طقوس العبور

بقلم: نيكولا جورني Nicolas Journet

ترجمة : المنتصر الحملي

ما هو القاسم المشترك بين الاحتفال برأس السّنة الجديدة في الصّين وحفلة تعميد المسيحيين القدامى وحفلة الدّخول في عبادة نكيمبا nkimba في الكونغو السّفلى؟ إنّها جميعا طقوس تعبّر عن اجتياز عتبة، رمزيّة كانت أم اجتماعيّة أم روحيّة.

سنة 1909 تاريخ صدور الطّبعة الأولى من كتاب “طقوس العبور”، كان أرنولد فان ڤـانّاب Arnold van Gennep موظّفا شابّا مبعَدا عن العمل. فقد تخلّى للتّوّ عن مهنة التّرجمة في وزارة الفلاحة ليعيش من قلمه بمقالاته ومحاضراته وترجماته. كان شغوفا بشيئين، علم الأعراق ومقاطعة صافوا Savoie الّتي ستظلّ طيلة حياته ميدانه المفضّل. ولد في ألمانيا، رافق أمّه إلى فرنسا وقضّى فترة من مراهقته في شال لي زو Challes-les-Eaux الّتي طاف فيها مشيا على الأقدام.

تحصّل على تكوينه في علم الأعراق في المدرسة التّطبيقيّة للدّراسات العليا. ومنذ 1897، تابع فيها دروس السّنسكريتيّة لـ أنطوان مايّاي Antoine Meillet ، ودروس الدّيانة البدائيّة لـ لايّون ماريلّياي Léon Marillier، وفيها قام خصوصا بربط الصّلة مع مارسيل موس Marcel Mauss وهنري إيبار Henri Hubert الّذين سيكونان مستقبلا المشرفين على شعبة علم الأعراق Ethnologie في المدرسة الفرنسيّة لعلم الاجتماع. فان ڤانّاب إذن قريب من “جماعة المحرّم- الطّوطم clan tabou-totem ” الّتي كان من اهتماماتها الكشف عمّا سيدعوه أميل ديركهايم سنة 1912 بـ”الأشكال الأوّليّة للحياة الدّينيّة”. وهكذا، قام الكتابان الأوّلان لفان ڤـانّاب على “الطّوطميّة في مدغشقر” (1903) و”الأساطير الأستراليّة”(1906): ووفقا للموضة الفرنسيّة في تلك الحقبة الزّمنيّة، كان الكتابان عملين من الدّرجة الثّانية تمّ إعدادهما انطلاقا من الأدب الأتنوغرافي. ولكنّه مع كتاب “طقوس العبور”، غامر بالخوض في أطروحة أشدّ طموحا نشأت فكرتها- وفق تعبيره- عن “إلهام”. فمنذ تايلور Tylor وفريزر Frazer، مؤسّسي علم الطّقوس المقارن، انشغل علماء الأعراق بفحص أشكاله وآلياته المنطقيّة: من ذلك أنّهم يضعون الطّقوس “المحبَّبة” (من خلال المماثلة) نقيضا للطّقوس “المنفِّرة” (من خلال الاحتكاك)، والطّقوس “المباشرة” (السّحريّة) مقابلا للطّقوس “غير المباشرة” (الّتي تستحضر الآلهة)، والطّقوس “الإيجابيّة” (المحلِّلة) في مقابل الطّقوس “السّلبيّة” (المحرِّمة). ولكنّ القليل من علماء الأعراق أولوا بعض الاهتمام إلى فكرة أنّ السّلوكيات الدّينيّة والسّحريّة، الحديثة والقديمة، تُمارَس وفقا لنظام معيّن. والحال أنّ لنسقها نفس الأهمّيّة الّتي لمضمونها. ومن زاوية النّظر هذه يميّز فان ڤـانّاب فئة معيّنة من الطّقوس الّتي “ترافق كلّ تغيّر في المكان والحالة والموقع الاجتماعيّ والسّنّ”: إنّها طقوس العبور.

