كامل جاسم المراياتي بين علميّ الإجتماع والأنثروبولوجيا
حوار – رزاق ابراهيم حسن
مظلة واحدة وفروق أساسية وتجارب الأمم تتطلب متابعة
كثيرة هي مداخل الحوار مع الاستاذ كامل جاسم حمودي المراياتي، فقد عمل في اكثر من جامعة عراقية وعربية واستاذا للانثروبولوجيا الحضرية والايكولوجيا البشرية في كلية الاداب – الجامعة المستنصرية، وعمل مشرفا على قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة وخبيرا علميا في البيت، ورئيسا لتحرير مجلة دراسات اجتماعية وعضو هيئة تحرير عدد من المجلات العلمية والثقافية، وقد انجز (70) بحثا ودراسة اضافة الى مقالات ودراسات قصيرة وشارك ونظم وادار جلسات اكثر من ستين ندوة ومؤتمر وحلقة دراسية، واصدر ستة كتب منفردا ومشاركا، واشرف على اعداد وتحرير عدد من الكتب، وكتب مقدمات كتب اخرى، وهو الاستاذ الاول في كلية الاداب- الجامعة المستنصرية والجامعة نفسها عدة اعوام.
مظلة واحدة
ولان الاستاذ الدكتور كامل جاسم المراياتي تميز بمحاولاته بناء وترسيخ الانثروبولوجيا في العراق فقد بدأنا الحوار معه من هذا الموضوع:
قرأت مقالات ورد فيها مصطلح انثروبولوجيا عراقية.فهل يصح ذلك ؟وماهو المطلوب لتحقيقه ؟
– بداية لابد لنا من التساؤل . لماذا يقرن اسم المكان مع اسم العلم فيقال انثروبولوجيا عراقية او علم اجتماع عراقي او علم اقتصاد عربي …….الخ ؟ ثم متى يجوز او لا يجوز ذلك ؟
في الحقيقة ان الحاق اسم الموقع بأي حقل او فرع دراسي يشير في الواقع الى ان هذا الحقل يعنى بدراسة الظواهر التي يقتصر وجودها في ذلك الموقع او تلك البيئة دون غيرها من البيئات او المواطن ، وحينها يصح الأخذ بمبدأ الاقتران ،فيقال انثروبولوجيا عراقية او اقتصاد عربي وما الى ذلك . وحيث ان لا وجود لظاهرة اجتماعية يقتصر وجودها على مكان او بيئة محددة ، لذا لا يصح هذا القول إلا على الدراسات التي تتوجه لدراسة المكان بشكل تفصيلي ، وهذا النوع من الدراسات يتوافق مع النهج البنائي الوظيفي . ولابد من التنويه بأن هذا القول لا ينطبق على دراسة الجماعات البشرية ولا على التنظيمات القرابية والعشائرية التي لا يرتبط وجودها بمكان محدد بالضرورة لامتداد وجودها التنظيمي الى أكثر من مكان او حيز جغرافي محدد.
أما إذا كان الهدف اختباري ،بمعنى اختبار مدى التواؤم بين الظاهرة والمكان أومدى التوافق بين الظاهرة والإنسان في بيئة محددة ، فان لهذا حكم آخر ، يمكن ان نصنفه تحت مسمى الدراسات الانثروبولوجية التطبيقية، وحينها يمكن القول انها دراسة حالة للظاهرة الاجتماعية (حالة دراسية / Case study) .،
وبمعنى آخر ، فأننا أمام دراسة ظاهرة إنسانية او اجتماعية عامة لا يرتبط وجودها بالمكان بالضرورة ، ولكننا في السعي التطبيقي نختار لها مكان او بيئة محددة لنختبر من خلال تلك البيئة الظاهرة المدروسة . ويبدو ان الغرض من مثل هذه الدراسات معرفة الفروق الحضارية بين الجماعات البشرية وفي مدى تكيفها مع الظواهر الاجتماعية بتوسط المكان ، او البحث عن مؤثرات المكان في الظواهر الاجتماعية وانعكاس ذلك على تكيف العنصر البشري ، لا البحث عن القوانين العامة التي تتحكم بتلك الظاهرة .
ولاشك ان السعي للكشف عن القوانين العامة التي تتحكم بمسارات الظواهر الاجتماعية او بمسار التاريخ إنما يندرج تحت اهتمام علم الاجتماع لا حقل الانثروبولوجيا . ذلك أن الانثروبولوجيا تسعى أصلا للوقوف على الفروقات الحضارية بين الأقوام والجماعات البشرية في التكيف وفي الخضوع للظواهر الاجتماعية او في إخضاع الظاهرة الاجتماعية للإرادات البشرية والتحكم بمساراتها . وحينها يأتي دور علم الاجتماع ليجد القوانين العامة . وهذا فرق أساسي من فروق التوجه الدراسي بين علم الاجتماع والانثروبولوجيا مع إنهما ينضويان تحت مظلة واحدة .
