محمد حسن عبد الحافظ*
ملحوظة:
أرسل لنا الأستاذ محمد حسن عبدالحافظ مشكورا هذه المقالة الرائعة و نظرا لطولها سننشرها في عدة حلقات
تذوق ما لا طعم له
واجعل الصغير كبيرًا
وزد في القليل
وقابل المرارة بالإحسان
وابحث عن البساطة في التعقيد
وحقق العظمة في الأشياء الصغيرة
لوتسو**
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مشهد 1 – الرباط 1999
في نوفمبر/ تشرين الأول 1999، عدت إلى مصر قادمًا من المغرب حاملاً جوهرة مقدسة منقوش عليها حكمة البسطاء ومعارفهم. معلمتي الهندية المتواضعة “كورين كومار” ألقت بالجوهرة الهندية في قلبي عن طيب خاطر، واقتنصتنها كإنسان يخرج من حكايات ألف ليلة وليلة والحواديت الشعبية والملاحم، تأخذه الرحلة دون حساب لسنينها، وكان يسكنني إحساس عميق بأني يومًا ما سأحكي لها ما عاينته في البلاد والعباد ما دمت حيًا أُرزق بالمعارف الخبيئة التي ساعدتني الجوهرة كورين الجميلة على اكتشافها.
أنصتُّ لحديث كورين في افتتاحها للدورة التدريبية للمنظمات غير الحكومية في دول الجنوب العالمي المعنونة بـ “العولمة وتحدياتها”، انعقدت طوال خمسة عشر يومًا بفندق جميل بقرية المحمدية قرب الرباط، كان صوت “كورين” يسبح في فضاء خيالي، كريح تهب من جنوب روحي كلما ارتحلت، وظللت ألمسها تهب من تلقاء نفسها كلما رمتني المقادير في حضرة الثقافة النخبوية العالمة الرفيعة التي تجهل الناس وثقافتهم وفنونهم، حيث أواجه أشباح التعليم الرسمي بمعاوله، والنظريات “العلمية” التي لم تنتج علمًا أو معرفة، وحيث أعاين الشعوب “الغلبانة” تتزود بغذاء اقتصادي وسياسي ومعرفي وثقافي وإعلامي خارج حدود وعيها وثقافتها وفنونها ومعارفها ومطالبها واحتياجاتها، وخارج أطرها وتشكيلاتها الاجتماعية.
ظللت حافظًا لـ “شفرة كورين” – التي نقشتها بطريقتي – عن ظهر قلب:
آن الأوان للتنصل من النظريات الفخمة، ومن طرح الأسئلة القديمة، ومن استخدام المقولات القديمة، ومن التعويل على الأطر القديمة. فلن يكون ذلك سوى قطع الطريق على إمكانية استبصار مسالك جديدة، وفتح سبل جديدة.
آن الآوان أن نسلك طرقًا جديدة، غير الطريق المستقيمة (المنطقية) التي رسمتها المركزية الأوروبية، ولم ترى بها إلا ذاتها في مرآة الكوكب البشري. لماذا لا نسلك “طريق الغابة” غير المستقيمة التي عرفها الهنود الفقراء من سكان الغابة، واستلهموا من انحناءاتها حكمة الكون والطبيعة.
آن الأوان لكي نتجاسر على طرح الأسئلة التي لا تعد أسئلة تُطرح، وتحلل ما لا يُعتبر من باب البيانات والمعلومات، المعممة والمكرسة كونيًا، وما يصنف في خانة الأسطوري، غير المعقول وغير العلمي، بالمعنى الذي طرحته المركزية الأوروبية حول العقل والعلم.
ينبغي لنا أن نبدأ بالبحث خارج الخطاب السائد، في مجال يقع دون المستوى المطلوب من العلمية، وما وراء مقاييس المعرفة القائمة، لنكتشف معارف شعبية وطرائق أصيلة، لنكتشف التجارب الخاصة لمجموعات المهمشين، والمنبوذين، والفقراء، والنساء، والفلاحين، والأرزقية، والحكماء المحليين، والرواة الشعبيين، والحكَّائين، وأصحاب الخيال البسطاء، وأصحاب المعارف التي لا تعرفها النخب، لتبين ما في مأثوراتهم، ومعارفهم، ومقولاتهم، من رؤى أخرى للعالم، وطرائق تصدّ للضغوط.
