في منطق السحر

قسطاني بن محمد

منذ التواصل الأصلي مع الغير ومع الأشياء الطبيعية حاول الإنسان دوما اختزال العالم. التواصل إذا أصل الدلالة والمعنى المنزوعين من الأشياء والتفاعل مع الآخر. الأنا؛ والأشياء؛ والآخر، والتواصل نفسه هم أركان المعرفة التي استبدل بها الإنسان ضعفه الأصلي ونقصه وحاجته إلى المخالب والأنياب. وبدلا من الذهاب دوما إلى العالم وهو أمر غير ممكن جعل العالم يأتي إليه بالأسماء، أسماء الأشياء وأسماء الأفعال، ثم التعبير عن الحيز والزمن والنعت والحال والانفعال والعاطفة والمبتدأ والخبر، وغير ذلك من حالات اللغة كجهاز معقد به يتم التواصل والتفكير والإدراك والمعرفة.

منذ البداية ارتبطت المعرفة بما هو عملي وتلبية الحاجات، كما أن العملي نفسه ارتبط بالملائمة والتعلم. هي محايثة أصيلة تحتاج دوما إلى تفكيك آليات اشتغالها كفعل إنساني أولي.

علاقة المعرفة بالعمل والتواصل يحتاج إلى العودة إليه، ليس كتأصيل أو بحث باليونتولوجي وإنما كفحص لكيفية اشتغال الأشياء والأفعال بدقة وبالتفاصيل.

ما أن نسمي حتى نبدأ في المعرفة، وما تبدأ المعرفة حتى تشتغل آليات التعلم. هذا الأصل سيال وولود يدمج التمكن في العالم والفعل فيه وتحسين التواصل. وكميتالغة تحاول تفسير كل ذلك. لذلك أنتج الإنسان السحر والأسطورة.

السحر كمعرفة

السحر اختزال العالم، ومحاولة انفصال مؤقت عنه. سواء في التسمية أم في الرغبة، أم في التأثير في أشياء العالم بالبركة وتسهيل العيش، واتقاء المخاطر والشرور، واتقاء العين والحسد وصناعات الحقد. السحر فيه التأثير بالخير والتأثير بالشر، فيه التمنيع والعلاج، فيه الحرب وصناعة أسلحتها. الأمر الذي سيتقوى بالكتابة ليصبح شبه معرفة معيارية نظرية وعملية لها مدارسها وقواعدها القابلة للتعلم وفق شروط تجمع العقلي بالخيالي والسلوكي والوجداني، وكذلك الواقعي بالوهمي.

الخروج من عالم الأشياء والتواجد معها وفي عتبتها لم يكن مكتملا في المقاربة السحرية اللغوية. ورغم ذلك فالمحاولة الأولى هذه جعلت من الإنسان ذلك الحيوان الوحيد الذي يحتاج إلى مخزون من الذكريات والمهارات والأفكار والصور. ذلك الحيوان الذي يحتاج إلى تصنيف وترتيب أشياء العالم.

في البدء كانت الأشياء، كان التراب والماء والريح والعواصف والأنواء والينابيع والاخضرار والنبات والشجر والأسطح المنبسطة والمرتفعة، والزوايا ولقاء الحيزات. ثم جاء النار كصناعة أخرجت الإنسان من الأشياء إلى التحكم فيها.

إدراك الأشياء ليس فرديا، الإنسان وحتى ليس في جماعة فله أم محايثة لوجوده رعته لمدة غير يسيرة وله أب يحميه، وإخوة وأقارب. حتى في الجماعات قبل القبلية هناك دوما دم يجمع، يساعد في الألفة وصناعة المهارات في الصيد والبحث في الأشياء عن أطيبها وكيفية اختصار المسافات. ثم حتى في خصائصها وفوائدها العملية. ليس التعرف على الأشياء وحده يشكل المعرفة الأولى، هناك التعرف على الآخر بقوته وضعفه وصحته ومرضه وانفعاله وعاطفته وسلوكه الذي يلاءم توقعي أو لا يلائمه.

بكل ما سبق يكون الإنسان، حتى البدائي، عالم اجتماع يملك الروح الاجتماعية وروح المعرفة الاجتماعية القابلة للتعلم والتمرير إلى الآخرين والأجيال القادمة ولو بدون قصد، بالجوار والتقليد والمحاولة والخطأ والتفاعل الجالب للمنفعة، ولو حدسا يختصر المسافات ويلبي الحاجات ويفيد الخبرة العملية اليومية.