كيف تتم دراسة علمين مختلفين؟
– عموما يبدو لي أن الإجابة على السؤال تحتمل وجهين لا وجه واحد .
الأول أن تكون الدراسة الانثروبولوجية منصبة على دراسة الموقع المكاني تحديداً دراسة حقلية تغطي كل جوانب الحياة وكل الأنساق الاجتماعية في المكان دراسة شمولية على وفق النهج البنائي الوظيفي ومساقات المدرسة الانثروبولوجية الكلاسيكية التي تشترط الإقامة الحقلية والملاحظة بالمشاركة وغيرها من أدوات البحث الانثروبولوجي الكلاسيكي وبإقامة حقلية لا تقل عن عام كامل (حول كامل) ، مثال ذلك دراسة الرائد الانثروبولوجي العراقي المرحوم شاكر مصطفى سليم في قرية (الجبايش) العراقية او دراسة الدكتور علاء الدين جاسم البياتي في منطقة (عين تمر/ واحة شثاثة ) في كربلاء .إضافة إلى العديد من الدراسات الأكاديمية التي انصب اهتمامها على دراسة قرى عراقية صغيرة (الشرش ،الصيكل ، الذهب الأبيض البوطعمة……….الخ ) ، وعندها يصح الربط بين المكان والموضوع ، لان المكان يشكل ثقافة ًوركناً أساسياً لا مجال لتجاوزه كونه العمود الفقري في العمل الانثروبولوجي.
أما الوجه الآخر من المسألة فهو وجه تطبيقي يعتمد المكان الايكولوجي كمتغير مستقل بالمعنى الإحصائي ، او يتخذ من المكان حقلا تجريبياً لمعرفة مدى تأثر الظاهرة الاجتماعية بفعل المكان ومعرفة العلاقة التفاعلية بين المكان والظاهرة الاجتماعية او بين الإنسان والمكان . فهي (دراسة انثروايكولوجية ) تعتمد النهج الايكولوجي في البحث والتقصي ، وبصرف النظر عن اختلاف علماء الاتثروبولوجيا في موضوعة النسق الايكولوجي وعده جزءاً أساسيا او منفصلاً عن بقية انساق البناء الاجتماعي .
وحين تقترن الايكولوجيا بالانثروبولوجيا تتمظهر كحقل دراسي جديد يدعى (الانثروبولوجيا الايكولوجية ) حيث يشكل المكان ركناً مهماً من أركان البحث الانثروبولوجي . ولي شخصيا في هذا المجال دراسة حديثة نشرت في مجلة دراسات اجتماعية تبحث عن اثر البيئة في الشخصية والسلوك بنهج (انثروايكولوجي).
وفي هذا السياق لابد من الإشارة الى صدور كتاب جديد عن بيت الحكمة عام 2014 حمل عنوان (الانثروبولوجيا التطبيقية ) ل(ساتش كيديا و جان فان ويلجن ) ترجمته عن الانكليزية الدكتورة هناء خليف غني ، تناول في بعض من فصولة الحديث عن حقل (الانثروبولوجيا الايكولوجية ) الجديد ، متصمناً عدة مباحث حديثة ل (موران عام 1990) وأبحاث أخرى ل(رابابورت )عن ايكولوجيا الصيد وعن ودور البيئة في تنميط سلوك الجماعات وعن علاقات الحرب والسلام بين قبائل أمريكيا اللاتينية ، وخاصة علاقات الصراع بين قبيلة (تسمباغا) والقبائل المجاورة ، مع نتائج أبحاث أخرى عن مجتمعات القنص والصيد وعن عادات قبائل امريكا اللاتينية . ولابد هنا من الإشادة ايضاً بالجهود الترجمية التي بذلها الرائد الانثروبولوجي الاستاذ الدكتور قيس نعمة النوري في رفد قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة بالعديد من التراجم والمؤلفات في حقل الانثروبولوجيا .
فاصل دقيق
ما الذي تم انجازه على طريق بناء انثروبولوجيا عراقية ؟
– دعوني أتحاور مع مضمون السؤال على وفق ما أظن إنكم تستهدفون ، وانطلق من ان السؤال يستهدف الوقوف على التجربة العراقية الانثروبولوجية وانجازاتها .
