سيرورة الرمز من العتبة إلى وسط الدار
قراءة أنثروبولوجية في السكن التقليدي التونسي
عماد صولة*
يؤلّف السكن صورة لعلاقة التمفصل بين الحاويات و محتوياتها الرمزية، فلا معنى هنا للمقابلة بين السكن بوصفه فضاء ماديا قائما على تحويل هندسي وظيفي للمكان و السكن باعتباره معيشا و متخيلا يرشح بالتمثلات و الرموز، لأنّ عملية التحويل ثمّ الاستغلال تتمّ وفق نماذج ثقافية مستمدّة حتّى “و إن كان إنتاج الفضاء من قبل المخطّطين سابقا لتملّك الفضاء و تخصيصه في استخدامه اليومي”1.
لا شيء يبدو أكثر حميمية للإنسان من سكنه، فهو نقطة ارتكاز و علامة مرجعية تثبّت وجوده، و ترسم له حدوده داخل فضاء كوني لا متناه ملغّز، لهذا عدّ السكن بمثابة الامتداد لصاحبه، و ما مشاعر الحنين و الشوق إلى السكن الشخصي إلاّ تعبيرا عن الحاجة إلى موضعة الذات ضمن فضائها المخصوص بشحناته الانفعالية و الرمزية.
و يمكن اعتبار السكن في إطار المجتمع التقليدي واحدا من النماذج المعمارية التي تفصح عن صلتها الأنثروبولوجية العميقة بالسكن البدائي. و رغم أنّ السكن العصري، على مظهره الوظيفي الكاسح، قابل هو الآخر لأن يجد بعض دلالاته في الإرث الإنساني السحيــق، فإنّ الفضاء المعماري التقـليدي بتمأسسه حسب قواعد و قـــيـــــــم و تصوّرات مضبوطة يقدّم لنا نظاما رمزيا مكثّفا و مركّبا سنحاول استجلاء بعض عناصره انطلاقا من قراءة أنثروبواوجية رمزية للسكن الحضري التقليدي التونسي القائم، هندسيا، على فناء داخلي يعرف محليّا “بوسط الدار”، و هو نمط معماري عريق يلتحم تاريخيا بالسكن الحضري السائد بالبلاد خلال الفترة الحديثة وهو، في الحقيقة، سوى وريث لتقاليد حضارية معمارية أغريقية و رومانية و شرقية2.
غير أنّ لا تاريخية هذا السكن تعنينا، و لا هويته المعمارية من حيث التصميم و التقسيم و العناصرالإنشائية و الزخرفية، و لا يهمّنا المعطى المعماري في حدّ ذاته، بقدر ما يهمّنا في امتداداته الرمزية التي لا تقدّم نفسها بصورة مباشرة و صريحة، بل نستشفّها من خلال بعض تعبيراتها المادية و السلوكية المرتبطة بالممارسة السكنية، بما يجعل السكن ظاهرة كلية بتعبير” مارسال موس ” تتمازج فيها الأبعاد و تتقاطع الدلالات في نوع من التزاوج الديناميكي تكشف عنه سيرورة الرمز.
إذا انطلقنا من الجذر اللغوي للكلمة (س.ك.ن) وجدنا المشتقات الفعلية و الاسمية منه تحيل على أربعة معان رئيسة :
المنزل بمعناه المادي المباشر: فالسكن و المسكن (بفتح الكاف أو كسرها): المنزل و البيت3.
فعل السكن أي الإقامة بالمكان المعدّ للسكنى : فسكن بالمكان يسكن سكنى (بضمّ السّين) و سكونا : أقام4.
الإنسان الّذي يسكن : فالسكن (بتسكين الكاف) أهل الدار، اسم لجمع ساكن كشارب وشرب5.
الهدوء و السكينة : ” سكن الشيء يسكن سكونا إذ ذهبت حركته “6، ويضيف صاحب اللّسان ” والسكن : كلّ ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل و غيره، و ربّما قالت العرب السكن لما يسكن إليه، و منه قوله تعالى : جعل لكم الليل سكنا7. و”استكن و تمسكن و استكان، أي خضع وذلّ “8.
من الواضح أنّ معنى القرار و الثبات، نقيض الحركة و الاضطراب، يمثّل الخيط الدلالي الرفيع الذي يجمع بين مختلف الصّيغ اللغوية المتعلّقة بجذر كلمة “سكن” حتى تلك الّتي تبدو في ظاهرها ذات استخدام مغاير مثل عبارة “السّكنى” (المدية)، إذ أنّها كما يلاحظ ابن منظور نقلا عن الأزهري : ” سميت سكّينا لأنها تسكّن الذبيحة، أي تسكنها بالموت، و كل شيء مات فقد سكن “9. كذلك آلة السكّان (بضمّ السّين)، إذ هي “ما تسكّن به السفينة و تمنع به من الحركة و الاضطراب “10.
و السكن في الاستعمال القرآني يعني في ما يعنيه المرأة : “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليه”11.
و ممّا يلفت الانتباه أنّ الكعبة نفسها الّتي تمثّل التجسيد الأرقى للفضاء المقدّس المبنيّ، تتأصّل رمزيا ضمن هذا السياق الدلالي العام بقدر ما تتّصل به لفظيا عبرالمعطى اللغوي، بما أنّ اكتشاف إبراهيم للأرض المقدّسة لبناء البيت الحرام اهتدى إليه، حسب إحدى الروايات التي نقلها ابن كثير، بنوع من الرّيح تسمّى “السكينة”، و هي “ريح خجوج و لها رأسان، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهى إلى مكة، فتطوّت على موضع البيت كطيّ الجحفة و أمر إبراهيم أن يبني حيث تستقرّ السكينة فبنى”12.
و كلمة “الدار” المرادفة للسكن و المستخدمة على نطاق واسع رغم مطابقتها لنمط من السكن هو هذا الّذي نجده في المدن التاريخية العتيقة، ذات محتويات انفعالية و قيمية أحكم المجتمع شحنها كما تشف عن ذلك عدّة مأثورات شفوية مثل” الدار قبر الحياة”، حيث لا يبدو تمثيل السكن بالقبر نوعا من الاستعارة قائمة على مقتضيات البلاغــــة، و إنّما يعكس صلة أنثروبولوجية عميقة بينهما تتردّد العديد من صورها ضمن تخيّلات الراحة و الحميمية، فكلاهما مستقرّ و عود بعد هجرة و تغرّب : القبر رجوع إلى أحشاء الأرض، والمنزل نزول و عود إلى نقطة الثبات في رحلة التقلّب و الاضطراب داخل الحياة.
