتلك الفترة الزمنية الغابرة لا سيّما وأنّ المصادر لا تسمح بمتابعة وتدقيق تطوّر الظواهر التي تناولناها بالدّرس علي الصعيد الزمني والإحصائي ورغم كلّ ما يقال حول الأسس المشتركة للجماعات البشرية بسبب ثبات الجانب الغريزي في الإنسان وأهميته في تكوينه فهناك معطي هامّ يتمثل في عامل التباعد الزمني والجغرافي بل وحتّي التاريخي ذلك أنّ جل المجموعات البشرية التي شملتها الدراسات الأنثروبولوجية خلال القرنين 19 و20 كانت تعيش في معازل في حين لم تشكّل الجزيرة العربية معزلا كتيما بالنسبة للمؤثرات الأجنبية وان تمّت علي وتيرة بطيئة ويستنتج هذا من خلال العثور علي تشابه مثير بين جوانب عديدة من ثقافة العرب القدامي وثقافات الشعوب المجاورة وهذه نقطة في غاية الأهمية تثبت أنّ الجزيرة العربية كانت ملتقي كلّ الحضارات القديمة الهندية واليونانية والرومانية والفارسية والمصرية القديمة .
وأخيرا ننوه بالكتاب لما بذلت فيه صاحبته من جهد معرفي واضح في مواجهتها للمصادر التاريخية التي تتحدث عن الفترة المدروسة وهي لا تحصي.
فالكتاب دراسة مكثّفة للأنثروبولوجيا الثقافية لتاريخ العرب. يقول المؤرخ الكبير هشام جعيط عن هذا الكتاب: أنجزت حياة قطاط بالفعل أنثروبولوجيا تاريخية للعرب الأوائل عرب الجاهلية والإسلام الأوّلي، متجاوزة عديد ما قيل من أفكار مكررة فارغة عن هذه الجاهلية. وهو أوّل كتاب وضع في هذا المجال بالعربية فأثري مكتبتها ويثري فكر القارئ بقراءته واكتشافه
* نبيل درغوث
كاتب وصحافي ثقافي من تونس
nabildarghouth@yahoo.fr