في كلّ مكان من العالم القديم، كما يوضّح فان ڤـانّاب، بدائيّا كان أو”شبه متحضّر”، كان لأبواب المدن ولأطراف الأقاليم وحدودها طابع مقدّس: فاجتيازها يقتضي اتّخاذ جميع أشكال الاحتياطات. عندما كان ملك إسبرطة يهمّ بخوض حرب، كان يتوقّف على حدود المدينة ليقدّم القرابين. وبعدها فقط، يدخل إلى الأراضي المجهولة no man’s land حيث كانت تدور المعارك. أمّا الجنرالات الرّومان فكانوا عند عودتهم من الحملة العسكريّة يتوقّفون عند الحدود لينجزوا طقوس العودة. من هذا الحافز المكانيّ تحديدا- حافز اجتياز عتبة- سيرسم فان ڤـانّاب الصّورة الّتي ستسمح له بالمقارنة بين عدد كبير من الطّقوس، المعتبَرَة في العادة منفصلة عن بعضها البعض: طقوس الخصوبة، احتفالات التّقويم السّنويّ، مراسم الزّفاف والمعموديّة والختان، طقوس الطّهارة، مراسم الدّخول إلى وظيفة أو إلى مجتمع حربيّ أو دينيّ أو إلى عبادة طوطميّة أو سلفيّة، تعاليم شمانيّة (المتعلّقة بعبادة الطّبيعة)، الخ.

تتمثّل هذه الصّورة في رسم ثلاثيّ. فكلّ طقس للعبور، كما يوضّح فان ڤـانّاب، يتركّب من ثلاثة أزمنة: زمن تمهيديّ préliminaire ، وآخر استهلاليّ liminaire (أي على العتبة)، وثالث اختتاميّ post liminaire من منظور آخر، هو منظور القائم بالفعل، سنسمّيها كما يلي: الانفصال (عن الوضع أو المكان السّابق)، الهامش (بين المرحلتين)، الانضمام (إلى وضع جديد). ما بقي من كتابه هو تطبيق لهذا الرّسم على أمثلة كثيرة من الطّقوس المأخوذة من القارّات الخمس ومن التّاريخ القديم والمستعيدة لاستعارة عبور عتبة ما.

يرى فان ڤـانّاب أنّ “أيّ مجتمع عموميّ يمكن اعتباره بمثابة البيت المقسّم إلى غرف وأروقة”: ويُعتبَر الخروج من فئة معيّنة والاتّصال بفئة أخرى عملين طقسيين، حتّى وإن عبّرا عن نفسهما بمجرّد إشارة احترام. وفي هذا السّياق لفت انتباهه مثال معيّن: هو مثال رجل أجنبيّ(أبيض) استقبلته قبيلة ماسّاي Massaï من كينيا. فعلى حدودها، قام رسول زعيمها بذبح ماعز وبصَمَ على صداقة الرّجل المسافر بلفّ نصف قطعة من جلد الحيوان على أصبعه. في هذا المثال، يوجد بشكل نموذجيّ طقس انضمام إلى المجموعة.

بيد أنّ لهذا المشهد المنتقى، في أمثلة أخرى كثيرة، تطوّرات أهمّ: ذلك أنّه لا يُسمح للغريب بالإقامة إلاّ في الأماكن المحيطة بالمجموعة. باختصار، وفي كلمات وجيزة، تؤكّد هذه المماثلات الطقسيّة فعلا أنّ أيّ دخول إلى أو خروج من مجموعة اجتماعيّة ما هو مماثل لما يجري عندما يتمّ اجتياز حدود مكانيّة: فالوضعيّتان تفسحان المجال لقيام طقوس عبور.

الحمل، الولادة، التّدريب، الزّواج والموت:

إنّ نوع الطّقوس الّذي يمثّل جوهر النّموذج الّذي يقدّمه فان ڤانّاب هو ما يسمّيه تغيّر الحالة، ويتناول في خمسة فصول غزيرة طقوس الحمل والولادة والتّدريب والزّواج والموت. ومن خلالها، يوضّح فان ڤـانّاب أنّه مهما كانت الغايات المخصوصة للطّقس فإنّ التّعاقب الثّلاثيّ حاضر أو بارز. من ذلك أنّ المرأة الحامل في العديد من المجتمعات هي موضوع للتّفادي، بل يتمّ إجبارها أحيانا كما هو الحال عند التّوداس Todasفي الهند على تغيير مقرّ إقامتها. وفي مجتمعات أخرى يقع عزلها وإجبارها على مراعاة محظورات تتعلّق بالغذاء أو بالثّياب: جميع هذه التّدابير كما يرى فان ڤانّاب هي طقوس فصل تضع المرأة في موضع هامشيّ. بعد ذلك، تأتي الولادة ومعها تأتي بسرعة نسبيّا طقوس العودة إلى الحياة الطّبيعيّة (الانضمام). وفي بعض الأحيان، على الأقلّ، يعتقد فان ڤـانّاب أنّه بالإمكان الجزم بأنّ الأمّ تنال بعد الولادة وضعا جديدا، ممّا يجعل التّعاقب بأكمله طقس عبور مستقلاّ تماما.