و بهذا فالوجه المعماري للسكن لا يمثّل سوى الجزء الظاهر من ممارسة السكن في أبعادها المادية و الوظيفية و الرمزية منظورا إليها كوحدة تخضع، حتّى في أشدّ عناصرها بساطة و بداهة، إلى نظام رمزي يعطي لها معنى، لذا “فالسلوك نفسه رمز”13 ما دام ينطوي على حدّ أدنى من التمثّل الصامت، و السكن في سياق المجتمع التقليدي هو حقل من السلوكات الرمزية التي تنشأ و تتوالد في بناء متنام متواز مع بناء المنزل منذ لحظة التأسيس.
وراء كلّ مدينة أو قرية تاريخية تكمن أسطورة تجعل من تأسيسها حدثا مقدّسا يجسّد على نحو طقوسي قدرا محتوما، لهذا يلتبس التاريخ بالأسطورة، و البنى الرمزية التي على أساسها توجّه، ثمّ تؤوّل الأحداث من قبل الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم لا تقيم وزنا لأيّ نوع من الفصل في هذا المجال، إذ أنّ الارتباط بالنماذج المقدّسة يجعل من الفعل الإنساني فعلا أنطولوجيا يكاد يتجرّد من ثوبه التاريخي، لا سيما إذا تعلّق الأمر بإعمار الفضاء، وما هذا الزّخم الهائل من القصص الشعبي المتّصل بنشأة حتّى المعالم المحلية في الأحياء العتيقة كالزّوايا والأضرحة و الحمامات و غيرها سوى شاهد على تلك الرّغبة الجامحة في التأصيل الأنثروبولوجي و الأنطولوجي للفضاء المبني الذي نسكن، وفي الحقيقة ثمّة متخيّل كامل للفضاء يجعل لكلّ عنصر من الموضوع المعماري وظيفة رمزية، بحيث يملأ الفضاء هندسيا عبر البناء، كما يبنى أنثروبولوجيا عبر استيعابه ضمن بنى المتخيّل و شروط الممارسة الطقوسية في المعيش اليومي على حد ّسواء. و لا تتعلّق العملية بمجرّد إضافة عناصرثقافية للمعطى المعماري ترتبط أساسا بظروف استخدامه دون أن تنال من جوهره، فالأولى القول إنّها سيرورة واحدة لا تستند إلى التعاقب الزّمني بقدر ما تقوم على ضرب من التوافق و الاندماج كما يبدو واضحا في التراوج و التوازي بين مختلف مراحل بناء السكن و الطقوس المتّصلة بها.
و لمّا كان “الفضاء لدى الإنسان الديني غير متجانس، بل تحكمه تقطعات و تكسّرات”14. كان من المهمّ التحرّي في اختيار المكان بتجنّب ما يعتقد أنّه ملاذ و مأوى لجالبات الشرّ من القوى الخفية و محاولة التموضع داخل حدود جغرافية المقدّس، وذلك عبر الارتباط رمزيا بالمركز الذي يمثّل منطقة المقدّس بامتياز15.
و قد كانت الجوامع و المساجد تحتلّ قلب النسيج العمراني للمدينـة الإسلامية العتيقة، و إن كانت جغرافيا لا تقع دائما في الوسط. لكن ّ الفضاءات المقدسة نفسها تخضع لتراتبية هرمية تبدأ بمركز واحد يحتلّ رأس الهرم تتدرّج تحته مجموعة من النّوى الفضائية المقدسة الّتي تتكاثر لتبلغ أوج كثافتها عند القاعدة حيث المزارات المقدّسة الصّغيرة ذات الإشعاع المحدود، لكنّها بدورها بمثابة المركز بالنسبة للنسيج العمراني الّذي تقع فيه.
و تمثّل مكّة مركز المقدّس في الفضاء الإسلامي، إذ تحوي البيت الحرام الذي هو، كما يقول القزويني، “سرّة الأرض و وسط الدنيا و أمّ القرى”16 وهي، في الحقيقة، مكانة سابقة لظهور الإسلام، حيث “تروي الأخبار أنّ الفضاء كان في البدء مكّة، و لا فضاء مقدّس غير مكّة في البدء”17. و صفة العتيق المسندة إلى البيت لا تحيل على مجرّد قدم التأسيس في حدّ ذاته، و إنّما أيضا على طبيعة الحجر الأسود الذي يعدّ أهمّ عناصره، فهو مقترن بخلق الكون نفسه، بما أنّه نزل مع آدم بلاد الهند، إلى أن جاء به جبريل لاستكمال البناء، و بالتالي، فإنّ البيت العتيق ” لم يكن إبداعا من لا شيء وضعه إبراهيم و إسماعيل، بل كان قديما قدم هذا الحجر الأسود “18.
و إلى الكعبة يتمّ الاتّجاه في آداء مختلف الشعائر كالصّلاة و الأضاحي فضلا عن بناء المساجد التي لم يؤثّر التوجّه إلى القبلة في تصميمها الهندسي فحسب، و إنّما امتدّ هذا التأثير إلى التشكيل الفراغي للنسيج العمراني و البيئة العمرانية ككلّ”19، كما يبرز في تخطيط المدن الإسلامية الأولى حيث غالبا ما يميل امتداد النسيج العمراني إلى التوازي مع الجدران الخارجية للمسجد الموجّهة نحو القبلة20. و فضلا عن دلالته على الاتجاه بالمعنى الحسّي المباشر يدلّ الفعل قبّل، كما لاحظ “بورديو” في معرض تحليله لنظام القيم المرتبطة بالسكن في منطقة القبائل الجزائرية، على معنى المقابلة بالوجه21 التي تنطوي على قيم ممجّدة أخلاقيا مثل الشجاعة و المروءة، وهو ما يعني أنّ الشرق ذو قيمة رمزية إيـجابية عكس الغرب الذي يرتبط أكثر بصور الموت و العتمة و المجهول.