يتعين علينا مفارقة تقاليد الخطاب المهيمن، فنجد أنفسنا في ذلك المجال الذي احتقره هذا الخطاب؛ أي مجال الجماعات الشعبية، والثقافة الشعبية، لنكتشف ما يكتنز به من معارف مطموسة، خبيئة. لنصغي إلى صوت الحكمة يتصاعد من المعارف الشعبية العامية المحلية. لعلنا ننتقل- حينئذ – إلى مرحلة استنباط رؤى سياسية وتنموية جديدة، فيها مزيد من الأصالة، مؤهلة لمجابهة ما في الواقع من تعقد مستمر، رؤى فيها مزيج عضوي من الروح النقدية والإبداع؛ المنطقي والأسطوري؛ السياسي والشعري؛ العلمي والجمالي.
كنت أرتجي من حضوري محاضرات تلك الدورة التدريبية وأوراشها إضافة روافد فكرية جديدة، غير أن ما تلقيته من دروس في هذه الدورة (التي حضرتها مع عبدالغفار شكر وعبدالرحمن خير وشاهندا مقلد وأشرف بيومي ومحسن مرزوق وآخرين) كان في الواقع شيئًا مختلفًا تمامًا، وأكاد أقول إنه كان شيئًا أكثر أهمية بكثير مما ارتجيت؛ إنه إلهام “طريق الغابة” الذي طرحته كورين ومكّنني لاحقًا من بلورة مجموعة من الرؤى والأفكار المتماسكة.
مشهد 2 – النخيلة/ تل حنونة/ البداري/ قاو النواورة 1996 – 2000
قبل زهاء خمسة عشر عامًا (1996)، التقيت للمرة الأولى بالسيدة رتيبة فرغلي محمد رفاعي، من قرية النخيلة مركز أبو تيج محافظة أسيوط، وهو اللقاء المدهش الذي فتح أفقًا واسعًا أمامي. فعندما قررت العمل على جمع روايات شفهية مجهولة لسيرة بني هلال من قرى محافظة أسيوط، لم يكن ضمن توقعاتي أن ألتقي منذ البداية بامرأة تروي قصص السيرة، أو تبدي شغفًا بسماعها وبحفظها. وكان المدخل الذي بدأت به السيدة رتيبة روايتها يكشف عن رواية نسائية للهلالية، إذا جاز هذا التعبير، تأملت استهلالها الذي سجلته – مرئيًا – في إحدى مرات زيارتي لها، حيث تعيد صوغ الأساس الذي يقوم عليه مولد البطل، فتستبدل خضرة الشريفة بالبطل التقليدي المعروف (أبو زيد الهلالي سلامة)، ليتحول البطل المحوري من ذكر إلى أنثى. وفي الوقت نفسه، تحافظ على تقاليد الأداء التي تلقتها عن أبيها، ومنها قيم البطولة التي تحملها شخصيات السيرة مثل رزق بن نايل وأبوزيد، فالأول هو الفارس الذي تزوج البطلة وظلمها، ثم أعادها إليه وفق شروط الثاني وهو ابنها الذي تحملت بسببه ومن أجله الكثير من الجور والمخاطر.
ولا يتوقف اختلاف رواية السيدة رتيبة عن روايات الرواة الرجال عند حدود المدخل الذي استهلت به روايتها للسيرة، بل يكتنز نص روايتها بالكثير من التفاصيل والقيم التي تتصل بالنطاق الأسري، حيث يمثل الحرص على توضيح علاقات الزواج والنسب اهتمامها الرئيسي أثناء سردها للسيرة. كما أن روايتها للسيرة تتميز ببطولة النساء لمشاهدها المركزية، وهو الأمر نفسه الذي نجده عند الرواة الذكور؛ ذلك لأنه لا فكاك من الحفاظ على هذه المشاهد التي تمثل صلب بناء السيرة، ومنها:
1. مشهد تأسيسي: رحيل خضرة وولدها وسعيدة وولدها إلى أرض الزحالين، بينما يركن رزق ابن نايل منزويًا في الجبل ندمًا على طرد زوجه. ويختتم هذا المشهد بتنصيب الجازية، وحصولها على ثلث الشورى في القبيلة بعد حلها لعقدة عودة خضرة وولدها إلى قبيلة بني هلال، وهي العقدة التي وقف أمامها الفرسان الرجال حائرون، وكادت تحول دون التئام القبيلة.
2. مشهد حرب الناعسة بنت زيد العجاج لأبي زيد الهلالي قبل زواجه منها.
3. مشهد تربية شمعة الجود زوجة جبر القريشي لأيتام الأشراف في تونس، وتجهيزهم ليكونوا فرسانًا
4. مشهد رعاية الجازية بنت سرحان لأيتام بني هلال.
