قراءة في كتاب “ما وراء الحجاب”
تقديم : عبدالله سامي أبولوز
هذا الكتاب هو مختصر لأطروحة الدكتوراة التي تقدمت بها د. فاطمة المرنيسي (1) عام 1973، تحاول فيها دراسة مفهوم الجنس وتمثلاته في التصور الإسلامي وما قبل الإسلامي وأثر هذه التمثلات المفهومية على طبيعة دور المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية. يمكن اعتبار ما وراء الحجاب بمثابة مرجع أساسي لدى الأكاديميا الغربية عن تمثلات المرأة في الإسلام وخصوصًا ما يتعلق بالحجاب ومعناه. يسجل موقع جوجل سكولار 1920 استشهاد بهذا الكتاب وهو رقم جدير بالاحترام، أخذًا بعين الاعتبار كمية الاستشهاد بالمقالات التي تقتبس فاطمة مما يزيد من تأثير ونفوذ أفكارها. ما يثير الانتباه، هو خلو ساحة الأكاديمية الغربية من أي نقد واعي لكتاب الدكتورة فاطمة على الرغم من انتشاره، وهي ملاحظة توافقني فيها الدكتورة كاثرين بولوك (2) -وهي ابنة الأكاديميا الغربية- في كتابها نظرة الغرب إلى الحجاب، حيث تقول في إشارة إلى التحيز في القراءات الغربية : “إن الكُتّاب يجنحون لاستخدام كتاب المرنيسي حجة في المجال، بدلًا من إخضاع عملها لنقد متكامل. وكلما كان الكتاب أبعد عن مجال المرأة والإسلام، أخذو كلامها بوصفه حقيقة الإسلام”. ومن هنا كانت الحاجة لدراسة هذا الكتاب الهام.
يتكون الكتاب من تسعة فصول سأناقش الفصول الأربعة الأولى، على اعتبار أنهما الفصول النظرية الأساسية التي تُقَعِّد من خلالها المرنيسي لصورة المرأة في الإسلام مستخدمتًا الحجاب كمجس نبض لكشف تصور الإسلام عن المرأة.
الفصل الأول : التصور الإسلامي لحياة جنسية فعالة لدى المرأة
تعالج المرنيسي في هذا الفصل الفرق بين التصورين المسيحي الغربي والإسلامي عن الجنس. فتصف الأول بالتصور الذي يمزق الفرد بين ثنائيات حدية كالخير في مقابل الشر، أو الجسد في مقابل الروح، أو الغريزة في مقابل االعقل. بينما ترى أن التصور الإسلامي يقترب من تصور اللبيدو عند فرويد، حيث الغرائز عبارة عن طاقة خالصة ذات قوة دافعة مجردة عن توصيفات الخير والشر، فمذمومية الغرائز لا تنبع من ذاتها بل هي عرضية تتغير بحسب تأثيرها على المجتمع، حيث أن الفرد لا يعيش إلا ضمن منظومة اجتماعية تحدد معايير التحسين والتقبيح. وبذلك يكون تصريف الغريزة محمودًا فقط إذا ما كان وفقًا لتوجيهات الشريعة.
وتستنطق المرنيسي في ذلك أبو حامد الغزالي في سلسلة من الاستشهادات من كتابه إحياء علوم الدين، حيث ترى أن الإسلام قام بتوظيف الغريزة الجنسية في سبيل إقامة نظام اجتماعي جديد في الجزيرة العربية. حيث أن الغريزة ذات طبيعة أرضية/سماوية، تستحث الهمم من خلال اللذة المؤقتة الأرضية لتصبو إلى اللذة السماوية اللدائمة.
تعرض المرنيسي تقسيم جورج موردوك للمجتمعات بحسب وسائل ضبط الغرائز الجنسية وتخالفه في شقه الثاني الذي يرى فيه أن المجتمعات التي تأخذ الاحتياطات الاجتماعية كقواعد سلوكية تُفرق بين الجنسين، في مقابل شقه الأول حيث تتبع المجتمعات تعميق الموانع الجنسية لدى الأفراد، فترى المرنيسي أن التعويل هو على التصور المجتمعي عن الفعالية الجنسية، فالمجتمعات التي تعزل المرأة وتراقب تصرفاتها ترى أن دور المرأة فعال. وتستشهد بقاسم أمين الذي يرى في الحجاب وسيلة تفرقة بين الجنسين، حيث تكون المرأة أقدر على الرجل من التحكم في ميولها الجنسي، وبالتالي فإن هذا العزل هو في حقيقته : وسيلة لحماية الرجل وليس المرأة، حيث أن النساء في مجتماعتنا لا يحبذن الحجاب ويتحملنه مكرهات، ويخلص إلى أن مصدر الخوف هو فتنة النساء، التي تعني بشكل أو بآخر افتقاد النظام والفوضى.
