في تحاور “الطبيعي” مع “الثقافي” في الفنون التشكيلية المغاربية
زينب بوحاجب
ظهور الفنون التشكيلية في بلاد المغرب ونشأتها:
إنّ مفهوم “الفن المغاربي” من حيث المنظور الغربي- ونقصد بذلك الفن الذي يعبر عن مواضيع أو يمثلها على محمل ثنائي الأبعاد أو من خلال عمل ذي أبعاد ثلاثة في استقلاليّة عن النّزعات الدّينية، هو مفهوم جديد مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الفن المغاربي كوحدة منفصلة عن الفن الغربي والفن العربي ومتّصلة بهما في آن.
ولئن كان الفن الغربي بهذا المفهوم واسعا وتجاوز الحدود الجغرافية للعالم الغربي فاصطبغت بألوانه عديد الثّقافات منذ عصر النّهضة، فإن المغرب العربي بقي متخلّفا، من حيث تبنّيه لهذا الأسلوب التّعبيري نسبيّا ومقارنة بأقطار عديدة أخرى. وسنبيّن من خلال هذا المبحث أسباب هذا التّخلف كما سنبيّن أسباب نشأة ومظاهر وتأثّرات ما تعارفنا على تسميته “بالفن المغاربي”.
وما دام الفن المغاربي كوحدة فعلية حقيقيّة نحسها ونتلمّس الروابط المادية والروحية التي تجمعها، مازال قيمة زئبقية يصعب حصرها في تعريف شامل جامع وحاسم، لعديد الأسباب من بينها حداثة عهده وارتباطه بدرجة متفاوتة بالفن الغربي أو بفنون أجنبيّة أخرى وعدم تقنين شروط واضحة تطبع الأعمال الفنية بطابع المغاربيّة، والعلل في هذا الشّأن تتفرع لتتشعّب. وهذا ما سوف نتدرج في تناوله تباعا، وحتى نتجنّب الأحكام المسبقة والتّعريفات الجاهزة والمجانية، لن نقدّم تعريفا نهائيا ” للفن المغاربي” ولكنّنا سنترك هذه المهمة الدّقيقة تحسم من خلال تطوّر مبحثنا علّه ينتهي بنا إلى تعريف جديد وناجع للممارسة الفنّية في بلاد المغرب العربي وسنكتفي في هذا المستوى الأوّلي برصد شرطين أساسيين في غيابهما لا يكون الفن مغاربيّا ولكنّ توفرهما لا يعطي بالضرورة مشروعيّة التصنيف ك “فن مغاربيّ”. وأمّا الشّرطان اللذان يجب أن يتوفرا في الفن لتجوز تسميته “فن المغاربي” فهي حسب اعتقادنا:
نأأن يكون الفنّان المنتج له منتميا إلى أحد بلدان المغرب العربي معايشا لثقافته ومتّصلا ببيئته ماديا وروحيا.
أن يتقدم الفنّان الممارس للفن التشكيلي كفنّان مغاربي بقطع النّظر عن الممارسة التشكيلية أو أسلوبها وتقنيّاتها.
وعلى هذا الأساس، وفي هذه المرحلةّ سنتناول الفنّ المغاربي باعتباره الفن الذي ظهر منذ عهد الاستعمار إثر تجاذبات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة عديدة مارسه فنّانون ينتمون إلى أحد بلدان المغرب العربي. فاختلفت أعمالهم وتطوّرت بتطوّر الظّروف السّياسية خاصة ومن ثمّة الظّروف الثّقافية والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
لقد دخلت الفنون التّشكيلية التّي تتعامل مع اللّوحة كمصطلح وكإيديولوجية تمثيلية على الطريقة الغربية إلى بلاد المغرب العربي، متأخرة إذا ما قارناها بنشأة الفن الغربي وتطورّه الذي ارتبط خاصّة بعصر النهضة بقرنين كاملين، ومع ذلك فان هذا التأخر لا ينفي الحضور القوي للفنون في الحياة اليومية للأفراد المغاربيين.