وحين الاجابة على هذا السؤال لابد من استذكار رواد الانثروبولوجيا في العراق ، أمثال الدكتور شاكر مصطفى سليم والدكتور قيس نعمة النوري والدكتور قحطان سليمان الناصري والدكتور خالد فرج الجابري والدكتور علاء البياتي والدكتور عادل عبدالحسين شكارة والدكتور سعدي فيضي . مع اختلاف توجهاتهم الدراسية وتوزعهم بين المناهج الانثروبولوجية المختلفة .
ولابد من الإشارة هنا الى التداخل الكبير بين حقلي علم الاجتماع والانثروبولوجيا الى الحد الذي يصعب معه رسم خط فاصل دقيق بين الحقلين إلا في مناهج البحث الميداني وفي بعض سياقات الاهتمامات الدراسية . ومن هنا كانت كتابات رواد علم الاجتماع الأوائل في العراق أمثال عبد الفتاح إبراهيم والدكتور علي الوردي والدكتور عبد الجليل الطاهر والدكتور متعب مناف جاسم زاخرة بالنفس الانثروبولوجي .
وبالفعل فقد أشار الرائد الانثروبولوجي (رادكليف براون ) الى هذه الحقيقة حين عبر عنها بالقول ( ان الانثروبولوجيا الاجتنماعية ماهي إلا علم اجتماع مقارن )
لقد كانت تلك الدراسات القاعدة المتينة والأساس العلمي الرصين الذي استند عليه الحقل الانثربولوجي العراقي في البحث والدراسة ، فكان أن ظهرت العديد من النتاجات والكتب الانثروبولوجية المهمة سواء في حقل التأليف أو الترجمة ، كما قام الرعيل الأول بإنتاج العديد من الدراسات الميدانية التطبيقية ، واشرفوا على العديد من الدراسات والمشاريع الأكاديمية لطلبة الدراسات العليا .
بيد ان تراجع أداء الفعل السوسيولوجي في العراق وانخفاض عطاء الدراسات الاجتماعية خلال العقد التسعيني من القرن المنصرم بشكل عام نتيجة اضطراب التغيرات المجتمعية وعدم تأهل جيل كاف قادر على مواكبة الحدث المجتمعي السريع وغياب التفسير العلمي للتغيرات الاجتماعية المفاجئة بسبب خلو الساحة العلمية من اغلب الرواد ، تزامنا مع نفور الخطاب السلطوي من التوجه لتفسير الإحداث مقطعيا وحاجة السلطة الحاكمة حينها إلى بناء خطاب إيديولوجي جديد ينأى عن التفسيرات القطرية والمحلية . كل ذاك تسبب في ، وصاحب انكماش حقل الدراسات الانثروبولوجية والسوسيولوجية ، لتقاطعها مع أيديولوجية وثقافة الخطاب القومي التي كان ينتهجها النظام السابق.
لقد نتج عن هيمنة النظام الشمولي على الخطابات التعبوية السياسية وعلى تفسير الحدث المجتمعي مع افتقار الوسط الأكاديمي الى نخب نقدية جادة ، ان انحرف الفكر السوسيولوجي عن مساراته العلمية وابتعد عن الخطاب النقدي لصالح سيطرة فكر نفعي وصولي هيمن على مسرح التفسير الاجتماعي فاتسعت الفجوة بين الجامعة والمجتمع ، وتزايدت جموع غير المؤهلين في ساحة الفكر السوسيولوجي . وحين يبتعد الخطاب الثقافي عن النهج النقدي وبتحول إلى خطاب تعبوي إعلامي، ينحرف المسار الفكري عن مساراته العلمية ، وتتحول المؤسسات الأكاديمية إلى دور تمنح شهادات علمية تؤطر الأسماء فقط .
