تركي علي الربيعو *
يبدو لي أن أدب الرحلات عموماً, يظل مضمراً بما هو ميثولوجي وذلك في سعيه الى تأطير ما نسميه بالغرائبي والعجائبي في سلوك الآخرين, خصوصاً أن أدب الرحلة يقيم فروقاً بين الأنا والآخر, لنقل بين الأنا المتحضرة كحالة ابن فضلان القادم من دار السلام وعاصمة الخلافة, حيث الغنى والثروة والجاه والمنعة والقوة وبراعة التمثيل, وبين الآخر الغريب الذي يُشبّه ابن فضلان سلوكه بسلوك الدوابّ الضالة ولغتهُ بلغة الزرازير. الأهم من ذلك, أن ابن فضلان الذي يدفعنا الى اقتفاء أثره في بلاد العجائب, لا يمل من عرض عجائبه. فرسالته التي يصف فيها الأقوام الأخرى من الأتراك والصقالبة والروس والخزر, مفتوحة على كلِّ ما هو عجائبي وغرائبي, بل هي مُوَشّاةٌ متناً وهامشاً بالعجائبي والغرائبي, في وصفه للحيوانات الأسطورية التي رآها في بلاد البلغار (الصقالبة) أو للرجال العماليق في بلاد الروس, حيث يدفعُهُ الاستهوال الى اعتبارهم من بقايا يأجوج ومأجوج؟
من جميع النواحي, يمكن وصف “رسالة ابن فضلان” بأنها “وثيقة انثروبولوجية وميثولوجية بآن” في وصفها الانثروبولوجي السياسي لممالك وطقوس سياسية منسية من التاريخ الرسمي, ومن هنا, هذا الثناء من جانب المستشرقين على وصف ابن فضلان لتلك الممالك وتحالفاتها وطرق التحالف, كذلك وصفها الانثروبولوجي/ الديني للكثير من العبادات الدينية عند الشعوب كما هو الحال عند الأتراك (الباشغرد) الذين يسجدون لصنمٍ من خشب, ويعبدون أرباباً كثراً كما يقول ابن فضلان, فهناك رب الشتاء ورب الصيف, ورب النهار… الخ والذين يحتكمون في النهاية الى رب كبير. أضف الى ذلك وصفه الدقيق لطقوس الدفن العجائبية عند البلغار والروس, والتي تحظى باهتمامٍ كبير من ابن فضلان, وبمقارنة ماثلة في ذهنه بين طقوس دفن المسلمين وطقوس دفن الروس التي تحاط بهالة ميثولوجية كبيرة يتابعها ابن فضلان بفضول معرفي دقيق وبإعجابٍ ظلَّ باستمرار مصدراً للعجائبي والغرائبي في رسالته.
من عجائب البشر الى عجائب المخلوقات, يتحرك ابن فضلان بفضولٍ معرفي لا ينالُ منه الكلل والملل من رائد قرر أن ينقل رسالة أمير المؤمنين الى بلاد العجائب, لنقل, الى أمير البلغار, الذي بعث برسالة يستنجد فيها بأمير المؤمنين المقتدر بالله الذي تولى الخلافة سنة 295 هجرية. وفي وصفه لعجائب البشر (عاداتهم وهيئتهم وتقاليد زواجهم… كذلك طقوس الجنس الجماعي) يسعى ابن فضلان كما أسلفتُ, الى نحت فارق بين الأنا والآخر, من دون أن يبخس الآخر حقه, وعلى سبيل المثال, فهو يصف الروس, كذلك البلغار والأتراك انطلاقاً من مرجعيته الدينية والحضارية, فالروس كالدواب الضالة لا يستنجون من غائط ولا بول, ولا يغتسلون من جنابة, ولا يغسلون أيديهم من الطعام, ويمارسون الجنس جهاراً أمام بعضهم بعضاً, ولكنه لا ينسى أن يصفهم بالجمال, فهم كالنخل شُقرٌ حُمْر. كذلك الحال مع الأتراك المذمومين من وجهة نظره لهيئتهم: “فالترك كلهم ينتفون لحاهم إلاّ أسبلتهم”, وهذا على عكس الحال مع المسلمين, ولكنه يمتدح فروسيتهم وشجاعتهم وبراعتهم, فقد رأى ابن فضلان يوماً, أن أحد الفرسان الأتراك وقد سايرهم على فرسه, رأى وزةً طائرة “فأوتر قوسه, وحرك دابته تحتها, ثم رماها, فإذا هو قد أنزلها”. أعود للقول, ان رسالة ابن فضلان وثيقة انثروبولوجية في وصفها للديانات الطوطمية عند الأتراك والبلغار في مطلع القرن العاشر الميلادي, في تعبدهم للسمك والحيّات وآخرين لطائر الكركي كما هو حال الأتراك, أو التبرك بعواء الكلب عند الصقالبة البلغار, الذين يعتبرونه شاهداً على سنة يكثر فيها الخير, وهذا ما يذكرنا بعمل الانثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس في “الفكر البري” الذي وصف لنا طقوس التضحية بالكلب الأبيض عند الهنود الحمر.