ومع ذلك، فإنّ أكثر البراهين الّتي يقدّمها فان ڤـانّاب إقناعا، هو ذاك الّذي يتّصل بالطّقوس المسمّاة طقوس البلوغ في أفريقيا وأمريكا وغيرهما. فالكاتب عازم على إثبات أنّها ليست البتّة طقوسا علاجيّة أو سحريّة متّصلة بالبلوغ، بل هي مراسم مشابهة للطّقوس التّلقينيّة في المجتمعات الخفيّة والمنظّمات الأخويّة الدّينيّة: فغاية الطّقس هي حمل الشّخص الغرّ من مجتمع الأطفال إلى مجتمع البالغين. ولدى الماسّاي Massaï يبدأ الأولاد بالقيام برحلات طويلة في القرى، ثمّ تحلق رؤوسهم (طور تمهيديّ) ويُختَنون، ويبقون محبوسين لأيّام عديدة في أكواخ ريفيّة (الطّور استهلاليّ). بعد ذلك يتمّ حلق رؤوسهم مرّة أخرى، ويعيشون في الدّغل حتّى ينمو شعرهم من جديد: فيُجدَل ويُحرزون بذلك على وضعيّة المحارب (الطّور الاختتاميّ).

في محراب أيلوزيز Eleusis، كان المرشّحون تحت إمرة كاهن يطوف بهم في أرجاء المعبد ليتطهّروا فيه. ثمّ يُساقون جريا نحو شاطئ البحر ويسمّى هذا الرّكض “الإبعاد”. كان المبتدئون في الرّهبانيّة يستحمّون مع خنزير، ثمّ كان عليهم أن يراعوا جملة من المحظورات الغذائيّة الصّارمة، وأن يشاركوا جماعة من السّائرين في موكب، وبعدها يتمّ قبولهم داخل المعبد ويُكشَف لهم عن أسرار الموت. وفي آخر المطاف، تأخذهم الأناشيد والمواكب من جديد إلى الحياة الدّنيويّة. عندما ينتهي من هذا، يقوم فان ڤـانّاب بإخضاع بقيّة طقوس دورة الحياة إلى نفس المعالجة: حفلات الخطوبة والزّفاف وخصوصا طقوس دفن الموتى الّتي أمكن له من خلالها بسهولة كبيرة أن يثبت أنّ الموتى، في كثير من المجتمعات الّتي تقام فيها المآتم على مراحل، يتمّ بصورة تعاقبيّة فصلهم عن الأحياء (الدّفن) ثمّ يُتركون “على الهامش”، وأخيرا يعاد إدماجهم في المجتمع من خلال بقاياهم. في خاتمته، أمكن إذن لفان ڤـانّاب أن يعتبر أنّه قد أنجز مهمّته على أكمل وجه: ذلك أنّ عددا كبيرا من الأساطير المختلفة المأخوذة من مناطق متنوّعة من العالم تثبت كما يبدو صحّة رسمه الثّلاثيّ. سنكون إذن مع طقوس العبور على صلة بشكل طقسيّ أوّليّ يوضّح الكاتبُ أنّ حضوره قد يكون مباشرا أو “بالقوّة” لا غير. وأخيرا، يحدّ قليلا من جموح أقواله حين يوضّح أنّ جميع التّحوّلات في الوضعيّة لا تفضي إلى طقوس عبور في كلّ المجتمعات، وأنّها بوجه خاصّ موجودة أكثر بالأحرى في المجتمعات “شبه المتحضّرة” الّتي تكون فيها الفئات الاجتماعيّة أكثر انفصالا عن بعضها البعض.

تصوّر اجتماعيّ للمقدَّس:

في الحقيقة، لم يحظ كتاب فان ڤـانّاب بترحاب كبير في قيمة الفكرة الّتي يحملها. ويعود سبب ذلك إلى الإستراتيجية الّتي توخّاها الكاتب: فكما يؤاخذه على ذلك مارسيل موس في عرضه لـ “السّنة السّوسيولوجيّة L’Année sociologique (1910) “، كان كتاب “طقوس العبور” “رحلة طويلة من خلال التّاريخ ووصف الأجناس” مكوّنة من أجزاء وقطع، قليلون والحقّ يقال من كانوا يوضّحون كلّيّا التّسلسل النّموذجيّ لطقس العبور فيها: كان الكاتب في أحيان كثيرة مجبرا على الاعتراف بأنّ بعض الأطوار كانت مفقودة، وكان لا بدّ من افتراضها أو تأويل حضورها. باختصار، كان الكتاب واضعا لبرنامج أكثر منه كتاب برهنة في شكل جيّد ومستحَقّ.