وفي حقيقة الأمر فان التخلف يعيد إنتاج التخلف على الدوام ، ويعمل على مأسسة التخلف في المجتمع . وهذا ماحصل بالفعل، ولاسيما بعد أعوام 2003 ، حيث ازداد الطين بلةً ،فتوسعت قاعدة الهرم الانثروبولوجي أفقيا دون ان يصاحب ذلك توسع عمودي ملموس. بيد أن هذا لا ينفي ظهور جيل من الانثروبولوجيين والسوسيولوجين العراقيين الجدد الذين يمتلكون قاعدة ثقافية رصينة مع بروز عدد من الطلبة النابهين الذين استطاعوا بنتاجاتهم الجادة ملء بعض الفراغ الذي تركه الرواد برحيلهم ، وإيقاد شمعة أمل لمستقبل مزدهر ،
لقد توفر العديد من المختصين الانثروبولوجين العراقيين ايم هم من اختصاصتهم؟
– يبدو لي ان مضمون هذا السؤال يحمل بين طياته همساً الى النتيجة التي أوردناها في ختام جواب السؤال السابق ، وغمزاً الى واقع الانثروبولوجيا اليوم . ذلك ان الواقع الفعلي للتخصص الانثروبولوجي في العراق يشير بالفعل الى وجود كم هائل من المتخصصين الانثروبولوجيين ، بعد تخرج العديد من الطلبة من أقسام علم الاجتماع في الجامعات العراقية ، الى جانب تخرج الدفعة الأولى من طلبة قسم الانثروبولوجيا التطبيقية بالجامعة المستنصرية والذي تم افتتاحه فعلياً عام 2004 ، غير إن الفوضى (الخلاقة) وسياسة (كوندليزارايز) في العراق لم تكن تسعى إلا إلى مأسسة عناصر الخراب والفساد وزرع الاضطراب في الجسد الاجتماعي ، فكانت سياسات استيعاب كل جموع الطلبة في المؤسسات الأكاديمية ، واستحداث معاهد وكليات خارج اطر التخطيط العلمي السليم وفوق حاجة البلد الفعلية ، سببا في تراكم الشحوم في الجسد الانثروبولوجي ، من ذلك مثلا أن بناء قسم الانثروبولوجيا التطبيقية في الجامعة المستنصرية لم يكن بناءاً علمياً رصيناً ولم يكن ضمن أطار تخطيط سليم ، فكان أن جاءت المخرجات خارج سياقات الحاجة المجتمعية كمياً إذا أغمضنا العين عن واقع التأهيل العلمي ، ولعل المقولة الفلسفية التي ترى (اذا كانت المقدمات سليمة ، فالمخرجات ستكون سليمة ) تنطبق تمام الانطباق مع الواقع الانثروبولوجي في العراق ، رغم حاجة العراق فعليا الى العديد من دراسات انثروبولوجية جادة ، وهكذا توزع اغلب الخريجون خارج سياقات التخصص الأكاديمي ، فأضافوا هماً اجتماعيا جديدا وأفواجا من العاطلين الى جيش الباحثين عن عمل.
فروق وعلامات
مالذي قدمه بيت الحكمة في هذا المجال؟
– ان بيت الحكمة – كما هو معروف – مؤسسة فكرية مستقلة تهتم بإنتاج المعرفة من خلال عقد الندوات وورش العمل وإقامة المؤتمرات العلمية وإصدار المطبوعات في مجالات اختصاص الأقسام العلمية الثمانية التي أشار أليها قانون التأسيس رقم (11) لسنة 1995. ويرأس كل قسم علمي أستاذ قدير في حقل الاختصاص بمستوى عميد كلية ، يعاونه استشارياً فريق عمل استشاري متخصص في كل قسم يضم خيرة أساتذة الجامعات في اختصاص القسم .وكان قسم الدراسات الاجتماعية من الأقسام الرائدة في البيت منذ التأسيس ، اذ تولى عقد العديد من اللقاءات العلمية وإصدار العديد من الكتب والتراجم في الحقل الانثروبولوجي ، الى جانب اهتماماته في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس والتربية والجغرافية والايكولوجيا ، وتخطيط المدن والإعلام .
هل صدر عن بيت الحكمة ما يمكن اعتباره نتاجا انثروبولوجيا ؟
– نعم ، لقد اصدر قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة فعلا العديد من الإصدارات والكتب التي يمكن عدها ضمن النتاج الانثروبولوجي المتخصص . اذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر (تاليفاً وترجمة ) (( انثروبولوجيا التشرد ، انثروبولوجيا العنف والصراع ، انثروبولوجيا العيش في الشوارع ، أطفال الشوارع في المدن الحضرية ، كيف تشكل القيم التقدم الإنساني؟ ، دراسات في علم الاجتماع والانثروبولوجيا ، تصورات حول مستقبل الديمقراطية ، التداخل المنهجي بين علم الاجتماع والانثروبولوجيا ، الانثروبولوجيا التطبيقية ،الانثروبولوجيا :المنهج والتاريخ، واقع ومشكلات الأقليات في العراق )). وغير ذلك من دراسات وأبحاث علمية نشرت في مجلة القسم المحكمة التي تصدر فصلياً تحت اسم (دراسات اجتماعية ) ، او صدرت على شكل كتب مستقلة .