ففي واقع الأمر لا يمكن فصل أو عزل الفن عن التّعاطيات اليوميّة: مع الأغراض الاستعماليّة أو اللّباس أو الصّناعات أو حتّى التّصرفات العفويّة عند الإنسان العربي عموما المغاربي خصوصا قبل الاستعمار وقبل أن تطبعه الحداثة المستوردة بطابع الابتذال والتكلّف أحيانا. قال دولاكروا عن حياة المغاربة قبل الاستعمار أثناء زيارته إلى المغرب سنة 1832: ” لبعض العادات العتيقة للمغاربة من الإجلال ما نفتقده نحن في الظروف الأكثر خطورة”[1] ، وأمّا ماتيس وهو العاشق للشرق وبصفة خاصة للمغرب العربي –إذ طالما تحدث عن إعجابه بالشّرق واستلهامه منه فالشرق عنده يقابل الغرب المادي- فيقول:” إنّ الإلهام أتاني من الشرق”[2].
كما نريد أن نؤكد على أن الفنون عند المغاربيين لا تقتصر على الفن المعماري أو الخط العربي أو الرقش فحسب، بل تخص أيضا الرّسم على الزجاج والأواني والنّسيج الذي لم يتحدّث عنه الغرب كفن راق وإنّما ربطوه بالفنون الصغرى وبالأشغال اليدوية التي تحظى بنصيب ضئيل من التّقدير مقارنة “بالفنون الكبرى” ، فمنظور الغرب للفن يختلف في تقييمه عن بقية المنظورات التي وإن تعدّدت واختلفت باختلاف الثقافات والتّصورات التي تخصّها تبقى بلا أهمية أمام المقيّم الأول والأخير والمعتمد وهو “العملاق” الغربي. والطريف في الأمر أنّ الجماليّة الغربية مختلفة عن الجمالية العربية الإسلامية، بل إنّها تناقضها في بعض المبادئ، ومن البديهي أن لا يتفهّم الغرب بمقاييسه فنّا يخضع لمعايير مغايرة ولكن أن نخضع بدورنا فنّنا المغاربي إلى مقاييس غربية لننكره أكثر من غيرنا فهو أمر باعتقادنا قاس بل ومحبط بجميع المقاييس.
إنّ رؤيتنا لأنفسنا بأعين غيرنا مسألة لا تتعلق بهيمنة الآخر ونقصد الغرب والثقافة الغربية والفن الغربي تحديدا فحسب، وإنّما ترجع أيضا للإيمان المطلق بتفوّق هذا العالم الغربي تقنيا وعلميا وحتى ثقافيا وحضاريا.
وما زاد الفن المغاربي الحديث تأخّرا هو غياب المنظّرين من مؤرخين ونقّاد وباحثين كي يؤطروه ويتابعوه وينقدوه ويقوّموه وهو أمر من شأنه إضفاء الكثير من القيمة للمنتَج والمنتِج. ولعلّ هذه القيمة ستبقى كامنة إلى أن يأتي دورها وتتناول لتنصف. وفي هذا السياق يمكن أن نذكّر بقولة معروفة للمفكرة الفرنسية ليندا نوشلين عندما سئلت عن السبب الذي رأته مقنعا لعدم تخليد التاريخ لفنانة أنثى واحدة أمام تخليده لهذا الكم الهائل من الفنانين الذكور فأجابت ب: ” أنّ تاريخ الفن قدّم عن طريق رجال وحسب شروط موضوعة من طرفهم” ،[3]فكيف يمكن لتاريخ لا يعترف بجزء هام منه أو يغيبه فلا يذكره، أن يذكر فنّانين لا تجمعه بهم حضارة ولا تاريخ ولا حتى جغرافيا؟
ولن ندعي أنّنا نضيف شيئا جديدا إذا قلنا بأن الفن التّشكيلي على الطريقة الغربية لم يكن وافدا غريبا قدم ليقطع مع الممارسات الفنيّة التي اعتمدها سكان المغرب العربي، بل مهدت له عديد الظروف سنذكرها لاحقا ضمن ظروف نشأة الفن المغاربي الحديث، ولكننا سنستبق الأمور شيئا ما لغاية توضيح الفكرة التي نحن بصدد شرحها. مهّدت الإصلاحات التي سبقت الاستعمار والتّي قام بها مصلحون من أمثال خير الدين باشا في تونس والأمير عبد الحميد بن باديس وعبد الكريم الخطابي في الجزائر والمغرب لدخول الحداثة أرض المغرب العربي بما تحمله من ثقافة وفنون وفكر، ولعب الاستعمار الدور المباشر والمتأكّد ليترسّخ الفن المغاربي كممارسة تشكيلية لا يمكن تجاهلها ولا إقصاؤها، لأنها فرضت نفسها كوسيلة تعبيرية تضاهي في مكانتها وقيمتها بقية الفنون المحلية.