لم يقم الكاتب، المحبَط بلا شكّ من هذا القبول المحتشم لكتابه، بتطوير تحليله مطلقا. بيد أنّ خيبة الأمل هذه لم تمنع في شيء طقس العبور من أن يصبح نموذجا أوّليّا رائجا في الأنتروبولوجيا الدّينيّة، ومن ثمّ نوعا من الحسّ المشترك: فحتّى في اللّغة الأنجليزيّة يقال” rite de passage “.

فكيف يمكن تفسير هذا النّجاح؟ بادئ ذي بدء، تنطلق فكرة طقس العبور من صورة بسيطة وناطقة، هي صورة العتبة الّتي يتمّ تجاوزها، وفي أغلب الأحيان، يكفي هذا العنصر لتمييز طقوس التّحوّل عن تلك الّتي تهدف إلى إعادة وضع سابق إلى ما كان عليه(علاجيّ مثلا). من جهة ثانية، لا بدّ من التّذكير بالتّأثير الّذي مارسته المدرسة الدّيركهاميّة في الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة البريطانيّة ومن ثُمّ العالميّة. فضمن جوقة الأصوات المتباينة للتّأويلات السّحريّة والكسمولوجيّة والأنطولوجيّة للسّلوك الطّقسيّ الّتي كانت تشغل علماء الأعراق في بداية القرن العشرين، كان النّموذج الّذي اقترحه فان ڤـانّاب واحدا من النّماذج النّادرة الّتي حضر فيها البعد الاجتماعيّ: ذلك أنّ مفاهيم كـ”فصل” و”هامش” و”انضمام” تنتمي إلى حقل الفعاليّة الاجتماعيّة لا إلى حقليْ الميتافيزيقا وما فوق الطّبيعة.

ولكنّ مفهوم طقس العبور كما أوصى به فان ڤـانّاب لم يكن أكثر من أداة للمورفولوجيا (علم الأشكال) المقارنة: فهو بصفة خاصّة لا يحيل إلى أيّ تفسير أو نظريّة من النّوع الوظيفيّ. فكان لا بدّ في الواقع من انتظار السّتّينات ليحدث في أنجلترا نوع من العودة إلى الرّمزيّة الدّينيّة وليشهد العمل الّذي تركه فان ڤـانّاب تطوّرات جديدة. ففي سنة 1962، قام ماكس ڤـلوكمان Max Gluckman الأستاذ في مانشستر بقراءة نقديّة لفان ڤـانّاب وأضاف فيها الاعتبار الوظيفيّ: فما لم يلحظه فان ڤـانّاب هو أنّ طقوس العبور كسائر الطّقوس الأخرى فيها نزعة إلى حلّ الصّراعات، أو على الأقلّ حلّ التّوتّر الملازم لأيّ تنظيم اجتماعيّ قائم على مجموعات أسريّة أو نظام أساسيّ.

سيقوم فيكتور تيرنر Victor Turner، تلميذ ڤـلوكمان والمختصّ بدوره في أفريقيا، بالتّوسّع أكثر في هذا التّحليل. فقد نشر سنة 1969 سلسلة من المحاضرات الّتي ترتكز على معرفته التّفصيليّة بطقوس ندمبو Ndembu في الكونغو، ليعيد طرح موضوع طقوس العبور. فاهتمّ خصوصا بطورها الوسَطيّ الّذي وصفه فان ڤـانّاب بالاستهلاليّ. ولاحظ أنّ هذا الطّور يتّسم في طقوس معيّنة من طقوس الولادة والاستقرار والتّدريب بإذلال المنتفعين من الطّقس. من ذلك أنّ الزّعيم الأكبر القادم عند قبيلة ندمبو يجب عليه أن يقبل بأن يتعرّى وأن يتعرّض لفيض من الشّتائم ولتهديد رعاياه وسوء معاملتهم له. وبالمثل، يُجرَّد أغرار ندمبو أثناء احتفال الختان الذّكَريّ من أسمائهم ويرسلون إلى الدّغل ويعاملون بمثابة العبيد. إنّ هذه الحركات المشتركة في كثير من طقوس التّدريب (الاحتفاء بالمبتدئين bizutage واحد منها) بليغة في دلالتها على الوضع الاستهلاليّ: فهي شرط على من هو خارج النّظام الأساسيّ، منفلت من تصنيفات السّنّ والقرابة والمركز.

