بقلم: د. فؤاد خليل
فوضى منهجيّة
يعاني علمُ الاجتماع في بلادنا قصورًا نظريًّا في استخدام مصطلحَي “المجتمعيّ” (le social) و”الاجتماعيّ” (sociologique). وهذا القصور لا يعود فقط إلى من يُصنَّفون من غير أهل الاختصاص، بل يعود إلى أهل الاختصاص أو المشتغلين في حقل علم الـsociologie بالذات.
ومن مظاهر قصور بعض هؤلاء الخلطُ بن المصطلحْين، نحو قوله: “الواقع المجتمعيّ” تارةً، و”الواقع الاجتماعيّ” طورًا؛ و”المؤسّسة المجتمعيّة” حينًا، و”المؤسّسة الاجتماعيّة” حينًا آخر؛ و”الطبقة المجتمعيّة” في استخدام أول، و”الطبقة الاجتماعيّة” في استخدام ثانٍ… الخ.
وثمة بعضٌ ثانٍ وجد أنّ الحقول المعرفيّة الأخرى تتّصف بحدودٍ مرسومةٍ واضحة، وما يتبقى خارج تلك الحدود يردُّه إلى “المجتمعيّ” أو “الاجتماعيّ.” وما وجده في هذا الباب أنّ الحقل الاقتصاديّ يتحدّد بالإنتاج والتوزيع والتبادل، وأنّ الحقل السياسيّ يرتسم بالدولة والنظام والسلطة، وأنّ الحقل الدينيّ يتحدّد بالعقيدة والطقوس والشعائر؛ وما بقي خارج الحدود المذكورة يحدّده بـ”المجتمعيّ” أو “الاجتماعيّ،” من مثل: التربية والتعليم والصحّة.
ثمّ يتعمّق القصورُ عندما يعزف هذا البعضُ أو ذاك عن محاولة التمييز بين المصطلحيْن. وذلك يعود إلى الفوضى المنهجيّة التي تضرب أغلبَ المشتغلين في حقل السوسيولوجيا. ولا يقتصر واقعُ الحال هنا على المصطلحْين فقط، بل يشتمل على منظومة من المفاهيم السوسيولوجيّة، ومنها على سبيل المثال معاني كلّ من: المنهج، والإشكاليّة، والفرضيّة، ودراسة الحالة، ودراسة الوحدة.
هذه الصورة فَرضتْ نفسَها على بعضِ مَن حاول أن يحدّد الحقلَ الاجتماعيّ. فمحاولتُه لم تُقِمِ التمييزَ المطلوب بين “المجتمعيّ” و”الاجتماعيّ،” بل دمجتهما، واختزلت الأخير بالثقافة، ومن ثمّ حصرت التمييز بين “الاجتماعيّ” و”السوسيولوجيّ” اللذيْن يحيلان على معنًى واحد.
لقد ذهبت المحاولة إلى تحديد مضامين المستوى الاجتماعيّ في بنية المجتمع تمييزًا له من مضامين المستويات الأخرى، السياسيّة والاقتصاديّة، لرفع الالتباس الحاصل بين المستويات. فأحالت صفة “اجتماعيّ” على خصائص عيش الجماعة، وهي خصائص نوعيّة مترابطة ومتداخلة لمكوّنات ثقافة العيش والقيم والمعتقدات السائدة في نسيج الاجتماع البشريّ. ثم وَجدتْ أنّ اللبْس الذي لحق بصفة “الاجتماعيّ” يعود إلى الجهل في التمييز بين مضمون هذه الصفة المرتبطة بخصائص ثقافة وقيم جماعةٍ ما، وبين مضمون صفة “سوسيولوجي” المرتبطة بالبحث الذي يعتمد طرائقَ المنهج السوسيولوجيّ في مقاربة الظواهر والأطر والعلاقات بين الأفراد والجماعات.