و قصّة بناء الكعبة الّتي اقترنت بالنبي إبراهيم تجسّد إحدى صور التجلّي البليغ للمقدّس على النّحو الذي تفصح عنه رموز الحجر الأسود و رؤيا إبراهيم وما تمخّضت عنه من ذلك الامتحان الرهيب. و عادة ما يدشّن بناء السكن الجديد بأضحية حيوانية تتيح التماثل مع لحظة التأسيس الأولى، إذ أنّ التضحية أيّما كان شكلها تنهض على روح الارتداد بحثا عن النموذج الأصل بفضل “قدرتها الغيبية على الإمساك بالزمن خلال مبادلة تعويــــضية و استرضائية”22. ولئن كانت الضرورات الجغرافية و التقنية تدفع إلى الاستقرار بأماكن معيّنة، فإنّ ذلك لا يمنع من إدراجها رمزيا داخل نطاق ما يخضع لسلطة المقدّس من قوى الخير و جالباتها، فالفضاء الآخر المجهول يحمل ما يحمل داخله من كائنات خفية غريبة و مخيفـــة، و اقتحام مجالها يكون مصدر خراب و شقاء للمنزل و ساكنيه. و يصوّر المعتقد الشعبي عالم الجنّ متموضعا ضمن فضاءات خاصّة قريبة من الإنسان لا تكاد تنفصل عن سكـنه اليومي المألوف مثل الآبار و العيون و برك الماء الآسنة والينابيع و البيوت المقفرة و المباني المهجورة، ويتمّ التعبير عن هذا التصوّر في الاستخدام الشعبي لصفة مسكون (اسم مفعول قائم مقام الصفة)، أي مكان تسكنه الكائنات الأخرى من الجان، حيث لا يتلفّظ باسمها أبدا، و إنّما يشار إليها بوجل واقتضاب إشارة مقترنة بالبسملة اتّقاء لشرّها.
و بذلك لم يعد بناء المنزل مجرّد شأن إنسانيّ يرتهن إلى إرادة الفاعلين من بني البشر وحدهم، و إنّما يعني أيضا عالما لا مرئيا كاملا من الأرواح23، وهو ما يمنح السكن ثقلا أنطولوجيا يجعل التعاطي معه قرارا خطيرا عليه يتوقّف وجود الإنسان نفسه24، حتّى أنّ مصير الجماعة برمّتها قد ترتدّ أسبابه إلى ممارسة سكنية فردية تقدّر بأنّها خاطئة من جهة الشروط الطقوسية، و ليس الموضوعية، التي تأسّست عليها اعتقادا بأنّ تبعات إساءة التموضع في الفضاء و إعماره يمكن أن تتخذ شكل الانتقام الجماعي.
أمّا من وجهة نظر سوسيولوجية، فالبناء يمسّ الجماعة بصورة مباشرة نظرا للمضمون الاجتماعي للفضاء، إذ من خلاله تتجسّد العلاقات الاجتماعية و تعبّر عن نفسها25، فالسكن حلقة وصل بين الفرد و المجتمع و إحدى آليات الدمج الاجتماعي طالما أنّ الاستقلال بالسكن يرتبط، إلى حدّ بعيد، بمؤسّسة الزواج بما تعنيه من الانتماء و الضبط و الالتزام، فالمنزل يكاد يكون خاليا من أيّة دلالة و وظيفة خارج الاجتماع العائلي، و إنشاؤه عادة ما يندرج في هذا السياق، إذ هو يستكمل شروط الاعتراف الاجتماعي و الأخلاقي. و لعلّه من المهمّ التذكير بالعلاقة الوثيقة بين الزّواج و تأمين السكن لما يختزنه هذا الأخير من نزعات و تعبيرات شخصية و قدرة على استنهاض أشدّ القيم الأخلاقية هيبة و سحرا في الضمير الجمعي، فشرف الإنسان مقترن بالمنزل الذي يسكن، (دارنا تستر عارنا كما يقول المثل الشعبي)، ولا تخفى العلاقة الوطيدة بين الشرف والمقدّس كما بيّن “بورديو”26 في سياق تحليله المشار إليه آنفا. و المرأة هي دون أدنى مبالغة قاعدة هذه العلاقة و عنوانها الأكثر ثباتا، لذلك نجدها تتماثل مع المنزل للانخراط ضمن سيرورة معقّدة من تبادل الأدوار تشكّل ثنائية تكاد تكون أنطولوجية أحكم المجتمع شحنها.
كان إنشاء السكن حدثا تشارك فيه الجماعة كلّها بشكل أو بآخر، ليس فقط عبر الأضحية الّتي تتّخذ شكل وليمة جماعية و ما تدفع إليه من تقديم الهدايا الغذائية بوصفها مولّدة لنظام من التواصل و الإلزام المتبادل كما برهنت على ذلك تحاليل “موس” الدقيقة للهبة27، و إنّما أيضا عبر الإسهام الفعلي في إنجاز المنزل الجديد، حيث تكون هذه المناسبة مجالا لبروز التضامنات داخل نطاق الجماعة الواحدة لا سيما في المراحل الحاسمة من عملية البناء التي تقتضي توفّر عدد كبير من اليد العاملة مثل حفر الأسس و التسقيف.
إذن فالأمر يتعلّق بمكان مقدّس متجاوز لموضوعية علم الهندسة “يمكن أن يفسّر كنوع من الاختزال و الترميز للكون الذي يعيش فيه الإنسان”28، و هو إن كان يقتضي أن ينشأ بطريقة طقسية في أجواء احتفالية جماعية فلكي تتاح شروط التواصل و التماثل مع المقدّس، لذلك لا تنتهي الطقوس بمجرّد الاستقرار بالمنزل المحدث، بل إنّها تستمرّ و تتكثّف مدشّنة أهمّ الأحداث المقترنة بدورة الحياة لدى أفراد العائلة متّخذة من السكن إطارا للاحتفال.