وانتم هل استطعتم وضع فروق وعلامات بين علم الاجتماع والانثروبولوجيا ؟
– يبدو لي إنني قد أجبت ضمنيا عن هذا السؤال في إجابات الأسئلة السابقة . ومع ذلك لابد ان أشير إلى ان علم الاجتماع والانثروبولوجيا والخدمة الاجتماعية حقول دراسية تنضوي تحت مظلة واحدة ، ولا يمكن التميز بينها الا من قبل المهنيين المختصين فعلاً ، ذلك ان الفروق دقيقة جدا ويصعب العزل بينها . ففيما يتعلق بالفروق بين الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع يبدو أن الفرق الأساسي يكمن في أدوات البحث المنهجي ، اذ يميل الانثروبولوجيون الى اعتماد العمل الحقلي والتركيز على أسلوب الإقامة الميدانية ، والملاحظة بالمشاركة والاعتماد على المخبرين المحليين وتحليل نصوص الأدب والتراث الشعبي والقصص والأمثال والأحلام ، وعدم اعتماد الأساليب الإحصائية ولغة الأرقام ولا إلى اختيار عينة من المجتمع المدروس إلا في القليل النادر وتحت شروط وظروف عالية الانضباط ، وغير ذلك . والاهم من هذا كله ان الانثروبولوجيا تميل بطبيعتها الى دراسة المجتمعات البدائية والصغيرة والمحلية وشبه المنغلقة أو العشائر والجماعات المنغلقة على ذاتها انسجاماً مع أدوات البحث الانثروبولوجي ، على عكس علم الاجتماع . ثم ان الغرض الأساسي للانثروبواوجيا يكمن في محاولة الوقوف على الاختلافات بين الجماعات البشرية في ضوء مقولة (وحدة النفس البشرية )، فيما يسعى علم الاجتماع الى إيجاد القواسم المشتركة بين الثقافات الإنسانية لغرض بناء نظرية بشرية عامة من اجل (بناء إنسان ومجتمع ). ولتلك الأسباب وغيرها فان الجوانب النظرية في البحوث الانثروبولوجيا لا تزيد عن 30 بالمئة من مجمل البحث اذ يغلب على البحث الانثروبولوجي الجهد التطبيقي العملي ، فيما يستأثر الجانب النظري بالجزء الأعظم من دراسات وبحوث علم الاجتماع .
ومع إن الإجابة على هذا السؤال تستدعي الاسترسال وتتطلب المزيد من الإطالة ، لكن ما يجب الإشارة اليه اقتضاباً ذكر بعض الفروق بين المدرسة البنائية الوظيفية في الانثروبولوجيا اوما تسمى( بمدرسة كامبردج / المدرسة البريطانية الكلاسيكية) التي تنطلق من وتركز على دراسة العلاقات الاجتماعية او شبكة البناء الاجتماعي ، وبين ما يسمى ب(المدرسة الأمريكية الحديثة ) في الانثروبولوجيا التي تنطلق اولاً من دراسة الثقافة وتركز على فهم العادات في سياقها الثقافي . هذا إلى جانب بعض الفروق في أساليب البحث الميداني كعدم اشتراط الإقامة الحقلية لمدة عام كامل ، والاقتصار على الزيارات المتكررة لمجتمع البحث دون شرط الإقامة الدائمة .
كما يجب ان لا يفوتنا ذكر التطورات المنهجية الجديدة في حقل الانثروبولوجيا كالمنهج المعرفي والمنهج النفسي والمنهج اللغوي والمدرسة اللسانية والمدرسة الرمزية والمنهج السوسيوانثروبولوجي ومنهج الانثروبولوجيا الايكولوجية ، الى جانب ماعرف بالمدرسة الفرنسية …….الخ
ويبدو لي أن زخماً غير طبيعي وتياراً في إنتاج خطاب يحمل عناوين انثروبولوجية قد ظهر في الآونة الأخيرة ، مع أنها جهود لا تمت بصلة إلى النهج الانثروبولوجي ابداً .