ترى المرنيسي أن المجتمع الإسلامي يحمل نظريتين علنية وأخرى ضمنية عن الحياة الجنسية، الأولى منشورة في الإعلام ويمثلها عباس محمود العقاد التي يرى فيها بأن التفضيل في القرآن للرجال على النساء هو حتمية تاريخية. أما النظرية الضمنية “المكبوته” يمكن استشفافها من خلال مؤلف الإمام الغزالي إحياء علوم الدين في باب آداب النكاح والذي يرى فيه الغزالي، بحسب تأويل المرنيسي، بأن الحضارة مجهود يهدف إلى احتواء سلطة المرأة الهدامة والكاسحة ولذلك يجب ضبط النساء لكي لا ينصرف الرجال عن واجباتهم الاجتماعية والدينية. كما إن بقاء المجتمع رهين بخلق مؤسسات ترسخ الهيمنة الذكورية عن طريق عدة مكيانيزمات من بينهما الفصل بين الجنسين وتعدد زوجات المؤمن. عقدت المرنيسي مقارنة بين فرويد والغزالي لتبيين خصوصية النظرية الإسلامية حول ديناميكية الجنسين. وهي تنبه أن المقارنة ليست بين وضعية المرأة في الغربي المسيحي اليهودي في مقابل الشرق الإسلامي. وتعي أن المقارنة بين نظرية فرويد والغزالي هي مقارنة مع الفارق حيث يرتبط كل منهما بمفاهيم ثقافية مختلفة عن الحياة الجنسية. إلا أنها تخلص إلى “أن النظريتان الإسلامية والأوروبية توصلتا إلى نفس الخلاصة، فالمرأة قوة هدامة للنظام الاجتماعي إما لكونها فعّالة تبعًا للإمام الغزالي أو سلبية حسب رأي فرويد”.
ونلاحظ أن المرنيسي لا تقوم بسرد الاقتباسات للتدليل على صحة استدلالاتها بخصوص الإمام الغزالي في هذه الجزئية من الكتاب، وقد اطلعت على نظرة الإمام الغزالي فيما يخص الزواج/ النكاح واتضح لي عدم تبني الغزالي لهذه النظرة، فهو يرى أن الأساس الذي يقوم عليه النكاح هو العبادة والتوجه إلى الله والإعانة عليه، وفي ذلك تكون المفاضلة بين آفاته وفضله. ولم أجد من الشواهد ما يؤيد نظرة المرنيسي التي استنطقتها من الغزالي في كتابه آداب النكاح.
تقدم المرنيسي نصًا واحدًا تلوي من خلاله ذراع نص الغزالي، حيث تغيب في قرائتها النظرة السياقية للنص، ولا تأخذ البعد التاريخي الثقافي للمُستشهد به، يقول الغزالي ما يلي في تلك الفقرة :
“وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة فهو أعدل، إذا عدد النساء أربعًا فجاز له التأخير إلى هذا الحد، نعم ينبغي أن يزيد وينقص بحسب حاجتها في التحصين، فإن تحصينها واجب عليه، وإن كان لا يثبت المطالبة بالوطء فذلك لعسر المطالبه والوفاء بها، ولا يأتيها في الحيض، ولا بعد انقضائه وقبل الغسل”، وهذه الجملة تندرج تحت آداب الجماع حيث يخاطب الغزالي الزوج بشأن السلوك الصحيح للرجل في الجماع، فيوصيه بشكر الله قبل المباشرة وأن يقدم الملاعبة، وأن يحرص على وصول الزوجة إلى لحظة الذروة مثله، كما يوصي بأفضل أيام الأسبوع للمعاشرة، والأيام التي ينبغي تجنب المعاشرة فيها.