يحضر الباب بعناصره الإنشائية و الزخرفية بوصفه الجزء الأكثر كثافة في التعبير عن السكن تعيينا و ترميزا، و إذا كان حضوره هندسيا لا يكتمل إلاّ في أواخر مراحل عملية البناء، فإنّ تمثّله يبدو واضحا منذ البداية لا سيما عبر التعامل مع موضع العتبة بكثير من مظاهر الخشية و الانفعال، فيتمّ تخصيصه دون غيره من الأجزاء و الوحدات المعمارية بطقوس عدّة تختلف العناصر المستخدمة فيها، إلاّ أنّــها تتجانس في تمثّل ضرب من العلاقة الحتميّة القدرية بين ما يعتقد أنّه “طبيعة العتبة” و مستقبل المسكن و ساكنيه، و تتصدّر “السمكة” لائحة العناصر الطقوسية المستخدمة في هذا المجال في الكثير من جهات البلاد، بينما تكون القطع النقدية هي البديل المادي في بعض الجهات و الأوساط الاجتماعية الأخرى، بل ليس نادرا أن يتمّ المـــزج بين العنصرين (السمكي و النقدي)، “ففي مدينة تونس، و بموجب العادة، كان يتمّ وضع قطعة نقدية من الفضة أو الذهب في فم سمكة، ثم يدفن الكلّ تحت حجرة العتبة”29
و إذا كانت النقود هي كفالة ضدّ الفاقة و العوز و صروف الدهر، فإنّ للسمكة وظيفة تبشيرية و إخصابية في المتخيّل الشعبي، و هي حين توارى بعناية عند العتبة، فلأنّ هذه الأخيرة تنوب عن المنزل كلّه، بحيث سيرتهن مصير ساكنيه إلى طبيعة العتبة، أي البداية و الأصل، فإن كانت مباركة، جـاء كلّ ما تأســـــّس عليها ميمونا مباركا، و العكس صحيح، و هو ما يترجمه المثل الشعبي الدارج ” نواصي و عتب و البعض من الذريّة “.
فللعتبة قوى خفية تحميها، بدونها تستحيل إلى مصدر لكلّ شرّ و شقاء، و الاستقرار بمنزل سيّئ العتبة، حتّى و إن كان على سبيل الاضطرار، لا ينتهي إلاّ بوخيم العواقب، لذلك ترتفع قيمة المحلّ بارتفاع القيمة الرمزية لعتبته، و لا تستثنى من القاعدة المحلاّت التجارية و الحرفية، إذ كثيرا ما يؤدي سوء عتباتها إلى انهيار المشاريع المرتبطة بها عبر السرقة أو الإفلاس أو كساد التجارة.
و قد طوّر المجتمع التقليدي مفهوما شاملا للعتبة، ليس بإدماج تجريدات مخيالية فحسب، و إنّما أيضا بواسطة جملة من الآداب و الأفـــعـــال المقنّنة، فعبور عتبة السكن الجديد لأوّل مرّة، سواء كان جديدا ـ و الجدّة هنا ليست في البناء و إنّما في الاستخدام ـ ينبغي أن يقترن بالبسملة و بتقديم الرّجل اليمنى على اليسرى. و في بعض الجهات كان يحرّم على العروس أن تطأ بقدميها على العتبة، لذلك تدخل بيت الزّوجية محمولة30. أمّا بمدينة تونس، فكانت العادة تقتضي أن ينزع حذاء العروس بمجرّد بلوغ العتبة، ثمّ توضع رجلها اليمنى في دلو مملوء ماء باردا31.
و الوقوف عند العتبة بغير موجب كان إلى وقت قريب أمرا مذموما، ولعلّه لا يزال كذلك في بعض المناطق، و إبقاء الزّائر أو السّائل ينتظر دون عبورها ينطوي على رفض للغريب، إن كان ذلك متعمّدا، و على قلّة كياسة تحمل محمل الإهانة، إذا كان الأمر على سبيل السّهو أو التلذّد. أمّا التعثّر في العتبة، فيؤوّل على أنّه نذير شؤم يحذر من مغبّة دخول الفضاء و اتّخاذه سكنا.
إنّ هذا التعيين المادّي الذي تمارسه العتبة باعتبارها الحدّ العازل و الواصل، في آن، بين المنزل و الشارع ينطوي على تعيين اجتماعي و رمزي يقوم على ضرب من التقابل بين الفضاء الخاصّ و الفضاء العامّ، و بالتّالي التمييز بين المرجعية العائلية و المرجعية المجتمعية بكلّ ما تنطوي عليه من التصوّرات و المواقف، وهي الوظيفة نفسها الّتي يؤمّنها الباب عبر ثنائية الانغلاق و الانفتاح و الضيق و الاتّساع.
و بصرف النّظر عن الاختلافات التقنية في هندسة الأبواب التقليدية و الّتي ترتبط في جانب منها بالصفة التراتبية للسكن من حيث دلالته على الوضع الطبقي لساكنيه، فانّه يلاحظ حرص على إبراز الباب و وسمه بما يجعله علامة المنزل و صورته، فهو عادة ما يكون في إطار سواء اتّخذ هيئات إنشائية و زخرفية فاخرة، كالأفريز، أو بسيطة (شريط لوني محيط بالباب). و بفضل عناصره المادية الوظيفية و الرمزية يتحوّل الباب إلى نظام دلالي بصري و فضائي تتزاوج فيه أنماط مختلفة من التعبير كالرســم و الحفر و الكتابة ممّا يجعله يتمتّع ببلاغة خاصّة ترفعه إلى مستوى النصّ بالمعنى السيميولوجي للعبارة.
فإذا أخذنا الباب مجرّدا من ملحقاته الرمزية المادية، و اعتمدنا أحد نماذجه الشائعة، وجدنا أنّه يتألّف من باب ضخم من مادّة الخشب جهّز أحد مصراعيه بباب ضيّق منخفض يعرف ” بالخوخة “، و هو المستخدم في الظروف العادية من قبل ساكني الدار. و صغر حجم ” الخوخة ” يجعلها تظهر من بعيد كما لو أنّها كوّة جدارية لا يتمّ النّفاذ منها إلاّ بقدر من الجهد و اليقظة، و لئن كان الباب الرّئيس بارتفاعه و اتّساعه يوحي بالامتداد و الانفتاح أمام الزّائر، فإنّ الخوخة تنطوي على معنى مقابل، إلى حدّ ما، فللولوج منها لا مفرّ من الانحناء، وهي حركة جسدية تتجاوز مستوى الإشارة لتأخذ معنى استعاريا مقدّسا نظرا لصلتها الخاصّة بمنظومة الأوضاع الجسدية الشعائرية كما تبرز في الصلوات و النذور التقليدية، و في مراسم و طقوس الولاء و الطاعة في الحقلين الاجتماعي و السياسي.