باستثناء واحد
هل هناك تنسيق بين أقسام الانثروبولوجيا في الجامعات العراقية ؟
– في الحقيقة ليست هناك أقسام دراسية متخصصة بالحقل الانثروبولوجي في الجامعات العراقية ، باسثناء قسم الانثروبولوجيا التطبيقية في الجامعة المستنصرية والمستحدث عام 2004 ، غير ان أقسام علم الاجتماع في الجامعات العراقية الأخرى تضم فروعا متخصصة للدراسات الانثروبولوجية يبدأ التخصص الدراسي فيها بعد المرحلة الثالثة من المرحلة الجامعية . إما من حيث التنسيق فان الواقع يشير إلى عدم وجود تنسيق بالمعنى العلمي الدقيق ، غير ان هناك شكل من إشكال التواصل والتنسيق الضعيف يتمثل باللقاءات غير الرسمية والتي لا ترقى الى مستوى التنسيق الفاعل . وإذا شئنا أن نؤشر تنسيقا علميا فانه يتم من خلال أقسام علم الاجتماع في الجامعات العراقية ، الى جانب اللقاءات الشخصية في المؤتمرات والندوات العلمية المحلية .
ومن الجدير بالذكر أن جهوداً شبه رسمية لإطلاق مشروع تأسيس جمعية متخصصة بالانثروبولوجيين العراقيين قد أثيرت قبل أعوام ، ولكنها لم تر النور بسبب عدم الانسجام والتقاطعات والخصومات الشخصية وغلبة روح الأنانية وعدم الإيثار. ولابد من الإشارة الى أن احد الطلاب النابهين من خريجي قسم الانثروبولوجيا والحاصلين على درجة الماجستير قد أطلق مشروعا خاصا على الشبكة العنكبوتية اسماه ( منتدى الانثروبولوجيون والاجتماعيين العراقيين ) وهو جهد شخصي كبير يستحق الثناء ويحتاج الى دعم مؤسسي والى تطوير معرفي .
هل يوجد مركز بحوث خاص بالدراسات الانثروبولوجية في العراق ، وكيف يمكن السعي لتأسيس مركز بهذا العنوان؟
– لا أخفيك سراً حين أقول بعدم وجود مركز متخصص بالدراسات الانثروبولوجية وليس هناك مجلة متخصصة بنشر البحوث الانثروبولوجية حصراً، ولذلك فان الدراسات والبحوث الانثروبولوجية تنشر ضمن إصدارات المجلات العلمية ذات الطابع الاجتماعي ،وهي كثيرة تصدر عن العديد من الكليات والمعاهد ومراكز البحث الاجتماعي ، وهنا لابد من التمييز بين البحوث التي تنشر في مجلات علمية محكمة التي تعتمد لأغراض الترقيات العلمية ، وبحوث المجلات ذات الطابع الثقافي العام .
أما عن مشاريع وأفكار تأسيس مركز انثر وبولوجي متخصص ، فيبدو لي أن الأمر لا يتعدى مجرد آمال وأحلام على الأقل في الوقت الحاضر.
ماهي أفضل التجارب التي يمكن الاستفادة منها بالنسبة لتجربة الانثروبولوجيا العراقية؟
– أظن أن الاطلاع على تجارب الأمم الأخرى عموماً من أهم المتطلبات التي يتوجب على مختصي الحقل الانثروبولوجي العراقي مراعاتها ومتابعتها ، مع وجوب مواكبة احدث الإصدارات العلمية في الدوريات المتخصصة ، والانفتاح على مراكز البحث الانثروبولوجي في العالم والتواصل مع أقسام علوم الاجتماع وعلم الإنسان في الوطن العربي وفي عموم العالم ،مع ضرورة تبادل الخبرات وعقد الندوات والحلقات الدراسية المشتركة.ولاسيما مع جامعات أمريكيا اللاتينية واستراليا ونيوزيلندا ، بسبب من ثراء تجاربها الميدانية مع القبائل شبه البدائية في تلك البلدان .
ان تطوير الكادر التدريسي والبحثي يجب ان ينطلق من التركيز على الأبعاد العملية والتطبيقية . وهنا لابد من الإشارة الى حقيقتين أساسيتين لابد من مراعاتها . الأولى تتعلق بتنوع الجهات التي يجب الاستفادة من خبراتها ، فهي جهات يجب ان لا تقتصر على الأمم المتقدمة كأمريكا وبريطانيا فرنسا وألمانيا فقط ، بل يجب الاستفادة أيضا من تجارب شعوب العالم الثالث والشعوب النامية ، فهي غنية بالتجارب الانثروبولوجية الحقلية كما أسلفنا ، والثانية ترتبط بضرورة تكثيف الإبعاد التطبيقية والميدانية في المناهج الدراسية لأقسام الدراسات الانثروبواوجية ، وهو خلل منهجي ملحوظ لازال يواكب تجربة الدراسات الانثروبولوجية في العراق.