تستغرق رحلة ابن فضلان أحد عشر شهراً, يلاقي منها ما يلاقي كعادة الرحالة, ولكن ذلك لا يثنيه عن هدفه, حتى لو “اصفرَّ بالنيب بعد الخُضرة الشيحُ” كما قال ذلك الشاعر الفارس للقائد العربي قتيبة بن مسلم الذي وصل الى حدود “ترمذ”, لا بل إنه – أي ابن فضلان – يفصح لنا عن هدفٍ آخر في زيارته لبلاد الروس, هدف ظلَّ يدغدغ معظم من سبقوه من مغامرين ورحّالة. ففي روايات “ألف ليلة وليلة” أن الخليفة عبدالملك بن مروان بعث بمجموعةٍ من الرحالة الذين يثق بهم الى بلاد واق الواق ليتأكد من وجود يأجوج ومأجوج. كذلك فعل الخليفة الواثق بالله (227هـ – 232هـ) ببعثة برية الى سد يأجوج ومأجوج حفظ منها ياقوت الحموي ما جاء على لسان “سلام الترجمان”, وها هو ابن فضلان الذي وصل الى نهاية العالم آنذاك, يرفض إلا أن يعود بشهابٍ من هناك, ينير فيه الطريق الى عالم يأجوج ومأجوج العجائبي, فما إن يسمع من ملك البلغار بأسطورة الرجل الذي يقف عند “نهر إِتل” والذي طوله اثنا عشر ذراعاً ورأسه كأكبر ما يكون من القدور, وأنف أكثر من شبر, وعينان عظيمتان… الخ. حتى يتحرك ابن فضلان الى هناك, الى تفحص عظامه ورأسه, فيتأكد من ذلك وينتابه العجب وهو المولع بكل ما هو عجيب, من العماليق الى يأجوج ومأجوج.
في معظم الميثولوجيات القديمة, كذلك أدب الرحلات, كثيراً ما يعود البطل بنبتةٍ تُكسبُ قومَهُ الخلودَ أو جزة ذهبية تكون فاتحةً لعهد جديد, أو رسالة وتعليمات لحياة جديدة, وهذا ما يفعله ابن فضلان الذي يخط لنا رحلته وقدرته على ارتياد آفاق لا يزال فكرنا المعاصر عاجزاً عن ارتياد تخومها. من هنا أهمية هذه الرسالة/ الوثيقة وحاجة المثقفين العرب المعاصرين الى الاقتداء بها؟
(أحمد بن فضلان, رسالة ابن فضلان: في وصف الرحلة الى بلاد الترك والصقالبة والخزر والروس, حقّقها سامي الدهان – دمشق, المجمع العلمي العربي, 1409هـ – 1988م).
* كاتب سوري.
ماهو دور العجائبية في إض
موضوع قيم ارجو من الماتب القدير ان يتعمق في مواضيع مماثلة لانها ذو فائدة علمية تاريخية