كما أنّ انخفاض العتبة عن مستوى أسفل “الخوخة” يدفع إلى رفع الرجل عند الدخول، بحيث يأخذ الجسد ّ، من الرأس إلى القدم، “مورفولوجية” خاصّة تفرضها تقنيتي الانحناء و التخطّي و الرّفع، أي خفض ما هو مرتفع و رفع ما هو منخفض. إنّه وضع دلالي من التطويع و الضبط الجسدي يذكّر بأنّه ثمّة حدّ يتمّ عبوره للولوج إلى فضاء خاصّ له حرمته و هويته تذكيرا يجيّش الوجدان بما يجعلنا إزاء حدث لم تتهرّأ دلالته الرمزية لكثرة ما تكرّر، و لعلّ ذلك من شأنه أن يحفظ للسكن، مبنى و ممارسة، جدّته و هيبته.
و بذلك يستكمل الباب مفهوم العتبة، لكنّه يضيف إليه معنى الحميمية، فالأشياء كلّما صغرت و ضاقت كانت أكثر قربا و طمأنينة إلى النفس، إذ يتشكّل فيها تناظر و تناغم بين الجسد البشري و الكون الفسيح بما يسمح لنا بأن نستعيد طمأنينة الحياة الأولى و حميميتها، لذلك كانت المغارة النموذج السكني الأشدّ تعبيرا عن هذا الشعور، و عديدة هــي المعابد و المزارات المقدّسة التي ارتبطت بالمغاور، و يقدّم لنا الدّين الشعبي، في إطار ما يعرف بالزوايا و مقامات الأولياء و الصالحين، نماذج كثيرة من ذلك لعلّ أشهرها المغارة الشاذلية المعروفة بمدينة تونس، حيث يمتزج فيها تكريم الوليّ، عبر بعض الطقوس، باستعادة حميمية الفضاء الأصلي.
و يمكن اعتبار فتحة الباب مجسّدة في ” الخوخة ” بمثابة الفجوة الّتي تجعل للدار شكلا مجوّفا يتماثل مع المغارة، بل إنّه، كما يذهب إلى ذلك “جيلبير دوران” تأسّيا بتحليل “باشلار” لا يوجد سوى اختلاف بسيط بين المغارة و المسكن الحميمي، لأنّ هذا الأخير ما هو في الغالب إلاّ كهفا تغيّر موضعه”32
و إذا كانت كلّ الأبواب تتمتّع بأقفال تحصّنها، و بالتالي تجعل المنزل أكثر مناعة، فإنّ التحصين الأهمّ للسكن التقليدي يتمّ من خلال تلك الرّموز المادية المعلّقة على واجهته و الّتي من أهمّها السمكة (تسمى هنا حوتة) و قرون الحيوانات (الغزال الكبش أو الثور) و الخمسة، أو يد فاطمة كما يسميها الأروبيون، الّتي هي الأكثر انشارا دون منازع. فالسمكة، التي يمتدّ الاعتقاد في قوّتها السحرية إلى ما قبل التاريخ33 ترتبط بمفهوم الرخاء34، و هو السياق الدلالي ذاته الذي ينخرط فيه القرن، إذ أنّه يمثّل النتوء و العلوّ بما يجعل رمزيته تحوم حول القوة والسلطة35، لذا يفقد الكبش الأجمّ، أي المكسور القرون أو الذي لا قرون له، قيمته الرمزية تلك، لتتحول رؤيته في الأحلام، حسب تأويل ابن سيرين الذي هو أكثر التأويلات شيوعا، إلى دليل على “المعزول من سلاحه و المسلوب من سلطانه، و على المخذول المسلوب من سلاحه و أنصاره”36، فاقدا وظيفته الطقوسية كأضحية إذا ما خـــلع أو كسر قرنه، وفق التحديد الفقهي لشروط الأضحية.و حتّى إن اعتمدنا العصا كتحويل استعاري للقرن باعتبار ما يجمع بينهما من تمدّد و تصلّب، فإنّ الدلالة الرمزية لا تكاد تتغيّر في جوهرها، حيث تحيل العصا بدورها على السيادة والسلطة و القــدرة37، و هي دون ريب صفات مطلوبة لتأمين حماية المنزل.
أمّا الخمسة المستعارة من اليد فقد اختزلت في الرقم 5 المعادل لعدد أصابع اليد الواحدة و الذي يحمل في ذاته قوّة سحرية خفيّة خيّرة تجعله رقية يستعاذ بها من كلّ سوء، ممّا جعله يستعمل على نطاق واسع في تصنيف الأشياء و تمييزها تبرّكا و تيمّنا، حتّى أنّ بعض القبائل كانت تقسّم إلى خمسة فروع أو أقسام و الأسواق تنعقد يوم الخميس38 الذي هو أفضل إطار زماني لتدشين أي عمل أو مشروع بما في ذلك تشييد المنزل، ثمّ دخوله.
يستمدّ الرقم خمسة أهميته داخل منظومة الرموزمن إحالته الجسدية المباشرة، فهو عدد مطابق لأقسام الجسم، و أيضا الأطراف و الحواس، ليصبح بذلك رمزا للإنسان نفسه39 و تتّخذ الخمسة على الباب هيئات مختلفة، فهي تارة يد مفتوحة مرفوعة مصنوعة من المعدن (حديد، نحاس) قد ثبّتت أعلى الباب، و أخرى تبدو على شكل حلقة حديدية لا تظهر فيها الأصابع، تستخدم لدقّ الباب.كما يمكن أن تكون عبارة عن رسم باستخدام مادّة الحنّاء أو دم أضحية أو قربان.لا شكّ أنّ ثمّة إشكالية حول الأصل التكويني، و ليس التاريخي، للمعتقدات المرتبطة بالخمسة، أي هل هي ناجمة عن فضائل اليد في حدّ ذاتها، كما يذهب البعض إلى ذلك40، أم هي كامنة في البديل العددي الّذي انتهت إليه. و لكنّ الثّابت، أنّ الخمسة و رمز السمكة يشكّلان معا أقوى الرموز الحميمة في المتخيّل الشعبي الذي يسوس بهما مشاعر القلق و الريبة في المجهول، فتكونان حصنا منيعا تنكسر عليه المخاوف ممّا هو آت.
