قصة أول انثروبولوجي امريكي في الريف، صاحب أطروحة “قبائل الريف”
محمد الداودي
بدأ مغامراته أثناء حرب الريف، فكر في الانضمام إلى المقاومة، عاد إلى الريف كعميل في الحرب العالمية الثانية لتحريض السكان ضد فرانكو، كان أستاذا لدافيد هارت في الخمسينات وشجعه على دراسة الريف، صاحب نظريات مثيرة للجدل، وظفت آراؤه من طرف اليمين المتطرف الأمريكي، يتهمه البعض بالتنظير لاغتيال كينيدي وللتصفيات السياسية في الستينات، جاب العالم كله لكنه اعتبر نفسه ريفيا. فمن هو كارلتون كوون؟
كانت البداية في جامعة هارفرد حيث يروي كوون في سيرته الذاتية كيف أن حبه للمغامرة ولسبر أغوار المجهول جعلاه يداوم على محاضرات في الأنثروبولوجيا لأستاذه إرنست هوتن، والذي كانت حكاياته عن الشعوب والحضارات الإفريقية تستهوي كوون، وخاصة تلك المتعلقة بذلك الشعب الريفي في شمال إفريقيا “ذي الملامح السكندنافية والمتعطش للدماء”. كان هوتن متخصصا في شعب الغوانتشي بجزر الكناري، ولم تكن له معرفة عميقة بالريف. ونجده في تقديمه لأحد أعمال كوون يستغرب كيف أن الريفيين لم يقتلوا كوون ويحتفظوا بزوجته. سيكتشف كوون لاحقا بأن ما كان يسمعه عن الريف كان في الكثير من الأحيان نتيجة المبالغات التي لا تخلو منها الصور النمطية. قرر كوون وهو مازال طالبا السفر إلى الريف والتعرف على سكانه. فشد الرحال إلى هناك للمرة الأولى سنة 1924، لكن رحلته في المغرب والتي ابتدأت في الدار البيضاء مرورا بفاس انتهت عند مشارف تازة حيث لم يستطع استكمالها حتى الريف، بسبب ظروف الحرب بالدرجة الأولى. ينتمي كوون إلى عائلة عريقة ومعروفة بمحاربتها للاستعمار البريطاني فكان بالتالي متشبعا بقيم النضال والحرية من الاستعمار، مما جعله يفكر جديا في محاربة الإسبان والفرنسيين إلى جانب الريفيين، لكن رحلته الأولى هذه تطورت بشكل مغاير لينتهي به المطاف في مراكش حيث يروي كيف أنه ذات مرة لاذ بالفرار بين أزقة المدينة هربا من بعض الحمادشة بعدما ضبطوه وهو يصورهم في جامع الفنا.
كانت رحلة كوون الثانية للمغرب السنة الموالية أي في 1925، وقد بدأها من طنجة فتسنى له أن يرى الريفيين لأول مرة عندما لجأ كثيرون منهم إلى هناك هربا من جحيم الحرب وطلبا للاستشفاء. كان كوون مهتما بدراسة الملامح والصفات العرقية للشعوب شأنه في ذلك شأن أستاذه إرنست هوتن، ويندرج ذلك في إطار ما يسمى بالأنثروبولوجيا الطبيعيةPhysical anthropology (التي يعتبر الآن كون وهوتن من أبرز منظريها)، فبدأ بحثه بتصوير وجوه بعض اللاجئين الريفيين ودراسة خصائصها ومقاييسها ، لكنه لم يتسن له الذهاب إلى الريف أيضا هذه المرة بسبب المرض. وفي السنة الموالية أي في 1926 تزوج كوون بماري غوديل وكانت ابنة عائلة معروفة بضباطها الذين حاربوا في الحرب الأهلية الأمريكية وكذلك ضد الهنود. كانت امرأة محبة للمغامرة هي أيضا وكانت في العشرين من عمرها، أما كوون فقد كان ابن الثانية والعشرين. ومباشرة بعد زواجهما، سافر الإثنان إلى المغرب، حيث استطاع كوون هذه المرة الوصول إلى الريف بعد أن كانت الحرب قد شارفت على نهايتها خاصة وأن ابن عبد الكريم كان قد استسلم. كان شهر عسل –كما يصفه كوون- غير عادي ومحفوف بالمخاطر، نظرا للتجارب والمغامرات الفريدة التي عاشها هو وزوجته