هكذا إذن يكون زرع (greffe) هذا الفن داخل أرض بلاد المغرب عملية ناجحة لا ترفضه أرضية “حياتها فنّ”. ولم يضف الفن المسندي إلاّ أن حصره أو ركّزه في بعض الممارسات، التي لم تجد ردّة فعل حادّة تجاه “جسم” لم يعتبره دخيلا، ولعلنا هنا نفهم علّة عدم الرفض العضوي في بلاد المغرب للرسم المسندي- كما تحدث عن ذلك الناصر بن الشيخ في كتابه ” التصوير في تونس” “Peindre à Tunis” .
وإذ نتحدث عن أسباب تأخّر الممارسة التّشكيلية على الطريقة الغربية، فإنّه من غير المنطقي أن نتجاهل بعض الأسباب التي قد تكون ثانوية، إلاّ أنّها تبقى مؤثرة وذات وزن في استبعاد المغاربيين للفن الغربي ونفورهم منه أحيانا ومن بين هذه العلل مخالفة الفن الغربي للتعاليم الإسلاميّة، حسب اعتقاد بعض المذاهب وهو ما يتعلّق بالتّمثيل والمحاكاة للشخوص والحيوانات وهو أمر تنهى عنه – بصورة غير مباشرة – الأحاديث النبوية: ” يعذب المصورون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون الذين يضاهون بخلق الله”.
كما أن الجمالية الغربية تقوم على تغذية الشّهوة الرّجالية كي لا نقول الغريزة الحيوانية، مثال ذلك رسم النساء العاريات، وهنا يمكن أن نستشهد ثانية بقولة المفكرة الفرنسية ليندا نوشلان عندما تقول ” تجدر الإضافة بأن تاريخ الفن، بما هو خطاب، كان دائما يساند نظاما مشحونا بالسلطة والشهوة الذكورية”.[4]
وعلى نقيض هذه الجماليّة، تقوم الجماليّة العربيّة على العفويّة وعدم المماثلة وخاصة تكريس البعد الروحي واللاّمادي، وتستمد جماليتها ليس من جمال الإنسان وماديته ونسب جسده، بل هي تنشد التّعبير عن جمال مطلق ولهذا لم تكن ممارسة هذا الفن منفصلة عن تصوّراتهم وعن حياتهم اليوميّة ولا تتغيّر هذه الممارسة من حيث المبدأ وإن مورست على رقعة بيضاء أو بساط أو آنية، فجميع الأعمال والصنائع عندهم يمكن أن تكون فنّا.
ولا ننسى تأثير السّلطة في تكريس ممارسة ما وتهميش ممارسة أخرى، ففي تونس والجزائر كانت الدولة العثمانيّة، التي سيطرت- قبل ظهور المصلحين- وعملت من أجل تكريس التّخلف الثقافي، الذي في رحابه دعمت سيطرتها وسلطتها. وككل عمليّات المقاومة والثورات التي تنشد الاستقلال التهى سكان تونس والجزائر عن التّعرف على الحضارات العالمية والتفتح الحقيقي عليها، وهو ما لا ينفي – في المقابل- أنّ منطقة المغرب العربي كانت وستبقى مسرحا تتوافد عليه الثقافات والحضارات لتلعب أدوارا مختلفة ومتفاوتة من حيث تأثيرها على الحياة السياسية والاجتماعية والثّقافية.
وأمّا المغرب الأقصى الذي بقي تحت سلطة السلاطين المغاربة فلم يكن له مصير أفضل من تونس والجزائر، ذلك أنّ توجهات هذه السّلطة كانت لا تولي اهتماما للممارسة التّشكيلية كتعبير مستقلّ وجديد، بل حاولت المحافظة على استقلالية السّياسة بالمحافظة على الوحدة الثقافيّة ممّا جعل المجتمع المغربي لا يعتمد على الفن المسندي، ويمكن الذهاب إلى القول بأنه لم يتعرّف عليه كوسيلة تعبيرية إلا بعد دخول الاستعمار، ليستهدف هذه الوحدة الثّقافية ويشتّت شملها ويقدّم الفن المسندي كبديل تتّفق عليه جميع الشّرائح والأعراق.