لا يتسنّى بلوغ عمق الدّار بمجرّد انفتاح الباب و عبور العتبة، إذ لا بدّ من أن نسلك مسافة، تطول أو تقصر، تحتلّها سقيفة أو أكثر هي عبارة عن رواق مسقوف متّصل بالباب يشبه الإيوان، بحيث تطغى عليها الظلمة إلاّ ممّا يسمح به وسط الدار من ضوء، و يمكن أن تجهّز هذه الوحدة المعمارية بمقاعد على هيئة الــدكّة معدّة لانتظار الزّائرين. و بفضل قيمها الضّوئية و فراغها المادي، تمارس السّقيفة دورا في تعقيد عملية الدخول بوضع الحواجز و المسافات الّتي من شأنها أن تعزّز خصوصية الفضاء الدّاخلي، لتبقيه بعيدا عن أعين الغرباء، فهي بمثابة متاهة تغري بلذّة الاكتشاف، و ممّا لا شكّ فيه، كما يذهب إلى ذلك “ميرسيا إلياد”، أنّ دلالة المتاهة و وظيفتها تدمجان فكرة الدفاع عن مركز، أي فضاء نعمل على حمايته من الفضوليين”41.
و سواء تعلّق هذا الوسط بضريح أو معبد أو حتّى مدينة أو منزل، فإنّ السقيفة، وفي جميع الحالات، تحمي فضاء سحريا دينيا نحرص على تحصينه من أشكال الهــــــتك و الاغتصاب42. و تتعزّز الحماية عبر التصميم الهندسي لوسط الدار نفسه، فهو يبدو مقفلا مغلقا، سواء كان مربّعا أم مستطيلا، و الصور المغلقة في الحالتين “تمثّل تحوّل الرمز إلى فكرة الدفاع عن الاستقلال الذاتي”43، و إذا كانت ثمّة حاجة إلى كشف وسط الدار، فينبغي أن يحصل ذلك بعد جهد جسدي و نفسي يعطي معنى مقدّسا للستر الّذي سيهتك، بحيث يتطابق دخول الدار مع دخول أي معبد أو مزار مقدس طالما أنّ مفهوم الحرام حاضر في الحالتين حضورا يدعو إلى التعامل طقوسيا معهما بمشاعر الخشية و الاحترام مع ما يقتضي ذلك من الامتناع عن التعدّي على حرمتهما.
لكن الطبيعة الرمزية لوسط الدار لا تظهر إلاّ وهي ملتبسة بقيمته الاجتماعية الوظيفية في الاستخدام اليومي بما يدفــــــع إلى ضرب ستار حوله تكفله السقيفة بجانبها المادّي و الرّمزي، و مختلف طقوس العبور، في تناوب و تداخل مثيرين.
إنّ القبوات الطولية أو المتعامدة الّتي عادة ما تكوّن السقف، والعقود المختلفة الّتي تقع عليها، تذكّر أو تحيل جميعا على الدائرة الّتي هي أصل الأشياء، إذ “العالم دائري حول كائن دائري”44، و هي، وإن كانت أشكالا هندسية تقدم معالجات معمارية لمشاكل الضغط على الجدران و الحرارة و التهوئة، فإنها، وبفعل امتدادها و غياب حذّة الأضلع والزوايا فيها، تبعث على الاحتوا، لتصبح السقيفة بطنا يحتوي الإنسان، لكنّه احتواء تدريجي و مقنّن و متمنّع لأنّه يتعلّق بفضاء لا ينفكّ يتماهى مع النماذج المقدّسة التي يتّخذها مرجعا و أفقا في تأسيسه.
و تفصح جدلية الفضاءات المقدّسة عن طابعها المزدوج، فمن جهة أولى هنالك جملة من الرموز و الطقوس التي تشدّد على صعوبة الدخول إلى الوسط، و من جهة ثانية ثمّة مجموعة مماثلة، غير أنّها تؤكّد أنّ هذا الوسط هو في المتناول45.
و هكذا يتحوّل دخول المنزل إلى رحلة محفوفة بالمتاعب، طافحة بالانفعالات، تتأصّل رمزيا و طقوسيا ضمن الهجرات الدورية إلى المعابد و المزارات المركزية، مذكّرة بتجارب الوجد الصّوفي الّتي يأخذ فيها السفر في المكان معنى المعراج الرّوحي.
و بفضل السقيفة تكتمل طقوس العبور الملازمة لكلّ عمليّة اقتحام لمكان أو زمان جديدين، محقّقة ضربا من الامتحان العسير الّذي يؤمّن وظيفة تطهيرية تسمح بالتواصل مع المقدّس، و بالفعل، فإنّ ” هذا الجهد الجسدي و النّفسي سيكافأ في النّهاية بالوصول إلى وسط الدّار “46، فتهتك الحجب هتكا يزيح النّقاب عن صورة أخرى للسكن التقليدي تكاد تكون مقابلة تماما لصورته كما تبدو من خلال السقيفة.
و بما أنّ المنزل هو عبارة عن كون مصغّرmicrocosme un 47، فإنّه من الطبيعي أن يخضع للتقسيم و الترتيب اللذين يتجاوزان التقطيع الهندسي و الوظيفي تماما كمركز الكون الذي يسعى إلى التماثل معه، لكن على أساس الانتظام حول نقطة تختزل قعره الأنطولوجي فضلا عمّا يتدفّق على سطحة من ممارسة سكنية.