يروي كوون أنه التقى في أيامه الأولى في الريف بعض السكان من قبيلة ثيدست بكزناية قرب بوزينب، فسألوه عن أصله، ولما وجدوا أنه لم يكن فرنسيا ولا إسبانيا توجسوا منه، واختلط عليهم إن هو من “الماليكان” أو “الملايكة”. وحسب رواية كوون، رغم أنه قد قرأ الفاتحة أمامهم نزولا عند طلب أحدهم، إلا أنه أحس بأن وضعيته لم تكن مريحة وآمنة، خاصة وأن أحدهم أخبره بأن هناك من يخطط لإيذائه. لكن تدخل شخص اسمه محمد المنبهي من عشيرة أولاد عبد المومن في قبيلة إهروشن حال دون ذلك. يقول كوون بأن تلك اللحظة “أسست لرباط وطيد بين عشيرتين: عشيرة أولاد عبد المومن وعشيرة أولاد كوون”، يعني هو وزوجته. سبق للمنبهي أن حارب في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى، ثم انضم إلى جيش ابن عبد الكريم حيث كان قائدا للمائة. وبعد الحرب لزم المنبهي كوون فكان يساعده في الترجمة والسفر وجمع المادة العلمية والتوسط لدى السكان والأعيان.
استقر كوون وزوجته في قبيلة إهروشن بكزناية. وقد استمر مقامه هناك وبحوثاته الميدانية حتى سنة 1928، وهي السنة التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه من هارفرد. وقد تكللت هذه الدراسة بمؤلف ضخم تحت عنوان “قبائل الريف” Tribes of the Rif 1931. شملت هذه الدراسة جوانب مختلفة من الحياة الريفية بما فيها الجوانب الثقافية والطقوس والمعتقدات الدينية والمؤسسات الاجتماعية. لكنها فوق كل ذلك تميزت بدراسة الصفات العرقية والمورفولوجية التي كانت الشغل الشاغل لكوون في كل رحلاته عبر العالم، فنجده قد أفرد ملحقا خاصا ومطولا بالصور لوجوه من مختلف القبائل الريفية ومن مناطق أخرى في المغرب من أجل دراستها ومقارنتها. وقد اصطحب كوون معه محمد المنبهي في رحلة العودة إلى أمريكا، حيث ساعده هذا الأخير في جمع المادة العلمية وتصنيفها. ويقول كوون بأنه لولا المنبهي لما رأى الكتاب النور يوما ما. كان المنبهي كما يصفه كوون بمثابة “المترجم، والمساعد في البحث، والحارس الشخصي والديبلوماسي المحنك”.
بعد حصوله على الدكتوراه وطبعه لمؤلفه حول الريف، استمر كوون في استكشاف الثقافات الأخرى ودراسة الشعوب والحضارات والآثار الجيولوجية الدالة على أقوام وجغرافيات غابرة. فدرس الأكراد وعرب الجزيرة والشام والفرس والأفغان والألبان والاثيوبيين، كما قام بحفريات أركيولوجية في كهوف ومغارات بطنجة والسييراليون وإيران وأرخبيل أرض النار جنوب الأرجنتين. وتوجد حاليا بعض العظام والأدوات القديمة التي اكتشفها كوون في رحلاته هذه في متحف بيبادي للآثار والإثنولوجيا بهارفرد، بما فيها تلك التي وجد داخل كهوف بمنطقة تازة.