نشأتــــــه:
تضافرت ظروف عديدة فمهدت الطّريق لدخول الفن المسندي ضمن الممارسات الفنّية المغاربيّة وإذا سلّمنا بأنّ الثّقافة الغربيّة هي أهمّ ما صدّرته الحداثة الغربيّة، فمن الطبيعي أن يكون المصلحون المحدثون أوّل من التفت إلى هذه الظاهرة الثّقافية والمنتوجات الفنّية، حيث أنّ المغرب العربي وخصوصا البلاد التونسية عرف الحداثة قبل الاستعمار وذلك على يد البعثات الاستطلاعية إلى فرنسا وأوروبا عموما. وللاستعمار الفرنسي للمغرب الأقصى والجزائر وتونس دور بارز في دمج المجتمع المغاربي ضمن منظومته الثّقافيّة، فلم يتوان عن دحض الهويّة الأصلية لمتساكني هذه الأقطار. وعلى اختلاف الطّرق التي سلكها الاستعمار لبثّ أفكاره وتصوراته والتعبير عنها، فإنّ النتيجة واحدة وهي دخول الفن المسندي للبلاد المغاربية ليصبح فنّا يمارسه فنانون مغاربيون، “مغاربيّا” بقطع النظر عن أصالته أو هواجسه أو موضوعاته.
دخل الفن المسندي إلى تونس منذ الإصلاحات الحداثيّة قبل الاستعمار وتدعّم خاصة مع دخول الحماية سنة1881 وأمّا الجزائر التي كانت في هذه الفترة تحت الاستعمار الفرنسي الذي عمل على محو كل مؤشر للثّقافة العربية الإسلامية وللهوية الأصلية فقد “فرنست”، ولتحقيق هذا الغرض كان بديهيّا أن تُنزع عن المجتمعات طريقتها في التعبير بجميع تمظهراتها، فدخل الرسم المسندي ليس باعتباره تحديثا أو تطويرا للفن التقليدي، بل كان الخيار المطلق والمعترف به والذي لا يقبل شريكا ولا بديلا. فظهرت المدارس التي تؤطّر الفن التّشكيلي وافتتحت سنة 1920 مدرسة الفنون الجميلة أبوابها وكانت تابعة لباريس، إذ يتّم طلبتها دراستهم بالمدرسة العليا بباريس وهو ما جعل الفنّ التّشكيلي الجزائري في هذه الفترة محايثا للفن الفرنسي من حيث التقنيات والمواضيع والمعالجات وللتّصورات.
وفي المغرب الأقصى لم يكن تقبّل اللوحة المسندية إلاّ متأخرا، باعتبار محافظة هذا البلد على استقلاله إلى حدود أوائل القرن العشرين. وحيث أن الاحتلال كان مزدوجا فرنسيا في الجنوب واسبانيا بمنطقة تطوان فكان هناك نوعا من الرّقابة التي حالت دون إغفال أهمية التّراث المغربي والمرابطيّ والموحديّ، غير أن قدرة الاحتلال الفرنسي على مزاحمة التّأثير الاسباني رجّحت الكفة للثقافة الفرنسية. وعلى أن المدرستين الاسبانيّة والفرنسيّة حاضرتان في الفنّ المغربي الحديث والمعاصر، فإن سياسة التّشتيت والتجزئة التي خصّت بها فرنسا المغرب الأقصى جعلت من الفن التشكيلي المغربي الحديث والمعاصر “فسيفساء” متعددة العناصر ومختلفة الألوان والاهتمامات.
ولئن تشابهت ظروف نشأة الفن المغاربي نسبيا في الأقطار الثّلاثة فإن التّطورات والتّأثرات قد تخلق نوعا من التّميّز والتّباين تصقل وحدات صغيرة ضمن وحدة شاملة ندعوها “الفن المغاربي المعاصر”.
