الدين والذاكرة وعبور أسوار المدينة: في أنثروبولوجيا «الإسلام المرتحل»
محمد تركي الربيعو
يُعدُّ مفهوم الارتحال ركيزة أساسية من ركائز الأديان، وعادة ما يتشكّل هذا المفهوم داخل الفضاء الديني، عبر رموز وطقوس عديدة مثل، رحلة الحج أو الارتحال لزيارة مقامات الأولياء والمعابد.
كما أنه قد يُعبّر عن هذا المفهوم ببعض صور التحول الديني، كالتحول من الجهل إلى التنوير، أو من فضاء مدنّس إلى فضاء مقدّس. ولا يتوقف الأمر على مجرد الارتحال في الدين، بل يتعدّاه إلى ارتحال الأديان نفسها. فالأديان تنتقل وتستقر، ثم تنزاح فتهاجر مرة ثانية، وخلال عملية الارتحال تتعرض إما لتغييرات طفيفة أو حتى تغييرات درامية جداً، استناداً إلى مستوى استقبال ذلك الدين.
وعلى مستوى الإسلام، فإنه مما لا شك فيه أنه ما يزال في ارتحال منذ قرون، فقد شهد العالم الاسلامي أمثلة لا تحصى للهجرة، والانتقال داخل حدوده وخارجها. وهناك من يرى في هذا السياق أن الارتحال الإسلامي يجب أن يُنظر إليه على أنه مكوّن أساسي في تاريخ الحداثة، وليس مجرد ظاهرة قروسطية. ويشير نيدرفيين بيترسي في دراسة له بعنوان «الإسلام المرتحل: جوامع بدون منارات» إلى أن الإسلام الكوزموبوليتاني الذي انتشر عن طريق القوافل التجارية، ومن خلال الهجرة والاستيطان، ومن خلال الشبكات المعرفية، والتوسعات العسكرية، أعطى شكلاً للدينامية التاريخية للعولمة التي تعد الرأسمالية العالمية أحد مظاهرها.
ولكن ماذا عن هذا الإسلام المرتحل أو العابر للحدود في القرن العشرين؟ وكيف تأويله لتراثه الخطابي، وحتى لرموزه بعد الهجرة؟ وماذا عن عياله؟ كيف تخيّلوا دورهم، أو وجدوا الآخر بعد الرحيل؟ لعل هذه الاسئلة وغيرها هو ما كان محل بحث ونقاش عميق من قبل أستاذ العلاقات الدولية بيتر ماندفيل، في كتابه «سياسات المسلمين عبر القومية: تخيل الأمة»، المترجم مؤخراً إلى العربية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر. فقد حاول ماندفيل في هذا الكتاب، واعتماداً على رؤية الأنثروبولوجيين للسياسة، التي تبدو برأيه أكثر قابلية للتطبيق مقارنة بنظريات العلوم السياسة والدولية. وانطلاقاً من ملاحظات الأنثروبولوجي الأمريكي ديل أيكلمان، يرى ماندفيل أن إحدى نقاط قوة الأنثروبولوجيا هي أن هذا التخصص ينظر بجدية إلى آراء غير النخبة (بعكس النظريات السياسية التي تهتم بدراسة نخب الدولة، وهو اهتمام يصفه ماندفيل بالخيال السياسي الضيق)، بالإضافة إلى إدراك الناس للسياسة والأمة والدين في سياق أنماط الحياة العادية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كتاب ماندفيل، رغم أن طبعته الأولى صدرت عام 1998، إلا أن قضايا الكتاب ما تزال راهنة، خاصة أن المؤلف كثيراً ما يدعونا إلى تبني برنامج يدمج بين الأنثروبولوجيا والعلاقات الدولية، يدعوه أحياناً بـ«اأنثروبولوجيا الإسلام العابر للحدود»، وهو برنامج كما اعتقد ما زال مهماً ومُفتَقداً في مراكز بحوثنا العربية، وفي هذه اللحظة بالذات، التي يشهد فيها الإسلام المحلي نزوحاً، لا بل تهجيراً في اتجاه دول ومناطق جديدة (ليس بالضرورة أن تكون غربية) كما هو حال الإسلام الشامي في تركيا مثلاً؛ الذي قد يمكننا من خلال دراسة ارتحاله في ظل الحرب، وولادة سوق دينية، وفاعلين دينيين جدد، بالإضافة إلى الانقطاع عن التربة المحلية؛ من فهم كيف تتغير رؤية الإسلام المحلي عندما يُزرع في تربة أخرى. مع ضرورة التنبه هنا، كما يؤكد ماندفيل إلى أن الإسلام المحلي لم يكن إسلاماً منعزلاً، بل كان يخضع لتأثيرات وتغيرات، وإن كانت أقل سيولة مقارنة بلحظتنا الراهنة؛ كما أن الإسلام المحلي لا يذوب بسهولة في المهجر، فما يحدث هو أكثر تعقيداً وهجنة، إذ تتحول الدلالات الإسلامية وتتغير، بحيث تتبدل معها معاني الأشياء.
