كتاب “الأنثروبولوجيا الفرنسية.. دراسات ومراجعات في تراث إميل دوركايم ومارسيل موس”
يأتي هذا الكتاب “الأنثروبولوجيا الفرنسية.. دراسات ومراجعات في تراث إميل دوركايم ومارسيل موس” والذي شارك فيه 26 باحثًا عربيًا وغربيًا من قبل مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث من منطلق الوعي بأهميّة تاريخ النظرية الاجتماعية من خلال إسهامات الرواد الأوائل وخاصة إميل دوركايم (1858-1917م)، ومارسيل موس (1872-1950م).
فوفقا للباحث د.يونس الوكيلي مشرف ومنسق ومقدم الكتاب أن أعمال هؤلاء الرواد تظلّ مُلهمة في تحليل الظواهر الاجتماعية عامّة، والدينية خاصة، سواء من حيث الأسس العلمية والمنهجية العامة أم من حيث المجالات البحثية. ووقع الاختيار على العلَميْن المذكورين لما يمثّلانه من دورٍ بارز وأساسي في نشأة وتطوّر علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في فرنسا.
من جهة أولى ـ كما أوضح الوكيلي ـ يُعدّ إميل دوركايم من أهمّ العلماء الفرنسيين، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الذين اقترنت أسماؤهم بنشأة علم الاجتماع. وعلى الرغم من شهرة علماء آخرين ساهموا في التأسيس، مثل كارل ماركس، وماكس فيبر، اللذين يصف أعمالهما إيمانويل والرشتاين، الرئيس السابق للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، بـ “تراث علم الاجتماع”، إلا أنّ دوركايم يبقى الأكثر حضوراً في تاريخ علم الاجتماع، وأعماله الأقوى إسهاماً في إنضاج علم الاجتماع تخصصاً منفصلاً على الأقل عن الاقتصاد الذي كان التخصّص الرئيس لكلّ من ماركس وفيبر.
وقال الوكيلي إن جهد تأسيس علم خاص بالمجتمع ظهر منذ بداية الحياة الأكاديمية لإميل دوركايم؛ فعندما كان متربعاً على كرسيّ علم الاجتماع في جامعة بوردو، وعمره لا يتجاوز التاسعة والعشرين، أصدر كتابيه: “في تقسيم العمل الاجتماعي” و”الانتحار”، ولم تكد تمضي سنوات قليلة، وتحديداً سنة (1894م)، حتى أصدر كتابه الشهير “قواعد المنهج في علم الاجتماع”، الذي بوّأه مكانة مهمّة بين علماء الاجتماع الذين عاصروه. والحقيقة أنّ هذين الكتابين “إضافة، بطبيعة الحال، إلى كتاب “الأشكال الأولية” الذي صدر بعد أن التحق دوركايم بجامعة السوربون” كانا كفيلين بأن تسود المدرسة “الدوركايمية” في فرنسا، وخاصة إزاء اسمين بارزين في تلك المرحلة؛ غابرييل تارد (1849-1904م) في الكوليج دو فرانس، وهو “مؤلف “مبادئ السوسيولوجيا” و”قوانين المحاكاة”، وقد كان الكتاب الأول من أكثر كتب السوسيولوجيا الفرنسية رواجاً”، ثمّ روني وورم (1867-1956م) في كلية الحقوق، مؤسس المجلة العالمية للسوسيولوجيا، ومؤسس المعهد الدولي للسوسيولوجيا سنة (1894م)، وجمعية باريس للسوسيولوجيا.
وأضاف الوكيلي أن دوركايم، على حد تعبير لورون موشيلي، حقق شهرة كبيرة بفعل تضافر ثلاثة عوامل على الأقل: العامل الفكري، ففي أطروحته “تقسيم العمل الاجتماعي” (1893م)، سيعدّ نفسه مضاداً لسبنسر وللفردانية والنزعة الطبيعية؛ فالإنسان كائن اجتماعي، وطبيعته الاجتماعية تتشكّل من كلّ ما يتعلمه من المجتمع الذي ينشأ فيه، والعامل السياسي حيث كان معظم شباب الجيل متأثرين بالفكر الاشتراكي بزعامة جان جوريس، فرأى دوركايم أنّ السوسيولوجيا موهبة ورسالة سياسية بالمعنى النبيل للكلمة، إنّها العلم الذي سيتيح فهم الأزمة الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع الفرنسي وعلاجها. ثمّ أخيراً العامل المؤسساتي أو ديناميكية الجماعة؛ إذ كانت مجلة “السنة السوسيولوجية”، التي كان يعمل معه فيها الشباب الاشتراكيون النشيطون في حركة (دريفوس)، القناة الرئيسة التي أذكت النقاش السوسيولوجي في تلك المرحلة.