تطوّره وتأثراته:
في تــــونس:
تعدّ تونس ملتقى الحضارات إذ طالما توافدت عليها ثقافات وحضارات تركت آثارها وطبعت السكان بطابع التّسامح والاعتدال وتقبّل الوافد عليها بسلاسة وبتسليم أحيانا. فالحضارة البونيقية والرومانية والإسلامية والثقافة الفرنسية وغيرها تركت كلها علامات على هذا البلد، مما جعل مهمّة المستعمِر سهلة في ترويج ثقافته وفنّه.
انتصبت الحماية على أرض تسقى بأفكار من التّراث وتتلون بألوان الحضارات فجاءت المواضيع المصورة مستوحاة من القصص الشعبية والتاريخية والأسطوريّة أيضا. أمّا التّقنيات فتراوحت بين الرّسم على الزجاج وتحته والكتابات المزوّقة. ونذكر من بين أهم المصورين محمود الفرياني وعلي الفقيه وغيرهما…
دخل المعمّر الفرنسي البلاد التّونسية من باب الحماية وتحت شعار الإصلاح المرن دون أي إيحاء بالتّدخل المباشر في سيادة البلاد ولا في ثقافتها (ونذّكر باتفاقية باردو ومعاهدة المرسى أثناء الاستعمار)، إلاّ أن الثّقافة الغربيّة اخترقت فعليّا النّسيج التونسي وتمكنت من طمس معظم الموروث الثقافي دون وعي من التونسيين ومن غير أن تُخلَق ردود فعل عنيفة، سيّما أنّ الفعل كان منذ الأساس محكما. كما حرص الاستعمار على تحفيز النّخبة لتنخرط في مظاهر الممارسات الثقافة الغربيّة ونخص بالإشارة إلى الفن الغربي ولهذا فإن أول من مارس الرسم المسندي في تونس، نخبة من وجهاء البلاد، الذين شاركوا الفرنسيين أساليبهم، ثم تأسست مدرسة تونس سنة 1949 وكانت تضمّ فنانين من جنسيات مختلفة. ويمكن اعتبار نشأتها أول تمظهر لردّ فعل فني وفكري ضدّ تغييب الهويّة التّونسية وحاول أفراد هذه المجموعة التّعويل على ما في جعبتهم من نفَس وطني للتّعبير على فخرهم واعتزازهم بهذه “الهوية التونسية”.
ولئن لقيت هذه الجماعة اعتراف العالم الغربي والعربي أحيانا، فإن جيل المفكرين والمبدعين الذي تلاها لم يقف عند ايجابيات أعمال هؤلاء الفنانين بقدر وقوفه عند نواقصها وتقليلها من انتمائهم إلى هويتهم التونسية. والقارئ لأعمال فنّاني مدرسة تونس لن يفتّش طويلا حتى يصطدم بتناقضات عديدة. ولكننا ومع ذلك نؤمن ونؤكد على قيمتها وأهميتها لقراءة السّاحة الثّقافية والحقبة التّاريخية الرياديّة كلها، وتكتسي هذه الأعمال أهميتها لأسباب منها:
هي أول محاولات تفصل الفن التّونسي الحديث عن الفن الذي كان سائدا في تلك الفترة. وهي تفصل الفن على الأرض التّونسية عن الفن الغربي عموما من حيث التّسمية والهواجس والمواضيع المصوّرة أحيانا.
هي مهمة أيضا، لأن التّناقضات التي تعكسها هي تعبير صادق عن التّناقضات التي كانت تسكن ومازالت أفراد المجتمع التّونسي، الذي نقلت إليه الحداثة من دون أن تنقل إليه أسبابها وظروفها الاقتصادية والسياسية والعلمية…
إنّ حلقات التّاريخ مهمة كلّها، ومهما كان شأنها، لفهم التّطور وأسبابه ولاستخراج العبر أيضا، ومن هنا فإن إهمال أي حلقة من حلقاته من شأنه إضعاف بنائنا لقراءته وفهمنا الصحيح له، خاصّة وأن المغرب العربي مازال يعيش حالة من التّحولات المتفاوتة والمتزامنة.
إن التّشتّت الفكري والثّقافي الذي عايشه فنانو تونس قبل الاستقلال وبعيده لا يختلف عن التّشتت الذي عاشه فنانو الحداثة الغربيّة على غرار ماتيس وبيكاسو وغيرهما.