و وسط الدار هو المركز بمختلف المعايير، فهو من الناحية الهندسية ساحة غير مسقوفة تفتح عليها جميع الغرف بما في ذلك تلك التي تقوم بالطابق العلوي، و انطلاقا منه يصبح التمييز بين الوحدات السكنية قابلا للإدراك”48، فتعبّر الأبواب المستقلّة عن انفصال الغرف و تفرّدها، لكن، و في الوقت ذاته، انطلاقا من وسط الدار تتأكّد الوحدة الفضائية للمنزل كلّه49 بما يتيحه من تساند وتواصل معماري بينها حتّى أنّها لا تبدو إلاّ كامتداد لبعضها البعض. أمّا من الناحية الاجتماعية فهو بمثابة المجال الذي تنتظم فيه الأنشطة الجمعية50، إذ أنه ملتقى لشتى الأعمال المنزلية اليومية و الممارسات الاجتماعية الاحتفالية، بما ينأى بنا عن التقسيم الفضائي للأنشطة فضلا عن التقسيم الجنسي الصارم. فنحن حيال فضاء مفتوح منطلق دون حواجز يضطلع بوظائف متعدّدة بعضها يرتبط تقليديا بوسط الدار كالنظافة و الغسيل، و بعضها الآخر ملحق به كالسمر والترفيه و لعب الأطفال و تعاطي بعض المهارات النسائية من فنون التطريز والحياكة و نحوهما، و هو ما ينمّ عن وجود نمط دينامي من الممارسة السكنية يطغى عليه التعدّد و التنوّع الوظيفيين، و إلغاء لأشكال الفصل على أساسي الجنس و السنّ لا تسمح به الغرف المستقلّة بذاتها هندسيا و وظيفيا، لكنّ ذلك لا يعني نزوعا نـحو الفوضى، فثمّة “تنظيم يرتبط بتوزيع الأنشـطة إلى أشياء نظيــــفة و أخرى وسخة، و بالحياة المجموعتية Communautaire و بتقنيات الجسد”51.
و لا تتجلّى إزدواجية وسط الدّار في الاستخدام الوظيفي فحسب، و إنّما أيضا في الجمع بين ثنائيات متقابلة تقوم على صيغ مرنة متعددة من التلاعب بعناصر المنــــاخ و المحيط المباشر، حيث “يسمح وسط الدار، دائما، بالانتقال من الشمس إلى الظلّ، ومن الرطوبة إلى الجفاف، و بمعايشة الداخل و الخارج في آن واحد”52، و لا تخفى دلالة هذه العناصر في المتخيّل الجمعي خصوصا، وفي المنظومة الرمــــــزية و القيمية للمجتمع التقليدي عموما.
و بهذه الخصائص، فإنّ الإثارة التي يمارسها وسط الدار على ساكنيه هي حسيّة جسدية قبل أن تكون خيالية مجرّدة كما يبرز في الرسم التالي :
النورالمتدفّق و الظّلال ← البصر.
الأرضية الرطبة ← اللّمس.
النباتات المنزلية التقليدية ← الشمّ.
الهدوء و السكينة ← السمع.
ماء البئر و المواجل ← الذوق.
إنّها لمتعة نفسية جسدية داخل عالم مفعم بالحياة و الحركة يكاد يتقابل وظيفيا و رمزيا مع السقيفة :
السقيفة |
وسط الدار |
النور الحركة الانفتاح تنوع الوظيفة الوصل التحرّر الفراغ |
الظلمة السكون الانغلاق وحدة الوظيفة الفصل الضبط الملء |
لا يقلّ السمع منزلة عن البصر في التعامل الإدراكي و التخييلي مع الأشياء المحيطة بنا، ولئن اقترن المنزل بالسكينة من حيث هو “منطقة مميّزة لتخفيف الضجيج الخارجي، و لاستقبال الأصوات المعتادة التي تساهم في إعطاء الإنسان شعورا بالأمن الشخصي”53، و هي صورة كلاسيكية شائعة في الشعر وفي الأدب الروائي، فإنّ النّموذج المعماري الذي نحن بصدده يمنح شعورا عارما بالهدوء دون أن يفقد هويّته الصّوتية، و ليس الأمر مجرّد انفعال تخيّلي تثيره تاريخية المكان و نزعة الحنين إلى الطبيعة البكر قبل أن يلوّثها صخب الحياة العصرية، و إنّما هو، في المقام الأوّل، إحساس مؤسّس على المعطى المعماري نفسه، حيث الجدران السميكة و الباب الخارجي محكم الإغلاق و وسط الدار المعزول عن الخارج بفضل الغرف المحيطة به، كلّها تشكّل عناصر عازلة تساهم في تقليص تعالي أصوات أفراد العائلة، و مثل هذا التصميم يعكس حرصا على ” منع خروج الأصوات من داخل البيت إلى خارجه بدافع توفير عنصر الخصوصية لساكنيه “54.
و بذلك يمكن اعتبار “وسط الدار” هو أصل السكن التقليدي و منتهاه، ليس فقط من وجهة نظر معمارية بحكم أنّه يمثّل أساس تصميمه الهندسي، و إنّما أيضا من وجهة نظر سوسيولوجية و أنثروبولوجية نظرا لما يختزنه من كثافة علائقية و ممارسات اجتماعية يومية و احتفالية، و لما يحيل عليه من مخيّلة و ذاكرة تعكسان عمقه الأنطولوجي، فهو لساكنه خلوة و معبد، و هو أيضا عالمه الحقيقي الحميمي المحبّب إلى جسده بفضل ما يسري فيه من أصوات و أضواء و ظلال و روائح تجعل كلّ التجربة الجسدية مستثمرة55.