ومن الملاحظات التي يمكن تسجيلها على الكتاب، هو أن الصورة التي يقدمها المؤلف عن رحلة الإسلام في عدد من المدن الأوروبية والأمريكية، تختلف كل الاختلاف عن صورة هذا «الإسلام المحاصر» وفق تعبير المفكر الباكستاني أكبر أحمد، بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
إسلام جامد
ففي مقابل صورة إسلام أكثر حيوية ودينامية، نعثر بعيد «غزوات» نيويورك على «إسلام بارد» جامد (إذا استعرنا مقولة شتراوس عن المجتمعات الباردة) كما نعثر على إسلام غير قادر على العيش ضمن الفضاء العام الأوروبي. وربما هذا الانتقال في الصورة (بين أنثروبولوجيا الإسلام المرتحل/ المندمج) والإسلام المحاصر، قد تعكس ربما شكلاً جديداً من العلاقات الدولية، أو السوق الدينية الأوروبية (عُد إلى كتاب شارلي إيبدو سوسيولوجيا أزمة دينية، أيمانويل تود)، أو ربما أجندات تعطي أهمية للصراع السياسي على حساب اليومي (مع أن دراسات الإسلام شهدت ثورة بعيد هذه الأحداث، كما يرى زكاراي لوكمان في كتابه «تاريخ الاستشراق وسياساته»).
وبالعودة إلى الكتاب، يشير ماندفيل إلى أنه وبينما يكون الإسلام في الوطن الأم جزءاً أصيلاً مسلّماً به في الحياة، فإنه يغدو في المهجر سمة من سمات الاغتراب، وعلامة على الغيرية، ما يدفع المسلم إلى تشيء إسلامه، والانخراط في دراسة ذاتية، أو نقد ذاتي للإسلام ومعانيه. وبالتالي فإن الهجرة هي انفصال، أو انقطاع جوهري يمكن أن يؤدي إلى تغيير في أهمية الإسلام، وكون المرء مسلماً، من هنا يدعونا المؤلف إلى ضرورة التركيز على الصفات الدينامية للإسلام المرتحل، وتخصيص مزيد من العناية بطرق تغير الأشياء عند هجرتها.
إن عبور الإسلام إلى المهجر يجب أن يُفهم على أنه مرحلة واحدة من مراحل رحلته، هذا العبور الذي يستلزم هجرة: إذ يصبح ارتحال الإسلام رحلة داخل الإسلام ذاته، توفر محافل خصبة لإعادة التفكير، وإعادة صياغة التراث، وبلورة إسلام للأجيال القادمة.