وتستخلص المرنيسي بطريقة عجيبة أن الغزالي ينظر إلى حاجات الأنثى الجنسية برهبة، وأنه يقر بالصعوبة التي يلاقيها الرجل في إشباع المرأة. والحق أن هذا محض تأويل لا أصل له، فلو قرأنا هذه الفقرة القصيرة في سياق الفصل الذي ترد فيه فستجد ببساطة أن للنساء شهوة جنسية على الرجال واجب اشباعها، وقد يصعب على الرجل أن يعرف إذا لم تصرح له زوجته ما إن كانت غير مشبعة جنسيًا، ومن المفيد هنا أن نذكر قول الغزالي عن أن الرجال والنساء جميعًا: مثقلون “بعبء الشهوة الجنسية”.
إن العفة لدى الغزالي تعتبر مفهومًا مركزيًا تتمحور حوله رؤيته لوجوب إشباع المرأة والرجل جنسيًا، ومن هنا فتفسير المرنيسي لنص الغزالي على أنه رهبة وخوف من المرأة لا معنى له، فيمكن رؤيته من منظور الحرص على المرأة والتأكيد على حقوقها الجنسية التي قد لا ينتبه لها الرجل، حيث أن المدة الكافية لإفراغ شهوة الرجل قد تكون أقصر من المرأة فلا يراعي بذلك حاجتها، وبهذا يكون التفسير أكثر اتساقًا مع جملة ما أتى به الغزالي في فصله عن الزواج. ترى المرنيسي أن خوف الغزالي من أن شهوة المرأة الغير منقضية قد تدفعها للبحث عن الجنس في خارج الإطار الزوجي وهذا مؤذنٌ بتهديد أمن المجتمع وانتظامه، إلا أن ذلك يسري على الرجل كما المرأة فكلاهما قد يذهب خارج إطار الزوجية لإفراغ حاجته إن لم يجدها في بيته.
إن ما سبق يمكن اعتباره بنيةً تحتية أقامت عليها المرنيسي هجومها على الحجاب، وقد رأينا غرابة المنهج المتبع، فلا يمكن اعتبار قرائتها للغزالي صحيحة بأي حال. إن القارئ المعاصر قد يلاحظ في نص الغزالي، خطابًا موجهًا للذكور تغيب فيه المرأة، فهو يوجه الرجال في اختيار زوجاتهم الصالحات، ويعطيهم مقياسًا لموازنة محاسن وآفات الزواج. ونلاحظ أن كثيرًا مما يعده الغزالي محاسنًا في المرأة كاعتناء المرأة بشؤون منزلها وتربية الأطفال وما إلى ذلك، تتشابه مع ذات التوجيهات التي يتلقاها الرجال في أيامنا هذه، وما أفهمه من هذا، ليس أن هذا رؤية الإسلام أو رؤية العقلية الإسلامية في كونها ذكورية، بل هي رؤية ذات خصوصية تاريخية ثقافية، حيث يخلط الغزالي في توجيهاته بين تقاليد وأعراف مجتمعه وزمنه في تفضيلات الزواج مع ما يراه توجيهًا إسلاميًا، وهذا مفهوم أنثروبولوجيًا من حيث أن الدين له تمثلات مختلفة بحسب السياق التاريخي والمكاني الذي يرد فيه. إن ملحوظات الباحثة روث رود في كتابها “النساء في التراجم الإسلامية” دالة على تأثير البعد التاريخي في تصور المرأة، حيث تفاجئت من الزيادة المفاجئة للنساء المترجم لهن في تراجم القرن الخامس والسادس والسابع، وقد أوردت عدة أمثلة لعلماء، أحدهم شكلت النساء ثلث شيوخه الذين تلقى عنهن العلم، في مقابل تراجع في عدد النساء المذكورات في التراجم منذ القرن العاشر فما بعده.