من جهة أخرى أشار الوكيلي إلى أن أعمال مارسيل موس تتميّز بالغزارة والتنوّع. وقال “استطاع، في ظرف نصف قرن، أن ينجز عشرات الأبحاث التي تنتمي إلى تخصّصات مختلفة، من الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع إلى اللغة وعلم النفس وليس انتهاءً بالتاريخ والسياسة… إلخ. ومسّت أعماله، على العموم، أربعة موضوعات كبرى: الدين والأضحية والسياسة، والهبة واقتصاد التبادل، والمنهج والظواهر الاجتماعية، والإنسان الكُلي والجسد.
من أوائل أعمال موس “مقالة في طبيعة ووظيفة الأضحية” (1899م)، وبعد سنتين نشر برفقة دوركايم دراسة “حول بعض الأشكال البدائية للتصنيف)” (1901م) ـ يتضمن هذا الكتاب الترجمة العربية الأولى للنص ـ وفي السنة نفسها أصدر مع بُوشا كتاب (علم الاجتماع) (1901م) ـ يتضمّن هذا الكتاب الترجمة العربية الأولى للنص ـ بعده بثلاث سنوات أصدر “موجز النظرية العامة في السحر” (1904م)، ثم “مدخل إلى تحليل بعض الظواهر الدينية” (1908م)، وفي سنة (1909م) ظهر جزء من أطروحته حول “الصلاة”. توالت أعمال موس بعد الحرب العالمية الأولى، فأصدر كتاباً عن “الأمّة” (1924م)، ثمّ نشر في “الحولية السوسيولوجية” أشهر أعماله: “مقالة في الهبة” (1925م). وبعد عشر سنوات أصدر دراسته “تقنيات الجسد” (1935م) [يتضمن هذا الكتاب الترجمة العربية الأولى للنص]، ثمّ دراسة حول “مقولة العقل البشري ومفهوم الشخص” (1938م).
وتساءل الوكيلي أمام كلّ هذا الإنتاج العلمي وغيره: هل يمكن أن نتحدث عن وحدة ناظمة لفكر مارسيل موس؟ وهل يمكن الإفادة من تراثه الأنثروبولوجي راهناً؟.. وأوضح “يمكن أن نجمل وحدة فكر موس وأهميته في النقاط العامة الآتية:ـ الواقعة الاجتماعية الكلية: إنّ الخيط الناظم، الذي يضفي تماسكاً ووحدةً على فكر موس، هو صهره معظم موضوعاته في قالب الواقعة الاجتماعية الكلية؛ فتناوله ظواهرَ: “الأضحية”، و”السحر”، و”الصلاة”، و”الهبة”، تبرز رهانات اشتغاله، فقد كان يعمل في إطار مشروع علمي اجتماعي متكامل. وخلف تناول تلك الموضوعات يكمن الأفق الكلي الذي يحرّك موس، وهو البحث عن المشترك الإنساني، وليست غاية الأنثروبولوجيا شيئاً آخر غير مدّ جسور التفاهم بين الثقافات. فبقدر التوغّل في التفاصيل المحلية للظواهر الاجتماعية لإبراز الاختلاف والتنويعات، تتجلى مظاهر التشابه والوحدة بين المجتمعات. وهذا درس كبير راهن إلى الآن. نحن في حاجة إلى الدراسات عبر- المحلية، التي تُظهر إمبيريقيا وحدة الفكر البشري والمصير المشترك للنوع الإنساني عبر تمظهراته العابرة للمجتمعات.
– نموذج الهبة: يذهب ألان كايي إلى أنّ اهتمام مارسيل موس بالهبة أو اقتصاد التبادل أملته النزعات الاقتصادوية النفعية السائدة عبر التاريخ ومازالت، التي سعت إلى تفسير العلاقات داخل المجتمع بالمنطق الاقتصادي. كانت “مقالة في الهبة” ضد هذه النزعة. يقول موس: “ليس الإنسان دائماً حيواناً اقتصادياً”. على هذا الأساس، من الضروري أن نلفت الانتباه إلى ما سمّاه جاك غودبو “الإنسان الواهب”، وهو إنسان قائم بيننا الآن، فنحن ما زلنا نعيش في مجتمع مزدوج؛ مجتمع لاشخصي، يقوم على السوق والعلم والإدارة… إلخ، ومجتمع بدائي يقوم على علاقات القرابة والجوار والصداقة والشبكات التضامنية، والقانون الهِبوي لموس ما زال فاعلاً فيه: هَبْ، خُذ، رُد.
ـ الإنسان الكُلي: تطرّق موس، في عمله “تقنيات الجسد” سنة (1935م)، وهو الطور الثاني في أعمال موس بعد الحرب العالمية، إلى مفهوم الإنسان الكلي، وفحواه أنّ تناول موضوعات الفعل البشري يجب أن يجمع بين البعد البيولوجي والسيكولوجي والسوسيولوجي، فلا يمكن أن نصل إلى إدراك كُلي للإنسان بالاعتماد على بعد تخصصي واحد؛ بل من الضروري تضافر التخصصات. وهنا يُلاحظ أنّ موس يؤسّس لبواكير المقاربة المتعدّدة الاختصاصات، والتي ظهرت أيضاً في نصه “مقولة العقل البشري” (1938م).