أثار التقائي بالسيدة رتيبة سؤالاً عما إذا كان حفظها للهلالية يمثل استثناءً فريدًا بحكم كونها امرأة، أم أنها صدفة تفتح الطريق أمام الدارسين للبحث عن النساء الراويات للسيرة؟ وهو السؤال الذي لازمني طوال فترة عملي في الميدان. وقد استطعت أثناء عملي الميداني في قرية قاو النواورة ونواحيها التابعة لمركز البداري بمحافظة أسيوط، في الفترة من 10 يونيو إلى 15 يوليو عام 1998، الحصول على معلومات حول عدد من النساء استمعن إلى السيرة، وحفظن أجزاء منها، وأن منهن من تهتم بسماعها من الإذاعة، أو من خلال أشرطة الكاسيت التي يقتنيها الرجال في الأسرة. مع ملاحظة أن رواية الشاعر جابر أبو حسين التي نسخت على شرائط الكاسيت، وراجت تجارتها، ليست وحدها التي تحظى بالإقبال، فهناك الكثير من رواة السيرة الذين انتهجوا النهج نفسه، وقدموا إنشادهم للسيرة إلى شركات إنتاج الكاسيت، لعل أشهرهم في هذه المنطقة: محمد اليمني وعلى جرمون.
وبالرغم من أنني استطعت أن ألتقي – مباشرة – باثنتين منهن يعشن في عزبة سالم بقاو النواورة، وبالرغم من موافقتهما على تسجيل اللقاء، فإنهما رفضتا تسجيل ما يحفظن من السيرة بسبب ضيق الوقت، ولظروف عملهن في الأرض والمنزل. لكن واحدة منهما دفعت ابنها “مدحت” البالغ من العمر 15 سنة إلى تسجيل بعض ما يحفظ من السيرة. وقد بدا عليها سعادة بالغة أثناء سماعها لابنها وهو يقص حكاية أبي زيد مع “شباب” بني زحلان. وقد أدركت بعد مرور ساعتين أن الأسباب التي ساقتها لم تكن وحدها المانعة من تسجيل ما تحفظ، وكان دليلي على ذلك: بقاؤها طيلة ثلاث ساعات دون أن يلحظ عليها الدارس أية علامة دالة على الانشغال بشيء بينما بدا عليها الاهتمام بمتابعة الحوار الدائر حول السيرة.
دفعتني هذه التجربة الميدانية المفعمة بالاكتشاف المدهش إلى التفكير في مقاربات منهجية جديدة تجعل من المسارات الثقافية الذكورية المطلقة مسارات ثقافية نسبية، وذلك عبر اكتشاف اللحظات الاستثنائية التي يكمن فيها جوهر أنثوي خفي، وعرضها للتحليل الدقيق، والوصول – من ثم – إلى نتائج جديدة. منظور جديد في التفكير يمكننا من تحليل الأدوار الاجتماعية والرمزية للنساء داخل نص الهلالية وخارجها، واكتناه صوت النساء الذي قاومت به المرأة هيمنة الرجل على اللغة، والنظر إلى فضاء السيرة بوصفه فضاء للبطلات (خضرة، شيحة، الجازية، الناعسة، هولة، بازلة، واطفة، عزيزة، سعدة، شمعة،… إلخ). ومثلما أشار يوسف كامبل إلى أن الثقافات القديمة عامة (ومنها الحضارة المصرية القديمة) تجعل الأنثى خالقة للحياة، وتجعل الذكر خادمًا للحياة، فحسبي أن سيرة بني هلال هي حكاية من خلق النساء وإبداعهن كحال “ألف ليلة وليلة”، فكثير من المشاهد في سيرة بني هلال لا تزال تحتل النساء بطولتها على نحو فريد لا نظير له في التراث العربي برمته، إلا في “ألف ليلة وليلة”، بينما يمثل الرجال حراسًا للسيرة الهلالية ورواة ومؤدين لها، على نحو أتاح لهم حرية صوغها في أشكال شعرية تتسم بالفحولة كالمربع والموال، يذكرنا ذلك بقول عبدالحميد الكاتب: “خير الكلام ما كان لفظه فحلاً، ومعناه بكرًا”، وكأنه بذلك يعلن – حسب تعبير عبدالله الغذامي – عن قسمة ثقافية يأخذ فيها الرجل أخطر ما في اللغة، وهو “اللفظ”، وللمرأة المعنى، هذه القسمة أفضت إلى قسمة أخرى أخذ فيها الرجل “الكتابة” واحتكرها لنفسه، وترك للمرأة “الحكي”، مما أدى إلى إحكام الرجل السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي، وعلى كتابة التاريخ من منظوره الذي يرى فيه نفسه صانعًا للتاريخ. كانت التجربة تمثل طريقًا لتعلم الإصغاء لصوت النساء والرجال معًا، والحقيقة أننا استمعنا إلى الرجال كثيرًا؛ الرجال الذين حكموا الكوكب، واخترعوا الأسلحة الفتاكة، وأخذوا قرار الحروب، وشنوها بضراوة، واقترفوا آثام الإبادة الجماعية، وصنعوا الأفكار والأيديولوجيات العنصرية.