إن طبيعة علاقة المرأة بالرجل في الزواج غير محصورة بتاتًا بحدود المنزل، والدليل على ذلك من المدونة الفقهية، فلا يجب على المرأة أن تعتني بشؤون المنزل أساسًا، ولا حجية لتفضيلات الغزالي الثقافية هنا، بل إن بعض الفقهاء أوجبوا على الرجل أن يحضر خدمًا لأزواجهم؛ ويعضد ملاحظات الباحثة روث رود تحليل الدكتور محمد عمارة للحضور النسائي في التراجم الإسلامية حيث توصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا كانت ثمانیة آلاف ترجمة للصفوة اشتملت على ألف ترجمة نسائیة فمعنى ھذا أن التحریر الإسلامي للمرأة والذي تمَّ في أقل من ربع قرن من الزمان دفع بواحدة من كل ثمانیة لمراكز الریادة وھي أعلى نسبة للریادات النسائیة في أي ثورة من ثورات التحریر على حد تعبيره. إن دعوى تحييد المرأة من الفضاء العام واستبعادها من الأمة، ليست دعوةً جديدة، فقد شعرن نساء المسلمين في زمن الرسول بهذا التضييق ونزلت عدة آيات تشير بشكل توكيدي لمكانة المرأة الأساسية في التصور الإسلامي ومنها : آل عمران 195، والنساء 32، والأحزاب 35.
الفصل الثاني : الرقابة على حياة المرأة الجنسية في الهندسة الاجتماعية
تستهل المرنيسي هذا الفصل بوصفها العصر الجاهلي بأنه كان عصر إباحية وانحلال نظرًا لأنها لم يكن يخضع لمراقبة؛ وتقوم بذكر عدة وسائل سعى من خلالها النظام الإسلامي الجديد، لضبط ورقابة المرأة في حياتها الجنسية وترسيخ مبدأ سيادة الرجل، والذي بحسب توصيفها يشكل ثورة على تقاليد الجزيرة العربية فيما قبل الإسلام، وأهمها ما يلي:
1- التعدد : ان اندفـاع الرجل الجنسـي قد يفرض مضاجعته لأكثر من شريكة واحـدة حتى يخفف من توتره الروحي والجسدي على السواء. حيث يورد التعدد تأثيرًا نفسيًا بحسب المرنيسي على إحساس الرجل والمرأة بالكرامة، فهو يرسخ التصور الذي يملكه الرجل عن ذواتهم ككائنات جنسية قبل كل شيء ويعزز البعد الجنسي للخلية الزوجية وهو كذلك وسيلة يمارس بها الرجل إذلال المرأة ككائن جنسي بما أنه الدليل الأكبر عن عجز هذه المرأة عن إرضائه. وهذا قولٌ متحامل في توصيف التعدد، ففي التعدد محاسن خصوصًا في أزمنة الحروب التي يقل فيها الرجال وثكثر فيها النساء والأطفال والشيوخ. وقد ذهب بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى أن الأصل في الزواج في الإسلام هو من واحدة، كمحمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه “تشريعات العائلة في الإسلام”، والشيخ محمد مدني وشرط الضرورة للتعدد (3)، بالإضافة إلى أن نمط الزواج المتعدد للذكور من الإناث عرفته نظمًا ثقافية أخرى -Polygamy- وليس بدعةً جديدة أتى بها الإسلام . تكفي الإشارة إلى وجهتي النظر المختلفة في السياق الإسلامي، فلا يتسع المقال لمناقشة حجاجية مطولة في هذه القضية. فنقتصر على توضيح ضيق النظرة التي تقدمها المرنيسي واختزاليتها في تقديم مسألة التعدد.
2- الطلاق : يرتبط الطلاق على تفسير مرتبط بالغريزة شأنه في ذلك شأن التعدد، حيث أن الطلاق يرتبط بجانب الملل الذي قد يعرفه الرجل في حياته الزوجية بحيث يشكل بالنسبة إليه حماية ضد خطر الزنى. وتستنطق الغزالي مرة أخرى حيث يقول ” فإن يسر الله له مودة ورحمة وإطمأن قلبه بهن، وإلا فيستحب له الاستبدال” ولا أرى في توصيف الغزالي للاستبدال هنا تبعيةً للغريزة بل هو ما يجب أن يقوم عليه كل زواج، فكيف يبقى الإنسان في علاقة مع آخر إذا انعدمت المودة والرحمة واطمئنان القلب !
3- تحريم ارتكاب الزنى.
4- العدة كضمانة إسلامية للأبوة: يأتي نقاش هذه النقطة في الفقرة االتالية.