أثناء تدريسه في هارفرد، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكان كوون بحسه المغامر والمتشبث بقوميته تواقا إلى المساهمة في الحرب بعلمه وأبحاثه. فكان أن تطوع للذهاب إلى شمال إفريقيا والريف بالتحديد للخدمة في صفوف مكتب الخدمات الاستراتيجيةOSS (وهي الهيئة التي انتهى عملها بعد الحرب لتحل محلها وكالة الاستخبارات المركزيةCIA). كان الأمريكيون قلقين من إمكانية انضمام فرانكو لهتلر في الحرب، فكانت مهمة كوون وهو الخبير بالريف أن يعمل على خلق مشاكل لفرانكو داخل منطقة الحماية وذلك بالاتصال بالأعيان لخلق القلاقل وتحريض الريفيين ضد الحكم الإسباني. لكن فرانكو لم يدخل الحرب فجمدت مهمة كوون. كان من بين مهام كوون في شمال افريقيا أيضا تزويد المقاومة الفرنسية للنازية ولحكومة فيتشي في الجزائر بالسلاح ويتضح من خلال كتاباته عن الموضوع أنه كان مؤمنا أشد الايمان بما كان يفعله أثناء الحرب. كانت تحركه قناعة راسخة بأن القضية التي كان يحارب من أجلها قضية نبيلة في مواجهة شرور الديكتاتورية، وبأن تلك الحرب كانت مصيرية للشعوب والأمم التواقة للحرية. لذا نجد كوون بعد الحرب يولي اهتماما كبيرا لما يسميه بالاستقرار والسلام العالميين اللذين كانا تحت تهديد هتلر وأمثاله. وقد بعث برسالة إلى رئيسه في مكتب الخدمات الاستراتيجية ويليام دونوفان يدعوه فيها إلى تأسيس نخبة سرية لا تمت بصلة إلى السياسيين أو الأكاديميين تكون مهمتها تصفية كل من يشكل خطرا على السلام العالمي وعلى الاستقرار. وبسبب هذه الوثيقة، تتهم بعض نظريات المؤامرة الرائجة في أمريكا كوون بأنه كان من المنظرين للاغتيالات التي أودت بحياة مجموعة من السياسييين بمن فيهم الرئيس كينيدي. يقول كوون بأن تجربة هتلر علمتنا بأنه لا يمكننا أن نقع في الخطأ مرة أخرى. وقد كان هذا الوازع نفسه ما جعله بمعية باحثَيْنِ أنثروبولوجييْنِ آخرين يتبنى مشروعا “للولايات المتحدة العالمية” أشبه ما تكون بالأمم المتحدة التي أسست لاحقا لكن أكثر قدرة على ضمان الاستقرار وتفادي حروب مستقبلية. كان تبني كوون لهذه الأفكار في تلك الفترة خاليا من الاعتبارات الأخلاقية في قضية إقحام الأكاديميين والعلماء في الحروب، وهو خلاف ما نجده حاليا من نقاش كبير داخل الأوساط الأكاديميية في أمريكا حول دور بعض الباحثين الأنثروبولوجيين في العراق وأفغانستان أو بعض علماء النفس في معتقلات غوانتانامو وباغرام.
انتهت الحرب إذن لكن شغف كوون بالبحث في الأعراق الإنسانية والاختلافات بينها وكذا أصل هذه الاختلافات لم ينقطع. وقد قادته أبحاثه إلى خلاصة ذات نفحة داروينية مفادها أن تطور البشر من الإنسان المنتصبHomo erectus إلى الإنسان الحديث العاقلHomo sapiens لم يحدث في نفس الفترة الزمنية، بل حدث على خمس مراحل مختلفة ومتفاوتة أعطت لنا خمس أعراق أساسية هي العرق الزنجي، الأسترالي، المونغولي (شرق آسيا وهنود أمريكا الأصليون)، جنس رأس الرجاء الصالح (وجنوب شرق افريقيا) ثم العرق القوقازي وهو الذي يشمل كل أوربا والبحر المتوسط بضفتيه وصولا إلى أفغانستان وروسيا شرقا. وهو العرق الذي اعتبر كوون أن الريفيين هم جزء منه.