وفي يونيو 1996، كنت في ضيافة أهالي قرية تل حنونة التابعة لمركز البداري، محافظة أسيوط. وبينما كان الحضور منصتًا إلى الراوي عنتر عز العرب وهو يقص السيرة الهلالية بأداء مميز، وبلهجة محلية قديمة. قاطع أحدهم – يعمل مدرسًا – سرد الراوي. وقال: “ليس في السيرة الهلالية المطبوعة هذا الكلام”. فانتفض الراوي عنتر غاضبًا رافعًا عصاه مشيرًا إليَّ بأن أنتبه جيدًا إلى قوله الذي بدا قاطعًا:
“الحاجه اللي هيْ مش رسمي، وتطلع بخط القلم، دي ما تعتمدهاش… ، دي تاريخات، المكتوب ده ما يجيبوش، يجيبه الراجل الحافض، الشاعر، اللي هو إيه: مِتْسَوِّحْ فِ لِبْلاَدْ، وسِمِعْ، وحِفِضْ، إنما القلم لأ. ما تعتمدش خط القلم، إللي عايش مع الناس أَمْكَنْ”.
في الشهر نفسه، التقيت الحاج عبد التواب بمنزل شاعر السيرة وعازف الرباب يوسف أحمد يوسف بمدينة البداري، حيث علق على دور الهلالية وقيمتها في حياة الناس، ثم انتقل فجأة إلى الحديث عن المادة الإعلامية التليفزيونية، وقد نظر إليَّ بوصفي وسيطًا يحمل الرسالة من الناس لينقلها إلى مسؤولي الإعلام، قائلاً:
“هِيَّ أغلب البداري حَدَانَا هِِنَاهُوَّ بتحب ابو زيد، سيرة ابو زيد. ليه… لأن سيرة ابوزيد فيها الشجاعه، ويا ريت النهاردا إحنا الدولة شغتنا تبص لعملية الشجاعة والإنسانية والزوق، إنما أغلب حاليًا دِلْقِيْتِيْ بَلاَ مُؤَاخْذَه بيجيوبولنا حادات للشباب في التِلِيفِزْيُونَاتْ والراديويَّات، حَدِيْتْ مَالَهْشْ أيَّ معنى. وبنسمع حاجات مش مصريه، اللي هِيْ مش الصيغه المصريه، مفروض إنه يكون فيه رِقَابَه شِدِيدِه، وأنا بتكلم بأعلى صوتي إن فيه حادات بيجيبوها في التَلَفَزْيُونْ من غير رقابه. المفروض ما نْمَسِّلْشِ إحنا الأَجَانِبْ، ما نمسلش الأجانب، إحنا دوله عربيه. ونَرْجُو من الله، نَرْجُو من الله، واكررها تاني وتاني وتاني، بَاقُول إنِّ يكون على التليفزيون رِقَابَه قَوِيَّه عن جَمِيْعْ الأفلام اللي هِيَّ مش طبيعة العرب. ولو عايزين تِقَلِّدو الغرب، قُلْ لُهُم يقطعو الإرسال من الجِّيْزَه ومْقَبّلْ، إِفْصِلْ خالص التِلْفِزْيُونْ من الجيزه ومِقَبِّلْ، وخد انت حقك وادينا حقنا”.
منذ ذلك الحين، بدأت التفكير مليًّا في معنى تنوع أنماط التعبير الثقافي (الشفهي والمكتوب)، وفي معنى القيم الرمزية للجماعة الاجتماعية. وبالرغم من أن جانبًا من جوانب الإعلام المرئي يعد تخليدًا لقيم الصوت البشري، بل يمثل ثأرًا للصوت من القرون التي رزحت فيها المجتمعات الإنسانية تحت نير الكتابة، ويشكل نزوعًا بشريًا لاستعادة حق الكلام، فإن الشأن ليس في الصوت (الخام) نفسه، وإنما في القيم التي يحملها هذا الصوت، فهي التي تعكس بصورة واضحة المحيط الطبيعي والاجتماعي للقوم الذين يتكلمون بها.
* مدرس الأدب الشعبي المساعد، المعهد العالي للفنون الشعبية، أكاديمية الفنون، القاهرة.
** الطريق إلى الفضيلة، نص صيني مقدس، ترجمة: علاء الديب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998.