وتواصل المرنيسي حديثها فتصف النظام الإسلامي بأنه يقف موقفًا عدائيًا واضحًا من كل مبادرة تقوم بها المرأة لتقرير مصيرها فيما يخص عقد الزواج، كما يدل على ذلك شرط وجود الولي لإتمام عقد الزواج ويشكل الخوف من تقرير النساء لمصيرهن محور نظام الأسرة في الإسلام. وفي هذا نتفق مع المرنيسي جزئيًا، حيث نوافقها في أحقية المرأة في تحديد مصيرها ونخالفها في أن نظام الإسلام يقف موقفًا عدائيًا في ذلك فللمرأة الخلع ولها الحق باللجوء للقاضي إذا رفض أبوها تزويجها من رجلٌ عدل كما تنص المدونة الفقهية، وللمرأة أيضًا حق المطالبة بأن يكون أمرها بيدها، أي أن تكون العصمة بيدها فتطلق نفسها متى شاءت، ويحق لها أن تشترط أن لا يتزوج الرجل عليها إمرأة أخرى. وترى المرنيسي أن هذا من بقايا الاتجاهات الأمومية في العصر الجاهلي أو عصر ما قبل الإسلام والتي تذكر بحق المرأة في تقرير مصيرها وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
الفصل الثالث والرابع : “الحياة الجنسية والزواج خلال العصر الجاهلي” و “الواقع المعاصر: وصف المعطيات”
تتحدث المرنيسي هنا عن الاتجاهات الأمومية في المجتمع العربي قبل الإسلام وتعتمد في ذلك اعتمادًا كليًا على مؤلف روبرتسون سميث المصدري (القرابة والزواج في فجر الإسلام، Kinship and Marriage in Early Arabia ) والذي يقول بوجود النظام الأمومي في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وتكمن إشكالية هذا الكتاب في أنه محل شك عند العديد من الباحثين، تقول روث رودد (4): “غالبًا ما تُهمَل حقيقة أن تحليل سميث الرائع دون شك يفتقر إلى دليل ملموس، وكما أشار متخصصون في الإسلاميات في زمانه إلى أن تأويله لبعض الحقائق غير موثوق”.
وفي هذا نذكر ما قالته غيردا ليرنر والتي تعد إحدى مؤسسات ميدان تاريخ النساء حيث تقول في كتابها “نشأة النظام الأبوي”: “يهدف البناء الفرضي الذي سأقدمه إلى أن يكون واحدًا من بين عدد من النماذح الممكنة فحسب. حتى في المنطقة الجغرافية المحدودة للشرق الأدنى القديم لا بد أن هناك طرقًا كثيرة مختلفة حدث فيها الانتقال إلى النظام الأبوي. وبما أنه من المرجح جدا أننا لم نعرف أبدًا ما حدث تمامًا، فنحن مجبرون أن نتأمل في ما يمكن أنه كان محتملًا”.
وقد شككت الفليسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار في هذه الفرضية من الأساس في كتابها “الجنس الآخر” والموصوف بـ(إنجيل الحركة النسوية)، إذ ذكرت فيه هذه الفرضية التي عرضها باشوفين ونقلها عنه إنجلز معتبرًا أن الانتقال من عهد سيطرة الأم إلى عهد سيطرة الأب انكسار تاريخي كبير للجنس النسائي، وقد سخرت بوفوار من افتراض وجود سيطرة حقيقية للنساء في الأزمنة البدائية، وأردفته بقولها: “والحقيقة أن هذه الفترة الذهبية من تاريخ المرأة ليست سوى أسطورة”.
ويكفي الرجوع إلى مقالة جرجي زيدان “أنساب العرب القدماء” التي يفند فيها رؤية روبرتسون سميث عن الأمومية وأصلها الطوطمي عند العرب في الجاهلية، القائمة في أغلبها على احتقار أقوال رواتهم ونسابيهم وشيوع مذهب الارتقاء في قواعد العمران والذي يرى أنه كان دافعًا لمفكري الغربب لرد كل شيء إلى أسباب مادية. تخلص المرنيسي في هذا الفصل إلى أن رؤية الرسول وتجاربه الشخصية وقناعاته وبنية المجتمع السابق الذي حاربه هي من شكلت مؤسسات وخصائص المجتمع الإسلامي الجديد، وليس الوحي. ويكفي أن ننقد الأساس الفكري الذي قام عليه الحجاج في هذا الفصل لنبين ضعف مقولات المرنيسي.