ـ العمل الإثنوغرافي: يعود إلى موس الفضل في تكوين أجيال من الباحثين الميدانيين في النصف الأول للقرن العشرين، من خلال دروسه في المدرسة التطبيقية، وفي الكوليج دو فرانس، ومعهد الإثنولوجيا في السوربون وغيرها. لقد أسس موس حرفة العمل الميداني، وقد توِّجت بعمله الشهير “موجز في الإثنوغرافيا”، الذي يُعدّ من أهم الأعمال مرجعيّةً في طريقة إنجاز العمل الإثنوغرافي. ويعلم الدارسون أن العمل الإثنوغرافي الرصين شرط ضروري في قيام العمل الأنثروبولوجي. لذلك، ظلّ هذا الكتاب مقرراً أكاديمياً في مختلف الجامعات العالمية. وهو مبرّر آخر من أجل تصنيف موس أحدَ أهمِّ الأنثروبولوجيين في القرن العشرين.
يتكوّن الكتاب من جزأين يضمّان جملة من الأعمال العلمية، التي تلقي الضوء على انشغالات متعدّدة في أعمال إميل دوركايم ومارسيل موس. يبدأ القسم الأول المخصص لإميل دوركايم بدراسة للباحث البريطاني روبرت باركين ترجمتهما الباحثة إيمان الوكيلي، بعنوان “أصول ما قبل دوركايم”، ويتطرّق فيها إلى المصادر المعرفية التي تأثّر بها دوركايم. ثمّ دراسة للباحثة آن راولز، التي حاولت بناء نظرية المعرفة لدى دوركايم، وهي بمثابة المبادئ الفلسفية أو الميتا- قول التي تقوم عليها أفكار دوركايم، ثمّ دراسة للباحث زكرياء الإبراهيمي الذي بيّن دور دوركايم في التأسيس للحداثة الغربية. أمّا المقالات، فقد تناول الباحث يوسف صديق إشكالية التماسك الاجتماعي وعلاقتها بالانتحار كما عرضها دوركايم في كتاباته. فيما أنجز الباحث التونسي محمد يوسف إدريس مقالاً طريفاً بعنوان “ما مصير الدراسات الدينية لو لم يكتب دوركهايم كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية؟”. أما المقال السادس، فتطرّق فيه الباحث يونس الوكيلي إلى منهج دوركايم في تناول المعتقدات السحرية في المجتمعات البدائية. وفي قراءات الكتب، قدّمنا كتابين لدوركايم هما: “الانتحار” للباحث رشيد الجرموني، ثمّ كتاب “الأشكال الأولية للحياة الدينية” للباحث حسن أحجيج. وقد ختمنا القسم مع نص دوركايمي، حيث أنجز الباحث التونسي محمد الحاج سالم ترجمةً لمقدّمة كتاب الأشكال الأوليّة المعنونة بـ “نظرية المعرفة وعلم الاجتماع الديني”، التي لم يسبق أن تُرجِمَت إلى العربية.
أمّا الجزء الثاني المخصّص لمارسيل موس، وهو الباحث الذي ظلّ صيته خافتاً، أو، كما وصفه كاميل تاغو “الشَّهير المجهول”، على الرغم من المكانة البارزة التي شغلها في الأنثروبولوجيا الفرنسية، وجهوده الأنثروبولوجية التي مثّلت، بحسب برونو كارسنتي، التأسيس الثاني للعلوم الاجتماعية في فرنسا، فقد حاولنا أن تحيط الدراسات عنه بمختلف اهتماماته. احتوى الجزء على أربع دراسات عن أهم القضايا التي تناولها موس، بأقلام معروفة أكاديمياً بتخصّصها في فكر موس: الواقعة الاجتماعية الكلية بقلم نايوكي كاسوغا من ترجمة عبد السلام الفقير. كما ترجمتِ الباحثة هدى كريملي نصاً لفرانسوا غوتيي عن موس والدين، وترجم مصطفى النحال مقال “الأسس الأخلاقية للعلاقات الاقتصادية” لدافيد غرايبر، ثم دراسة أخيرة لبرونو كارسنتي عن الأمّة ترجمها محمد البوقيدي. ثمّ تضمن الجزء الثاني قراءاتٍ في الكتب الأساسية لمارسيل موس في الهبة والمقدس والسحر والأضحية والإثنوغرافيا. وأخيراً عزّزنا الجزء بنصوص لمارسيل موس لم يسبق أن تُرجمت إلى العربية من أجل تقريب القارئ العربي من روح موس وكتابته العلمية، وهي نصوص حول تصوّره لعلم الاجتماع، وأشكال التصنيف البدائي، وتقنيات الجسد، وأخيراً نصّ حول أسطورة إبراهيم.