المجتمع الهامشيّ Communitas مقابل البنية:

يقترح تيرنر ضَمَّ هذا الشّرط إلى مفهوم المجتمع الهامشيّ : إنّ مجتمعا هامشيّا ما هو مجموعة متجانسة، قائمة على المساواة وعلى روابط متداخلة بين أفرادها، ويمكن أن نضعها في مقابل الطّابع المبَنيَن والتّمييزي وغير العادل للمجتمع في الأوقات العاديّة. من جهة أخرى، يكون الغوص في المجتمع الهامشيّ مرفوقا في كثير من الأحيان بحركات إغاظة. لماذا؟ لأنّ سوء المعاملة الّتي يتعرّض لها زعيم ندمبو تهدف إلى إعلام العاهل القادم بأنّ سلطته ليست ملك يديه ولكنّها سلِّمت إليه من قبل رعاياه. وهكذا، يمكن لطقوس العبور هذه أن تذكّر بأخرى: إنّها طقوس القلب inversion الّتي بموجبها، في المجتمعات الطّبقيّة، يتولّى الأسياد في بعض المناسبات خدمة العبيد، ويطيع المخدومون خادميهم، مع الفارق التّالي وهو أنّه بمجرّد انتهاء الحفل يعود كلّ واحد إلى وضعه الأوّل.

إنّ وظيفة هذا القلب حسب تيرنر واضحة، ألا وهي إبراز أنّ التّراتبيات الاجتماعيّة تتميّز بأنّها مبنيّة ونسبيّة. هذا هو المعنى الّذي يمكن أن نعطيه للطّور الاستهلاليّ في طقوس العبور، إنّه تأكيد وجود بنية اجتماعيّة. ومن هنا وصل تيرنر إلى تأويل أوسع بكثير للفاعليّة الاجتماعيّة: فكلّ المجتمعات تقوم على تعارض بين البنية والبنية المضادّة. ولا يظهر هذا التّعارض في الطّقوس فحسب بل كذلك في مؤسّسات (مثل المزاح) وحركات اجتماعيّة (مثل الهيّبّيين- الوجوديين- hippies) وحركات دينيّة (مثل رهبانيّة القدّيس فرانسوا أو مسيحيّة كريشنا Krishna) ورموز كبوذا وغاندي وتولستوي. إنّ طقوس القلب هذه لها وظيفة يمكن أن نقول عنها اليوم إنّها وظيفة إجلاء، فهي تبرز، وفي الآن نفسه تؤكّد ثانية، التّراتبيات الاجتماعيّة.

تلعب الحركات المتمرّدة دورا أكثر فعاليّة: فبانسلاخها ورفضها التّراتبيات الاجتماعيّة تضع نفسها في الظّاهر في موقع ضعيف. بيد أنّ ما تجسّده ليس هو ببساطة نقيضا للبنية الاجتماعيّة: إنّها متمّمة لها، لأنّ البنية حسب تيرنر تنزع نحو “تحقيق المجتمع الهامشيّ والحفاظ عليه”. يظهَر مجتمع متوازن ما باعتباره مزيجا بين المجتمع الهامشيّ والبنية. ويمكن لأولئك الّذين يحتلّون مواضع تراتبيّة أي الأقوياء أن يستغلّوا وضعهم وأن يعتدوا بالتّالي على المجتمع الهامشيّ. وهنا يأتي دور الضّعفاء لتذكيرهم بوجود هذا المجتمع. ها هنا، يوضّح تيرنر، تكمن “سلطة الضّعفاء” : لهذا السّبب بإمكان شخصيات متواضعة كغاندي أن يصبحوا رجال دولة أقوياء.

وهكذا، باغتنائها بدلالات جديدة، فقدت طقوس العبور في الآن نفسه بعضا من خصوصيتها، إذ لم تعد تظهر بمثابة جهاز رمزيّ من نوع خاصّ، بل بمثابة شكل من بين أشكال أخرى يمكن أن يعبّر من خلاله التّوتّر الأساسيّ للمجتمعات البشريّة عن نفسه. كما أنّنا لا نستغرب اليوم، حيث نحَتْ مقارباتُ الطّقوس نحو توجّهات أخرى (تجميعيّة أو ذرائعيّة)، ألاّ تُستخدم طقوس العبور ولو قليلا إلاّ استخداما وصفيّا لتعيين الأفعال الأكثر نموذجيّة في النّوع: من تلقين واحتفال بالمبتدئين وطقوس العبور إلى فئات معيّنة…

المقال منشور بالفرنسيّة على موقع SCIENCES HUMAINES.COM ضمن ملفّ بعنوان: Les hommes en question. Pouvoir, identité, rôles… > Classiques Arnold van Gennep (1873-1957

رأيان حول “طقوس العبور”

التعليقات مغلقة.