وفي نقد منهجية المرنيسي تقول كاثرين بولوك : “مشكلة المرنيسي أنها تطابق بين ما تجده في تجربتها في المغرب وبين عموم الإسلام، فليست كل المجتمعات الإسلامية أو الطبقات تعزل النساء وتفصلها أو تحجبها، كما يحدث في بعض البلاد العربية من حشر للنساء في غرف منفصلة للصلاة وفصل المطاعم والحافلات والمصارف، وجعل صوت النساء عورة لا يجوز لها إلا أن تتحدث بالهمس في حضرة الرجال الأجانب. ولذلك فمدى اعتبار المسلمين للنساء ككائنات جنسية يلزم لها سيطرة ذكورية، يمكن أن يكون موضوع دراسة أنثروبولوجية سوسيولوجية لجماعات معينة في أوقات وأماكن بعينها” بحيث تكون هدفها دراسة الصورة الجمعية للمرأة في مخيلة المجتمع، وليست دراسة رؤية الإسلام للنساء.
وأما الإشكالية الأخرى التي لم تتنبه لها المرنيسي هي أن حجية الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومقولات الغزالي لا تصلح أن تكون كلها براهينًا من نفس مستوى الحجية عن نظرة الإسلام للنساء. ولذلك تشير بولوك بملاحظة لم يتنبه لها المحتفلون بكتابات المرنيسي في الغرب، على الرغم من شدة وضوحها على المستوى المنهجي، حيث ينبغي على الباحث في أي دراسة اجتماعية أن يضع كل القوى التي تشكل أيديولوجيات الناس وثقافتهم على قدم المساواة، وبهذا قد تكون حكاية شعبية مصدرًا أساسيًا يقدم الرؤية الكونية للناس. وذلك لا يكون صحيحًا إلا إذا كان الهدف هو فهم الناس وهم يعيشون حياتهم. أما عندد تقديم وصف للإسلام بوصفه عموم الإسلام، فلا يمكن أن تكون الحكايات الشعبية مصدرًا علميًا ( كما تفعل في فصلها الرابع وما بعده). ولو حددت المرنيسي نفسها بمقولة مثل : “هكذا كان يطبق الإسلام في المغرب” لحظيت بدعم الكثير من المسلمين في العالم ولكنها لم تفعل ذلك. بل تقول أن هذا النموذج الإسلامي هو ما يريده كل مجتمع يطبق شرعه.”
مصادر التشريع القرآن والسنة وأفعال الصحابة وأراؤهم وأقوال التابعين والإجماع والعرف والقياس والمصالح المرسلة وغيرها. وبناءً على ذلك لا يمكن اعتبار تطبيق الشعوب المسلمة للإسلام هو ما يأمر به الإسلام نفسه. ولذلك يجب على الأنثروبولوجي وعالم الاجمتاع أن ينظرا للتقاليد المغربية المتعلقة بالنساء على أنها تجسيدًا لمزيج من تشريع القرآن والسنة عن طريق المذاهب، بالإضافة إلى التقاليد والأعراف المحلية، كما يؤخذ بعين الاعتبار تأثير العوامل الإقتصادية والسياسية لفهم كيفية تطور التقاليد المحلية، وتطور المذاهب وكيفية تفاعلها مع تقاليد وأعراف المجتمع، وينظر في ذلك أيضًا أثر الاستعمار والتغريب واستيراد القوانين الغربية ودمجها في القوانين المغربية، وهذا ما كان يقصده بوهديبة عندما أشار إلى التعددية في الإسلام : ” لا يوجد مجتمع مسلم واحد، بل عديد من الأبنية الاجتماعية تدّعي كلها الانتساب إلى الإسلام”.