وقد شرح كوون نظريته هذه في كتابه المهم والمثير للجدل “أصل الأعراق” The Origin of Races 1962. من بين ما أثار الجدل في هذه النظرية هو أنها تعني بالضرورة أن ثمة أعراقا أكثر حضارة وتطورا من أعراق أخرى لأنها مرت إلى الإنسان الحديث قبل مثيلاتها، وهو ما يشرحه كوون قائلا أن العرق الزنجي مثلا قد تطور مائتي ألف سنة بعد العرق القوقازي، وهو ما اعتبره كثيرون طرحا ذا بعد عنصري، خاصة في خضم الجدال المعروف تقليديا بين جامعة هارفارد بتوجهها العرقي في الأنثروبولوجيا وجامعة كولومبيا في نيويورك بتوجه كان يميل إلى الإيمان بالنسبية الثقافية. وقد أدت الانتقادات الشديدة التي كان يوجهها أكاديميو كولومبيا لكوون إلى أن يستقيل هذا الأخير من منصبه كرئيس للجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا الطبيعية. حري بالتذكير أيضا أن هذه الفترة أي أوائل الستينات عرفت تنامي حركة الحقوق المدنية والتي أعطت للتاريخ زعماء أمثال مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس. وقد كان أعداء هذه الحركة من اليمين المتطرف أو حركات التفوق الأبيض المعادين لأية مساواة بين البيض والسود يستغلون كل ما من شأنه أن يحول ضد إقرار هذه المساواة فكان أن وظفوا نظرية كوون في الأعراق للاستدلال على أن السود أحدث تطورا في سلم الحضارة وبالتالي فهم لا يستحقون منحهم نفس الحقوق كالبيض. لم يثبت أي دعم لهذا الطرح من طرف كوون لكن سكوته قد تكون له دلالاته أيضا.
كان كوون قد انتقل بعد الحرب العالمية الثانية من جامعة هارفارد للتدريس في جامعة بنسيلفانيا، وهناك التقى تلميذه دافيد مونتغومري هارت والذي أخذ من كوون شغفه بدراسة الريف. واستمرت صداقتهما فيما بعد حيث استقبل هارت كوون في المغرب بعد الاستقلال أكثر من مرة.
يمكن اعتبار كون آخر الأنثروبولوجيين الطبيعيين، لكنه قد يكون أيضا آخر الأنثروبولوجيين الموسوعيين، إذ شملت أبحاثه وكتاباته الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الآثار وعلم الإستحاثةPaleontology، بالإضافة إلى الإنتاج الأدبي وبالتحديد في مجال ما يسمى بالرواية الإثنوغرافية، أي الرواية التي تستمد موضوعها ومادتها من المعطيات المتوفرة حول ثقافات الشعوب وتقاليدها، بل إن كوون كان من الرواد القلائل لهذا النوع من الرواية. وإنه ليس من الغريب أن يكون موضوع الروايتين الوحيدتين اللتين أنتجهما كوون في هذا المضمار هو الريف والحياة الريفية، أولا برواية “لحم الثور الجامح” Flesh of the Wild Ox 1932، ثم بعد ذلك برواية “الريفي” The Riffian 1933. لقد كان كوون يشعر بتعلق شديد نحو الريف وقد كتب ذات مرة أنه كان يستطيع فهم لغة الريفيين وحديثهم حتى في أيامه الأولى في الريف لأن عقله وعقل الريفيين يعملان بنفس الطريقة. كتب كوون ما مجموعه عشرون كتابا في الأنثروبولوجيا الطبيعية والثقافية وعلم الاستحاثة والآثار والإثنوغرافيا وأدب الرحلة والسيرة الذاتية والرواية، وقد اعتبر نفسه مشدودا عاطفيا إلى الريفيين أكثر من أي شعب آخر قام بدراسته. يقول كون في سيرته الذاتية: “إن ما كتبته حول الريف لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر كتبته بعد ذلك لأنني كنت ريفيا”.
المصدر: جريدة “تيفراز” – يونيو 2009