من هنا فإن كانت الحداثة الغربيّة ذات جسم مشتّت كما عبّر عنه المفكرون الغربيّون، فهي حداثة نسبيّة، بالتّالي فإنّنا نرى أنه لا أفضليّة لما هو نسبي على ما هو نسبي مثله والفن الذي أنتجته الحداثة الغربية خُلّد فلمَ لا تخلد أعمال فنّانينا؟
أما الجيل الثّالث وهو جيل السّتينات وما بعدها، فهو جيل البحث والتّفكير والتّأمل وهو جيل التأسيس الفعلي للفن التونسي تحديدا وللفن المغاربي عموما وقد سعى أفراد هذا الجيل إلى العودة على البدء فرأوا أن البدايات غير الواعية تبقى وعلى نجاحها منقوصة، ومن حسن حظّنا أن بعضهم نظَّر لأفكاره. و من بين فناني هذا الجيل: نذكر الحبيب بيده والناصر بن الشيخ وعائشة الفلالي ورشيد الفخفاخ ونور الدين الهاني وسمير التريكي وهو الفنان الذي تناول تجربته بالبحث لما تشتمل عليه من تركيز على الإشكالية الرئيسية لأطروحتنا وهي التقاطع بين التشكيل والتنظير.
في الجزائــــــر:
تشغل الجزائر وضعيّة خاصّة في صلب المنظومة الاستعمارّية الفرنسيّة فقد جرى احتلالها في فترة لم تتضح فيها الامبريالية الاستعمارية بالقدر الكافي. وكان الاحتلال اغتصابا يلغي جميع مقوّمات الهوية السياسية والثّقافية الجزائريّة.
وكان الطابع التّوطيني والمبكّر للاحتلال بالإضافة إلى طول أمده، كافييْن لمحو جزء كبير من التّراث من ذاكرة أهالي الجزائر في مرحلة أولى، وفرض الثقافة الغربية وعادات جديدة في مرحلة متقدمة. ومثّل مرسوم 14 جويلية 1865 القاضي بالتمييز بين وضع المواطن وغير المواطن أحد دعائم الإخضاع والسيطرة، إذ رفض الفرنسيون طيلة فترة حكمهم إسناد حقوق المواطنة للجزائريين بحجة خضوعهم للشريعة الإسلامية وممارستهم لطقوسها وواجباتها واستجابتهم لحضارتها بما فيها من فنون وآداب، بل محا الفرنسيون الأسماء العربيّة للمدن واستبدلوها بأسماء فرنسيّة وجرّموا الأهالي لأبسط المخالفات وحاربوا المؤسسات الإسلاميّة. ولم يكن ذلك بمنأى عن الفن الإسلامي الذي كان يمثل إرثا ضخما على غرار فن التاسيلي والبربري وقد حوصرت ممارسته، وافتتحت مدرسة الفنون الجميلة أبوابها بالجزائر كمدرسة للرسم كمرحلة أولى سنة 1843 ثمّ تحولت إلى مدرسة وطنية للفنون الجميلة بالجزائر سنة 1881فعرف الفن التشكيلي الجزائري الفن الفرنسي وتماهى معه.
وظهرت أسماء بعض الفنّانين الذين اعتمدوا على التّشخيص وعلى تقليد التّجارب الغربيّة. ولكن لم يهدأ للجزائريين بال وحاولوا عكس المعطيات وواجهوا القمع الفرنسي بحالة من الغليان المستمر أفرزت قبل الاستقلال وبعده فنّا ينشد العودة إلى الهوية الوطنية الجزائرية، وقد توّجت هذه المرحلة بتكوّن الفن الجزائري المعاصر، ويمكن أن نعتبر هذه المرحلة مرحلة النّضج والوعي بقضايا الفن من جهة ومستلزمات الحداثة والموروث الثّقافي من جهة ثانية.
في المغرب الأقصى:
إنّ المتأمل في تاريخ المغرب الأقصى والمتفحّص في الاستراتيجيا الكولونيالية لهذا البلد، لن يجدّ كثيرا ليستنتج ما يمكن أن يفرزه الاستعمار المزدوج الفرنسي والاسباني من تنوّع ثقافي واختلاف يصل أحيانا إلي الزّخم ، خاصة إذا حصل لديه علم بسياسة التّجزئة والتّشتّت التي ركّزها الفرنسيون. ولو حاولنا أن نستوعب هذه الحقبة الزّمنية بما تحمله من أحداث يمكن أن نحزر ما قد يتقدم كنتاج اجتماعي وسياسي وخاصة ثقافي.