السحر هو الوجود داخل الأشياء وخارجها في نفس الوقت، اكتساب معرفة سلوك  الأشياء وطبائعها، معرفة متى ستمطر ولو كانت السماء صافية، متى سيجف النهر، متى يجب قطف الثمار وكيف. متى يجب مباغتة الطريدة وكذلك العدو. الساحر خبير بسلوك الأشياء وتقلباته، وبتغيره في المكان وفي صيروراته. ثم خبير بأمزجة الناس وسلوكهم الإنفعالي والعاطفي، ثم محاولة الفعل لفائدة الأفراد والجماعات والأشياء نفسها حتى لا تزول وينهار العالم.

ليس السحر فترة من فترات التطور التاريخي بل هو بعد أصيل في البنية الجسدية والذهنية والعقلية والعاطفية للإنسان. السحر هو عكس الشعوذة، ليس فيه كذب متعمد ولا نصب فائدة، والتوهم فيه مبني على حقائق طبائع الأشياء. هو بركة يريد الإنسان تثبيتها في شيء تجتمع حوله وتنتشر منه هو المقدس. تلك الصفة التي تهبه الاستثمار والاستدامة، والقابلية للتأويل وحتى الاستعمال الريعي.

هو درس نتعلم منه أن الوقائع الاجتماعية قابلة للتلون والتبدل والتفسخ، وهي قاعدة معرفية ثمينة وجد ملهمة في العلوم الاجتماعية.

السحر نظر وملاحظة وعمل وتطبيق وتعازيم وميدان. ليس العلماء إذا من اكتشف الإمبريقية. بل هي متأصلة في البنية الذهنية للإنسان والاجتماع. وقد ينفصل النظر عن العمل، في سياق مؤقت أو في صيرورة طويلة كما في السرد الأسطوري. ورغم ذلك لابد من البحث عن المعاني والدلالات النافعة عمليا أو عبر العبرة، وهي نفس الآليات الذهنية التي تشتغل لدى الإنسان سواء كعالم أم في المعرفة العادية اليومية.

السحر كسرد

للسحر أبعاد وتمظهرات عدة، منها العقائدي الإدراكي؛ والعملي الطقسي؛ ومنها الحكي وإعادة بناء العالم باستعارة الشبيه للشبيه والنمذجة والمجاز. هي بنية فوقية تستعمل حتى تحتية قبل الكتابة. حاول بها الإنسان الإدراك والتذكر والتصنيف والترتيب بتكثيف الدلالة بالصورة والإيحاء والمجاز.

لم تكن الحكايات الأسطورية ترفا، كما لم تكن تعبر عن عقلية ما قبل المنطق أو غياب العقل. بل على عكس ذلك كانت معرفة تتموقع بين العزو في الحياة اليومية ومعرفتها المؤقتة والعفوية والعشوائية، وبين المعرفة المعيارية المعقدة التي تحتاج إلى التعلم والنفس الطويل. هي معرفة لها قواعدها الخفية المطاطة والتي تحتمل ألف تأويل، وبذلك تخرج عن الزمن والمكان، وتصلح للاستعمال العملي والنظري. وهي جد نافعة وواقعية وإن تبدت النصوص موغلة في الخيال والرمزية. معرفة ناجحة وإن تبدت وهما وخرافة.

السحر كحكاية له بنية ومنطق اشتغال، لكنه لا يقتصر على العقل رغم توظيفه له وأحيانا بدقة متناهية، وبذكاء الفهم والتحليل وحتى النقد.

الحكايات هي المعرفة الأولى المنظمة بعد الطقوس الإحيائية واسترضاء روح العناصر. الحكاية عبرة، آية بالمفهوم الديني، من أجل تصويب خطأ، أوتزكية تصرف، أو توجيه إلى فعل. ولما كان الأمر مرتبطا بالملائمة وبما هو عملي، فحتى العقائدي وضع في مصلحة المنفعة العملية.

الحكاية بنية سردية بمنطق داخلي محكم، وبأسلوب لا يخاطب العقل إلا باستعارة أو مجاز. هو منطق غير صوري يلغي الاختلاف. ومن ثمة استعمال التأثير بالغواية الجمالية والدعوة إلى الإعجاب مرورا بالدهشة والتعجب والغرابة.

هل هذه أمور يمكن تجاوزها وتخطيها نحو عقلية علمية صارمة جدية لا مجال فيها سوى للحقائق العارية دون مجاز؟

 

*أستاذ علم الاجتماع، المغرب