بيت القصيد
ماهو رأيك بمناهج تدريس الانثروبولوجيا في العراق ، ولماذا تفتقر تلك المناهج الى اهتمام بالأبعاد الشعبية والحكومية في بعض الاحيان ؟
– هنا بيت القصيد . فالهدف الأساسي من الدراسات الانثروبولوجية يكمن في التعرف الحقلي على الواقع الاجتماعي للجماعات والشرائح والقطاعات الاجتماعية ، باستخدام أدوات البحث الانثروبولوجي التي تعتمد الإقامة الحقلية او الزيارات الدورية مع الملاحظة المباشرة ومشاركة المبحوثين سبل عيشهم وغيرها من أدوات بحث كما أسلفنا . وإذا صرفنا النظر عن الفروق بين حقلي الانثروبولوجيا الريفية والانثروبولوجيا الحضرية التي فرضتها ظروف التقدم والتطور العالمي على أنماط الإقامة البشرية وعلى أساليب الحياة ، فان الواجب الحقيقي للباحث الانثروبولوجي في كل المجتمعات ، يظل ملاحظة الناس ومشاركتهم سبل معيشتهم للتعرف على أنماط حيواتهم ونقل صورة اثنوغرافية حية عن واقع الحياة . ولذا فان انكفاء الباحث الانثروبولوجي داخل مؤسسته او جامعته او مكتبه يعطل من دوره الوظيفي الفاعل .وفي الوسط الحضري تعد الحياة الشعبية متمثلة كما هي في الأزقة والدرابين والمحلات والأسواق الشعبية والمقاهي ودور اللهو والمساجد ، أهم مغذيات الفعل الانثروبولوجي . كما ان ملاحظة السلوك الوظيفي لموظفي الدولة ومنتسبي الدوائر الرسمية ، يعد جزءاً حيوياً وأساسياً في تنشيط فاعلية الدور الانثروبولوجي في الحياة الاجتماعية .
غير ان إحجام الباحثين الانثروبولوجيين او تقاعسهم عن مشاركة قطاعات الجماهير الشعبية فعالياتهم اليومية وسبل معيشتهم يعد خللاً أساسياً يسهم في تشويه الصورة الاجتماعية للدورالانثروبولوجي الحقيقي في الحياة .
هل ترى أن للانثروبولوجيا دوراً فاعلاً يمكن ان يسهم في تحقيق الوحدة الوطنية او في تغذية وتأجيج الصراعات العرقية والدينية والطائفية؟
– لعلي أرى أن الإجابة على هذا السؤال تعد بيت القصيد في الفعل الانثروبولوجي ، ومن أهم التوضيحات التي يجب تسليط الأضواء عليها وخصوصا في المرحلة الراهنة . فالانثروبولوجيا سلاح علمي ذو حدين ، يمكن أن تستخدم لذبح الشعوب ونحرها ، كما يمكن ان تستخدم كأداة من أدوات تنشيط التنمية البشرية وتقدم الشعوب وازدهارها .
ولكي نوضح ذلك نقول : ليس من شك ان الحياة البشرية تستند في قيامها على تفاعل عنصري الاختلاف والانسجام ، فليس هناك في الوجود كيانين متشابهين تمام التشابه حتى على مستوى التوأمة البايولوجية .
وانطلاقا من هذه الحقيقة فان الحياة الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات تتضمن عوامل تقاطع وصراع ،وعوامل توافق وانسجام في آن واحد .
ومن هنا ينطلق الدور الحقيقي للانثروبولوجيا في أي مجتمع من المجتمعات ، وذلك بالتعرف على الأوتار التي يمكن أن تثير عوامل الصراع وتؤججها آو تفعيل عوامل الانسجام وتنشيطها .
لقد كانت الانثروبولوجيا في مطلع ظهورها أداة من أدوات الاستعمار الأوربي في التعرف على عادات وأنماط حياة الشعوب المحتلة لغرض ترسيخ سيطرة المستعمر على تلك الشعوب واستغلال ثرواتها . وقد استمر ذلك الدور حتى بعد استقلال الشعوب وتحررها ، إذ تعمد البعثات الدبلوماسية وفرق الاستطلاع ورجال البحث العلمي والانثربولوجي إلى دراسة المجتمعات قبل التفكير بالهيمنة عليها او محاولة فرض إراداتها عليها او تقسيمها . ولنا من تجربة نابليون في مصر ومن مشروع (كاميلوت) الأمريكي لتقدير حجم الشعور المضاد للشيوعية في تشيلي دليل على ذلك ، كما ان برنامج عسكرة الانثروبولوجيا H.T.S) )الذي اعتمده الجيش الأمريكي في كل من افغانستان والعراق خير مثال يمكن ان يساق للتدليل على ذلك ، فقد شكل الجيش الأمريكي (6) فرق عاملة في كل من العراق وأفغانستان يضم كلاً منها علماء لغة وعلماء أثار وعلماء انثروبولوجيا ومرشدين اجتماعيين ورجال استخبارات وضباط متقاعدين لمتابعة سير العمل ومساندة الفعل العسكري . ولو شئنا التأكد والمزيد لراجعنا تجربة الانقسام في المجتمع السوداني وتجربة انقسام المجتمعات البلقانية ، بل وحتى تجارب دول آسيا والوسطى وبلاد القرم وانهيار الاتحاد السوفيتي ،مع محاولات زرع بذور التفكك والانقسام في بلاد الشام ووادي النيل والمغرب العربي .