فيغدو الإسلام عاملاً مساعداً للذاكرة، أي: شيئاً يساعد المرء على تذكر هويته. كما أنه في المهجر، عادة ما تتغير الرموز والفضاءات المسلمة، وعادة ما تأخذ تلك التغييرات واحداً من ثلاثة أشكال؛ أولها، تغيير في أهمية فكرة أو ممارسة معينة؛ وثانيها ترجمة لغة المسلمين إلى لهجة عابرة للمحلية؛ وثالثها: بناء أشكال جديدة للتعبير الديني. وكمثال يشير ماندفيل إلى الحيز الذي كانت تشغله بعض المساجد في هولندا، إذ لم يعد المسجد مكاناً للصلاة فقط، بل أصبح فضاء يتوسط بين المجتمعات المهاجرة والمجتمع العام. وتقوم المساجد هناك بتقديم التوجيه باللغة الهولندية، وتوفير المساعدات المادية، وأماكن للتسوق، وعدد كبير من الخدمات الاجتماعية، التي ينصب الهدف منها على تلبية احتياجات المسلمين في المهجر. فمن منظمات كانت في البداية توفر سلعاً خاصة مثل الخدمة الدينية فقط، تطورت إلى مؤسسات تسعى لتحصيل سلع عامة، في ما يتعلق بمكانة أعضاء الجماعات في المجتمع.
أما على مستوى النظريات السياسية الإسلامية، فإن ما يلاحظه ماندفيل هو أن الكثير منها في فترة التسعينيات ونهاية الألفية الثانية، عانى أيضاً من صعوبة الارتحال، والحفاظ على عصريتها في المهجر. فأفكار أبو الأعلى المودودي أصبحت بالنسبة للكثير من الشباب المسلمين ذوي التعليم العالي في تلك الفترة، مجرد مصدر من بين عدة مصادر أخرى، وفي السياق ذاته، فإن ما كان يُلاحظ أيضاً هو أن الرؤية للغرب بالنسبة لأبناء الإسلام المرتحل قد تغيرت. فالغرب بالنسبة للمسلمين المهاجرين والمقيمين في أوروبا، غدا جزءاً من حياتهم، وهو يشكل البنية الأساسية لحياتهم اليومية، أما بالنسبة إلى غيرهم فالغرب ليس إلا قوة مؤرقة.
مواجهات مع الآخر المسلم:
ويرى ماندفيل أن المسلمين في المهجر يجدون أنفسهم مع أوجه وألوان جمة من الإسلام العالمي، التي تجبرهم على رؤية وضع دينهم أمام مرآة التعددية. كما تلعب هذه المواجهات دوراً محورياً في عملية تكوين الهوية، وهي تحث المسلمين كذلك على المقارنة، والرؤية النسبية لفهمهم للإسلام. وفي هذا السياق، يعتمد المؤلف على ملاحظات كان قد أبداها كل من جيمس بيسكاتوري ودايل أيكلمان في كتابهما المشترك «مسلمون مرتحلون: الحج، الهجرة، الخيال الديني» حول «أن المسلمين المقيمين في الفضاءات العابرة للمحلية يحتكون احتكاكاً مباشراً بالاختلافات الحقيقية في اللغة والطائفة والعنصر، والعادات التي لا فكاك من كونها تشكّل الأمة. وعلى النقيض من الحكمة التقليدية التي يتبناها علماء الاجتماع الغربيون، فإن المواجهة مع الآخر المسلم هي في أقل أحوالها تساوي في أهميتها في إطار تعريف الذات المواجهات مع الآخر الأوروبي». ونتيجة لهذا الاحتكاك بين الطوائف، فقد بدأ الآن تجديد حيوي في الإسلام. ولم يعد الأمر قصراً على مجرد نقل إسلام المرء إلى فضاء عابر للمحلية، بل إن مجرد فعل الارتحال يستدعي بالضرورة إضفاء النسبية على الإسلام، وهو الفعل الذي يصير سياسياً في جوهره، لأنه يتضمن التشكيك في معالم المعيارية الإسلامية.
٭ كاتب سوري