إن ما تعلّمته فرنسا بعد احتلالها للجزائر هو أهميّة أن تسيطر على البلاد وأن تستغلّ الثروات التي تريد، دون أن تتكبّد الخسائر الفادحة، خاصة على المستوى المادّي والرصيد البشري تحديدا، فدخلت لتونس “مصلحة” ثم دخلت للمغرب الأقصى بطرق مشروعة وذلك عبر توظيف الجهاز الإداري المحلي في تأطير وتسيير المجتمع المولَّى عليه، فتمّ تشريك النّخب الأهليّة في إدارة شؤون المحميّة. وسيطرت فرنسا “بسلاسة” على المغرب الأقصى، وهو البلد المغاربي الوحيد الذي عاش استعمارا مقنّنا لا يرمي في ظاهره إلى المسّ من الهويّة الثّقافية للمجتمع التّقليدي، إلاّ أن الواقع كان شديد الاختلاف، فلم تكن محاولة تغييب الهويّة المغربية بالتّعسف العسكري لمنع المجتمع المولَّى عليه من ممارسة شعائره وتقاليده وثقافته ومن ثمّة التّعويل على مرور الزّمن الطويل ليتمكّن المستعمر من تحقيق مبتغاه (كما فعلت فرنسا مع الجزائريين) ولا حتى ببث السمّ في الدسم كما فعلت في تونس، بل استغلّت الدولة المستعمِرة التركيبةَ المختلطة المتعايشة للمجتمع المغربي وكرّست سياسة التجزئة وقسّمت المغرب الأقصى إلى تشكيلات متضادّة (العرب/البربر)، (السيبة/المخزن)، (المغرب النافع/المغرب غير النافع)… ووظَّفت هذا التّضارب كسلاح إيديولوجي يرمي إلى نفي قدرة المغرب على تكوين سلطة ذاتية، ولو نظرنا إلى المجتمع في عهد الاستعمار لرأيناه منقسما إلى مجموعات، كل مجموعة تدَّعي أنّ لها هوية منفصلة ومستقلة عن الأخرى. أفرز هذا الزّخم الخطير في الهوّيات وبالتّالي الثّقافات تيها قد ينذر بفقدانها كلّها واللّجوء إلى ثقافة جديدة لا تفرّق، بل تجمع، هذه الثّقافة كانت مقدَّمة على طبق من فضة ولن تكون غير الثّقافة الفرنسيّة.
ما حصل لدينا إذن هو أن المغرب الأقصى كان تحت حماية اسبانية من جهة، وتحت حماية فرنسية كرّست التجزئة من جهة ثانية، ومنطقة طنجة تحت حماية دولية من جهة ثالثة، فكيف يمكن أن يسير الفنّ المغربي في مسار واحد؟ وكيف يمكن أن نتحدّث عن اهتمامات وهواجس مشتركة في فترة الاستعمار؟ فقط، ما يمكن أن نجزم به هو انتصار الهويّة الغربية للفن المغربي (فرنسية/اسبانية) أثناء الاستعمار أمام محاولات الفنون الشعبيّة والأعمال الفنيّة ذات الطابع الفطري أو الساذج التي تراجع إنتاجها إلى مستوى جد متواضع، وكان يجب أن ننتظر حتّى فترة الستينات والسبعينات لتظهر ردّة فعل مركّزة تبحث في الهويّة التّشكيلية وعنها.
كان لأحمد الشّرقاوي دورا كبيرا في إثراء التّاريخ الثّقافي والفنّي للمغرب الأقصى وقد تخرّج هذا الفنان من المدرسة الفنية في الجنوب المغربي فسار على نفس دربه فنّانون كانت لهم بصماتهم في تحديد معالم الفن المغربي ونذكر فريد بلكاهية والكلاّوي وأما مدرسة الفنون الجميلة بتطوان فقد كوّنت بدورها عددا لا بأس به من الفنّانين المعاصرين على غرار السرغيني والعمراني ومحمد مغارة…و في اختيارنا لتجربة محمد القاسمي فرصة لولوج الساحة الفنية التشكيلية المغاربية والمغربية بصفة أكثر تركيز من خلال ما طُبع على ذاكرة الفنّان، وسنحاول استخراج جزء نرجو أن يكون هاما من تناقضات الممارسات الفنّية التّشكيلية المغاربيّة وحتى الثقافيّة، لاسيما أنّها لا تعدو أن تكون إلّا زبدة تراكمات من الفعل وردود الفعل.