ولم تكن التجربة العراقية ، بمناىً عن هذا التخطيط ، فقد سبق الاحتلال الأمريكي قيام مؤسسات البحث الانثروبولوجي العالمية بدراسة واقع المجتمع العراقي والتعرف على أوتار الانقسام قبل الغزو والاحتلال بغية العزف على الأوتار الانقسامية وتفعيلها مع تسكين أوتار الوحدة والانسجام في المجتمع العراقي ، وهو ماحصل فعلاً . وقد راجعت شخصيا العديد من تلك الافكار والدراسات قبل وضعها موضع التنفيذ .
وهكذا تتوضح لنا الصورة جلية واضحةً ، ويتبين لنا الدور الفاعل للنهج الانثروبولوجي ، بالطبع إذا كانت أدوات التحليل والتنفيذ على مستوى عالٍ من المقدرة والكفاءة .
فهل نحن على مستوى مثل هذا الحدث في الدراسة التحليل والفعل .؟
سؤال اترك إجابته للقارئ اللبيب .
هل توجد جذور تراثية عراقية للانثروبواوجيا . وهل هناك محاولات لتأصيل هذا التراث ؟
– لكي نربط موضوع التراث بالانثروبولوجيا لابد من استذكار التاريخ الانثروولوجي اولاً ،ولابد من القول بان مادة الفولكلور تعد مادة أساسية من مواد الدراسات الانثروبولوجية
لقد نشأت الانثروبولوجيا باديء الأمر نشأة وصفية اثنوغرافية قبل أن تتطور مناهج البحث فيها وتتحول نحو الفهم الاثنولوجي التحليلي ، وتلك حقيقة أشار لها ( بيرتي بيتلو ) في كتابه (الانثروبولوجيا: المفهوم والتاريخ ) والذي اصدره قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة وترجمه السيد كاظم سعد الدين .
وانطلاقا من مستوى هذا الفهم فان التراث الشعبي العربي زاخر بالأفكار الاثنوغرافية الانثروبولوجية كأدب رحلات ابن بطوطة وحكاوي الشاطر حسن والعياريين ، وهكذا هو الحال بالنسبة للتراث الشعبي في بلاد الرافدين ، ولعل قصص الميثولوجيا الرافدينية (علم الأساطير) وملحمة كلكامش ،ونزول الإله انانا (عشتار) الى العالم السفلي، وأدب الرحلات وقصص ألف ليلة وليلة وسفرات السندباد البحري ، وحكايا الأطفال و(القصخون)، وغير ذلك ، أدلة تؤشر الجذور التراثية للفكر الانثروبولوجي في الفكر العراقي القديم والحديث ، ويمكن متابعة اغلب تلك الأفكار في مجلة التراث الشعبي وفي بعض الإصدارات والدوريات المتخصصة بأدب التراث الشعبي .
ودون شك فان الوسط الثقافي العراقي يزخر برجال ينصب اهتمامهم على دراسة وتصنيف الإعمال الفولوكلورية والتراث الشعبي ، وفي كل المدن العراقية ، فهناك من يهتم بالتراث الشعبي البغدادي او الموصلي او الحلي او النجفي ……….. وما الى ذلك .
كما أن هناك جمعيات وندوات ولقاءات ينصب اهتمامها على تأصيل التراث الشعبي وتجميعه وتصنيفه ، غير أن تلك الجهود بحاجة إلى تأطير وإشراف أكاديمي اثنوغرافي لتكون في مستوى الجهود الانثروبولوجية العلمية .
* الأستاذ الدكتور / كامل جاسم المراياتي رحمه الله هو أستاذ علم الاجتماع والانثروبولوجيا ورئيس قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة
المصدر: جريدة الزمان العراقية
الرابط: t.ly/06d0x