تعليق أخير
يحار المرء في ترنح المرنيسي التوصيفي، فتارة تتحدث عن التصور الإسلامي، وتارة تتحدث عن تصور المجتمع الإسلامي. فلا يعلم القارئ أهي تقصد بتوصيفها جوهر تصور الإسلام عن المرأة، أم تمثل الإسلام وتفاعل الشعوب مع نصوص وتمظهر الديني في الشعبي. إن الأرضية التي بنت عليها المرنيسي رؤيتها للحجاب كأداة للفصل بين الجنسين، ذات دلالة جنسانية، تحصر المرأة في أنوثتها الجسدية وتحول بينها وبين عيش نمطها الجنسي الذي تميل إليه بحرية، هي أرضية متشككة في جدوى التدابير التنظيمية الأخلاقية والتشريعية التي يتخذها الإسلام (والأديان الآمرة به عامةً) (5). إن هذا النزوع يقوم في أساسه على مساءلة جوهر الجندر، فإذا كان جوهر التصور الديني للأنثى يراعي تأثير كلا الجندرين (الذكر والأنثى) ويدعو الطرفين للاحتشام آخذًا خصائص كل جندر في عين الاعتبار، فإن المرنيسي تشكك في هذه الخصائص وتسائلها وتنظر لها على أنها ليست إلا تمثلًا ثقافيًا، في حين يعمم الدين هذه الخصائص على كل الثقافات. سيبقى السؤال مفتوح حول ماهية الجندر، ولن ينتهي الجدال الذي يحاجج في قضية لزوم الله (أو أي كيان متعالي ومفارق) لتبرير الأخلاق في مقابل من يرى إمكان تبريرها بحيثيات تنتمي لعالمنا (أي تبريرات دنيوية).
إريد الإشارة إلى أنني لا أدافع هنا عن نظرة الدين –الإسلام على وجه الخصوص-، ولست مهمومًا بشرح فضائل الحجاب أو تبريره، ولكن أرى في كتابات المرنيسي انتقائيةَ، واختزالًا ثقافيًا، بالإضافة لاستلاب ثقافي، وذلك يتمثل بمحاولة تعميم وفرض نظرة سياقية ذات خصوصية ثقافية على أخريات بخصوصيات مختلفة. ولذلك، كان الهدف من قرائتي هو محاولة إظهار هذه الجوانب من كتابها، وبذلك يكون هذا الوقوف على نقاط الضعف في الكتاب مساعدًا في تقييمه.
الهوامش
1- فاطمة المرنيسي (مواليد 1940، فاس – 30 نوفمبر 2015) كاتبة وعالمة اجتماع وكاتبة نسوية مغربية، ولدت بفاس وسجلها أبوها في أوائل المدارس العربية الوطنية الخاصة التي أنشئت لكي لا يدرس أبناء الوطنيين في مدراس فرنسا الاستعمارية. تابعت دراستها بالرباط ثم فرنسا فالولايات المتحدة ومنذ الثمانينات أصبحت مدرسة في جامعة محمد الخامس بالرباط. يمكن تصنيف الدكتورة فاطمة المرنيسي ضمن تيار النسوية العلمانية برفقة العديد من النسويات في المغرب العربي كألفة يوسف ومنجية السوايحي ورجاء بن سلامة وغيرهم.
2- كاثرين بولوك، استرالية كندية، تحمل شهادة الدكتوراة في علم السياسة من جامعة تورنتو، وتعمل كمحاضرة حاليًا في قسم العلوم السياسية، يتركز تدريسها على الإسلام السياسي بنظرة عالمية، وتبحث في قضايا المسلمين في كندا، تاريخهم وخبراتهم المعيشية المعاصرة، وانخراطهم المدني والسياسي، وتناقش مواضيع الحجاب، وتمثلات الإسلام والمسلمين في الإعلام. أسلمت في عام 1994 م بعد دراستها للإسلام في أثناء تحضيريها لرسالة الدكتوراة.
3- باجلان، جمال محمد. المرأة في الفكر الإسلامي، دار المعرفة، بيروت، 2017، ص 216-217.
4- البروفيسور روث رودد Ruth Roded في الجامعة العبرية في القدس، متخصصة في دراسات الشرق الأوسط الاجتماعية والثقافية التاريخية، تتركز اهتماماتها منذ أكثر من عقدين على قضايا المرأة والجندر. لها عدد من الكتب منها “النساء في التراجم الإسلامية” ترجمته دار جداول، وكتاب “مقدمة للمرأة في الإسلام والشرق الأوسط”.
5- الجهني، إبراهيم ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر: الحجاب أنموذجا، مركز نماء للبحوث و الدراسات، جدة، 2015، ص 292-294.