إن الحديث عن الفن المغاربي الحديث يبقى من أصعب الأمور ومن أكثرها تعقيدا، لأن الفنّ الحديث ارتبط بالحداثة من حيث نشأته و مظاهره وتقنياته وهواجسه وأما الحداثة فقد كانت وستظل محور دراسة ونقاش المفكرين ولقد لقيت حظّا واسعا من المدح والقدح والرّفض والقبول. أمّا العالم العربي عموما والمغرب العربي بصفة خاصة، فلم تنقل له الحادثة إلا من حيث هي تغيّرات تقنيّة واقتصادية وسوسيولوجيّة وقعت في عالم آخر وسمع عنها وعايشها ولكنه لم يعشها. من هنا لم يكن هذا “المغاربي” الذي عرف بوجود الحداثة وما خلقته من أزمة عميقة بقادر على تحقيق هذا التّغيير الشّامل ولا هو بمعذور إن تجاوزته الحداثة بأزمتها، خاصة وأنّها قدمت إليه وفرضت نفسها كمعطى جاء به المستعمر ومن قبله المصلحون.
لقد تجلّى هذا التّناقض الذي عاشه أهل المغرب العربي خاصة بالنسبة للمثّقف والفّنان اللّذان كانا في كثير من الأحيان مدركين لهذه المنزلة بين المنزلتين والتي تنتظر منهما أكثر من غيرهما التّحرك والتّصرف لغاية التّجاوز.
وفي دراستنا للفن المغاربي لا نتحدث عنه كـ”حديث” باعتباره فن الحداثة الغربية على غرار فن التكعيبيين وهو حسب اعتقادنا أفضل تيّار عبّر عنها ثم الوحشيّة، بل نتحدّث عن الفن الذي ابتعد نسبيّا عن مفاهيم الفن الإسلامي وأجواءه ليأخذ شكلا جديدا، نصرّ على نسبيّة التّجديد فيه وتفاوته من تجربة تشكيلية إلي أخرى. وتجدر الإشارة في هذا المحور إلى أن الفن المغاربي على الطّريقة الغربيّة وبسبب قصر فترة ممارسته مقارنة بالفن الغربي عموما، لا يتحمّل أن نقسّمه إلى حقبتين اثنتين: حديثة ومعاصرة، إلاّ إذا اعتبرنا الفترة الحديثة هي الفترة التي أستلهم فيها الفنانون التقنيات والأفكار من الغربيين فجاءت أعمالهم مرتبطة شكلا و مضمونا بالفن الغربي، وهي أيضا فترة الاكتشافات والبدايات التي عادة ما تكون صعبة، وأما الحقبة المعاصرة، فهي تحمل وعيا أكبر ليس بالفن الغربي وأزماته فقط، بل بالفن العالمي الذي يمرّ بالهوّية والأصالة والحلول الناجعة… ومع هذا كله فإن الفن المغاربي المعاصر، في نظرنا وعلى أهميته يبقى أحيانا فنّ ردود الفعل.
هوامش
[1] « Certains usages antiques et vulgaires ont la majesté qui manque chez nous dans les circonstances les plus graves ». Yves Florennes : Delacroix (Y.), Les plus belles pages, Edition Mercure de France, Paris 1963, p.96.
[2] « La révélation m’est venue de l’orient ». Matisse (M.), propos de Matisse rapportés par Diehl (G.), in Art Présent n°2,1947.
[3] « L’histoire de l’art avait était élaborée des hommes, selon des critères définis par eux par. ». Nochlin (L.), Introduction à l’histoire de l’art, Lagoutte (D.), Ed, HACHETTE,1997, p.101.
[4] : « Mais on doit toujours ajouter que l’histoire de l’art, entant que discours et institution, a toujours soutenu un ordre investi par le pouvoir et le désir masculin ». Nochlin (L.), Introduction à l’histoire de l’art, Lagoutte (D.), Ed, HACHETTE, p.101