إذن، تحيل صفة “اجتماعيّ” في هذه المحاولة على خصائص ثقافة وقيم جماعة ما، أي إنّها أحلّت “الاجتماعيّ” محلّ “المجتمعيّ” (خصائص ثقافة العيش وقيم جماعةٍ ما). وبذلك، لم يرفع تمييزُها بين صفة “الاجتماعيّ” وصفة “السوسيولوجيّ” اللبسَ الذي يلحق بصفة “الاجتماعيّ.” وهذا يفترض تاليًا التمييزَ المعرفيّ بين مصطلحي “المجتمعيّ” و”الاجتماعيّ.”
في المجتمعيّ
يستدعي النظرُ في “المجتمعيّ” أن نقفَ على ما يحمله هذه المصطلح من دلالاتٍ محدّدة، وما يتميّز به من طبيعةٍ يحدّدها علمُ الاجتماع، وهو العلم الذي لم يقم إلّا ببناء “المجتمعيّ” بالذات، ولن يستمرّ من دون إعادة بنائه من جديد.
يشتمل المجتمعيّ على خمسة معانٍ:
أ ـ اجتماع البشر (Socius): فالبشر مذ وُجدوا لا يمارسون وجودَهم إلّا عن طريق اجتماعهم.
ب ـ الدوافع إلى اجتماعهم: وهي تتبدّى في هيئات مختلفة، تقود إليها ديناميّاتُ التحوّل والتطوّر في الاجتماع البشريّ.
ج ـ العلاقات الناتجة من مسارات التفاعل في الاجتماع البشريّ.
د ـ الأشكال المتعدّدة التي تنتجها تلك الروابطُ والعلاقات.
ه ـ المركّب الجديد الذي يَنتج من تلك الأشكال، ويكون مختلفًا من حيث خصائصه عن خصائص العناصر الداخلة في تكوينه.
ما تظهره المعاني أعلاه أنّ “المجتمعيّ” ليس جمعًا أو تجميعًا للعناصر التي تكوِّنه، بل مركّبٌ ينتج من تفاعل عناصره، ويتّصف بطبيعةٍ مختلفةٍ عنها؛ أي إنّه يؤلِّف كلًّا يمثّل معاييرَ عامّةً تفرض نفسَها على الأفراد وتحدِّد تصرّفاتهم. ومن الأمثلة الدالّة على هذا التركيب أنّ اجتماعَ البشر في العلاقات بين الجنسين يؤدّي إلى مركَّب، هو الأسْرة، يختلف بخصائصه عن خصائص عناصره؛ وهذا المركّب يتمثّل في قواعدَ عامّةٍ للسلوك تفرض نفسَها على الأفراد وتحدّد سلوكيّاتهم.
هذا “المجتمعيّ” هو الموضوع الذي بناه علمُ الاجتماع. وقد تميّز بحبكة فهمه الخاصّةِ في اجتماع البشر، وهي من الكلّ إلى الجزء، أيْ من الأشكال المجتمعيّة الناتجة من اجتماع البشر إلى البشر أنفسهم… وليس كما كان عليه الأمرُ قبل تأسيس علم الاجتماع، من البشر إلى اجتماعهم، أو من الجزء إلى الكلّ. والكلّ، في حبكة الفهم هذه، لا يعدو عن كونه جمعًا أو تجميعًا لإجزائه أو عناصره.
على أيّ حال، فإنّ “المجتمعيّ” هو مركبّ نظريّ مجرّد. وهو، بفعل ذلك، يُسبغ على الأشكال أو المكوِّنات المتضمَّنةِ فيه صفة “المجتمعيّ.” وصفة “المجتمعيّ” هي، بالتالي، الصفة التي تلازم الموضوعَ الذي بناه علمُ الاجتماع وأنتجه من خلال عمليّات التجريد والتنظير.
لكنْ، إذا كان علمُ الاجتماع قد مارس علميّتَه في فكرة اجتماع البشر، وتميّز بحبكةِ فهمه الخاصّة التي أتى بها (من الكلّ إلى الجزء)، فلماذا ينشأ الاختلافُ في المركّبات النظريّة التي يبنيها علمُ الاجتماع؟ أو بتعبير آخر: لماذا الاختلاف بين علماء الاجتماع في بناء موضوع العلم؟ الاجابة تتمثّل في أنّ الاختلاف بين علماء الاجتماع في بناء موضوع العلم (المجتمعيّ) يعود إلى اختلافهم في طرق البناء وكيفيّة البناء وأدوات البناء.
أما الاشكال التي يتخّذها “المجتمعيّ” فمتعدّدة، ومنها: المجتمع société، الواقعة المجتمعيّة fait social ، الظاهرة المجتمعيّة phénomène social، المؤسّسة المجتمعيّة institution sociale ، البنية المجتمعيّة structure sociale، الدور المجتمعيّ rôle social، الطبقة المجتمعيّة classe sociale، الثقافة المجتمعيّة culture sociale،…
وما يجدر ذكره هنا أنّ مصطلح sociétal يدلّ على صفةٍ للمجتمع، لا للمجتمعيّ؛ بحيث يتاح لنا أن نحدده بــ”المجتمعويّ” لا بالمجتمعيّ.
في الاجتماعيّ
يدلّ هذا المصطلح على ما يتعلّق بعلم الاجتماع، أي العلم الذي يدرس الوقائع المجتمعيّة. وفي حال استخدامنا “سوسيولوجيًّا” بدلًا من “علم اجتماعيّ” (sociologique)، فإنّه يصحّ استخدام “سوسيولوجيّ” بدل “اجتماعيّ”؛ كما يصحّ استخدام “علم اجتماع” بدل “اجتماعيّ.” الأهمّ هنا هو وعي التمييز بين موضوع علم الاجتماع (le social) وبين عمليّة بناء علم الاجتماع لموضوعه الاجتماعيّ (sociologique). وفي النتيجة يتاح لنا أن نقول: نظريّة اجتماعية (théorie sociologique)، مفاهيم اجتماعية (concepts sociologiques)، قوانين اجتماعيّة (lois sociologiques)… الخ.
وفي كلّ هذه الدلالات لا يصحّ سوى استخدام صفة “اجتماعيّ.” ففي هذه الصفة معنى وجود علم أو نظريّة أو قانون أو مدارس.. إلخ تمارس علمَها وعلميّتها في فكرة اجتماع البشر. ولا توجد صفة غيرها نضيفها إلى تلك الممارسة.
تميّز العلم
أخيرًا، فإنّ فكرة اجتماع البشر موجودة في كلّ العلوم الإنسانيّة، وليست خاصّةً بعلم الاجتماع. وهذه العلوم تمارس علميّتَها كما يفعل علمُ الاجتماع، وتملك حبكةَ فهمٍ خاصّةً بها. وكلٌّ منها يصبّ اهتمامَه على فكرة مركزيّة: ففي الاقتصاد، إنتاجُ البشر لحياتهم المادّيّة؛ وفي علم السياسة، إدارةُ البشر لشؤون العامّة؛… وعليه، فإنّ ما تبنيه العلومُ ينتقل إلى علم الاجتماع، وإنّ المجتمعيّ الذي بناه الأخيرُ ينتقل من جهته إليها. وبالتالي تغدو العلوم الإنسانيّة متداخلة، لا حدود مصطنعة بينها، إذ إنّها جميعها تتشارك في فهم الواقع الإنسانيّ على قاعدة تميُّز كلّ منها لا على مستوى خصوصيّته. حينذاك يصبح ضروريًّا أن تحلّ فكرةُ “تميّز العلم” محلّ فكرة “استقلال العلم” أو “خصوصيّته.”
الكاتب: د. فؤاد خليل، أستاذ في معهد العلوم الاجتماعيّة، الجامعة اللبنانية. يدرّس مادة “علم اجتماع المعرفة.” له أربعة عشر مؤلَّفًا، منها: الثورة العربيّة: مقالات فلسفيّة وسوسيولوجيّة (2014)؛ الثورة: سرديّة وطنيّة(2012)؛ الماركسيّة في البحث النقديّ، الراهنيّة، النسق، التاريخ (2010)؛ المثقف والهويّة؛ العروبة ضرورة مجتمع وأمّة (2005)؛ الفكر النهضويّ العربيّ: الانكسار البنيويّ (2002)؛ الإقطاع الشرقيّ: بين علاقات الملْكيّة ونظام التوزيع (1996).
ملاحظة: نشرت سابقًا في مجلة الآداب، على هذا الرابط.