إنّ المنزل التقليدي يعمل وظيفيا و رمزيا كما لو أنّه يحلّ محلّ الإنسان نفسه، فهو من الناحية المادية، و بفضل أبعاده الصّوتية و الشمية و البصرية و الحركية، يتجاوز تصنيفه ضمن الحاويات ليستحيل كائنا ينطبق عليه بحقّ توصيف ماركس للمنزل بأنّه “جسد لا عضوي للإنسان”. كما أنّ التصميم الهندسي وفق ثنائيتي الانغلاق و الانفتاح و النور و الظلّ، معبّرا عنها من خلال الباب و السقيفة / وسط الدار، ينطوي على نوع من التمركز حول الذات يجسّد بامتياز الطبيعة التمثيلية للمنزل بوجه عام، حيث عادة ما يبدو هذا الأخير في لعبة التـخـيّل المـتجدّدة كائنا مركزيا لا ينفكّ يذكّرنا بوعـي بالمـركزية Conscience de centralité 56.غير أنّ هذه الذات ليست فردية على نحو يوحي بعزلتها، بل إنّها لا تتكشّف سوى عبر حميمية الحياة الجمعية العائلية، ذلك أنّ تكفّل المنزل التقليدي بالحماية من البيئة الخارجية يقترن في الآن نفسه بالتشجيع على حيوية الأسرة أو المجموعة57. و إذا كان المنزل عامّة يمتدّ إلى الخارج انطلاقا من الدائرة العائلية المحضة58، فإنّ مفهوم الخارج بالنسبة إلى المنزل التقليدي يتجاوز الفضاء الاجتماعي المباشر للوصول إلى ما هو كوني إنساني، إذ يتدرّج دلاليا من التعبير عن الأرضية المعيارية للمجتمع التقليدي نحو الإحالة على جملة من تجريداته المخيالية العفوية التي يتماثل في بعض تعبيراتها مع نماذج أصيلة في المجتمع الإنساني مثلما يبرز في صور العتبة و المركز، فخلف الجدران العالية الصمّاء و السقيفة المعتّمة الجوفاء يقوم عالم بأسره : ساحة رحبة للانطلاق من كلّ عقال، و عين شاخصة واسعة للذكريات و الخيال و الأحلام، كي يستحيل التواصل بين النموذج السكني و النموذج الكوني الرمزي اندماجا و انصهارا، فإذا هما جسد واحد من الأعمال و من الصور ترسمه حاجات و رغبات و أحلام و تخيّلات، و إذا بالمنزل يفقد هويته كمعطى وظيفي جاهز، ليبوح بوعي ساكنيه و بلا وعيهم أكثر ممّا يعلن عن نفسه.
* المعهد الوطني للتراث/ تونس.
الهوامش
1 روجي بيريناجي : “المسكن عالم تنشئة اجتماعية للطفل في المجتمعات المصنّعة”، ضمن كتاب أنماط تنشئة الطفل اجتماعيا، طرابلس، الدار العربية للكتاب، تأليف جماعي، تعريب صالح البكاري، 1984، ص167.
2 Revault, Jacques, Palais et Demeures de Tunis (XVI et XVII siècle), Paris, Editions du Centre National de la Recherche Scientifique, 1980, p. 44.
3 ابن منظور : لسان العرب، بيروت،دار صادر، المجلّد الثالث عشر، دون تاريخ، ص212.
4 المصدر نفسه، الصفحة نفسها .
5 المصدر نفسه، الصفحة نفسها .
6 المصدر نفسه، ص.211.
7 المصدر نفسه، ص.212..
8 المصدر نفسه، ص.218.
9 المصدر نفسه، ص.212.
10 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
11 القرآن الكريم، سورة الروم، الآية 21.
12 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار الجيل، الجزء الأوّل، 1990، ص.169.
13 Sapir, Edward, Anthropologie, Traduit par Chr. Baudelot et P. Clinquart, Paris, Editions de Minuit, 1971, p. 52.
14 Eliade, Mircéa, Le sacré et le profane, Paris, Gallimard, 1982, p. 21.
15 Eliade, Mircéa, Le Mythe de l’éternel retour, Paris, Gallimard, 1969, p. 30.
16 القزويني، آثار البلاد و أخبار العباد، بيروت، دار صادر، دون تاريخ، ص.114.
17 السعفي، وحيد، القربان في الجاهلية و الإسلام، تونس، دار تبر الزمان، 2003، ص.222.
18 السعفي، وحيد، العجيب و الغريب في كتب التفسير، تونس، دار تبر الزمان، 2001، ص.431
19 وزيري، يحيى، العمارة الإسلامية و البيئة، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة و الفـنون و الآداب، عدد 304، 2004، ص.149.
20 المرجع نفسه، ص.150.
21 Bourdieu, Pierre, Esquisse d’une théorie de la pratique, Genève, Librairie droz, 1972, p.41
22 دوران، جيلبير، الأنثروبولوجيا : رموزها، أساطيرها، أنساقها. ترجمة مصباح الصمد، لبنان، المؤسسةالجامعية للنشر و التوزيع،1991، ص. 290.
23 Chombart De Lauw, Paul Henri et autres, « Famille et habitation », in Sciences humaines et habitation, France, Centre National de la Recherche Scientifique, 1967, p. 43.
24 Eliade, Mircéa, Le sacré et le profane, op.cit., p.51.
25 Belhedi, Amor « L’espace géographique », in L’espace, Concepts et Approches, Tunis, Publication de la Faculté des Sciences Humaines et Sociales, Université Tunis I, 1993, p.26.
26 Bourdieu, Pierre, op.cit., p.34 .
27 Mauss, Marcel, « Essai sur le don, Forme et raison de l’échange dans les sociétés archaїques », in Sociologie et anthropologie, Quadrige, P.U.F., 1983, pp.145-279.
28 Chombart De Lauw, Paul Henri, op.cit., p.43.
29 M. Graf-De La Salle, « Contribution à l’étude du folklore Tunisien », Revue Africaine N°398-399, 1944, p.69.
30 Ibid., p.76 .
31 Ibid., p.76 .
32 جيلبير دوران،المرجع المذكور، ص.220
33 Vassel, Eusèbe « La littérature populaire des Israéliens Tunisiens », in Revue Tunisienne, N°55, Janvier 1906, p.224.
34 أيّوب، عبد الرحمان، رموز و دلالات بالبلاد التونسية، تونس، وكالة إحياء التراث و التنمية الثقافية، 2003، ص.50.
35 المرجع نفسه، ص.25
36 بن سيرين، محمّد، تفسير الأحلام، بيروت، دار البحار، 1992، ص.142.
37 Chevalier, Jean et Gheerbrant, Alain, Dictionnaire des symboles, Paris, Robert Laffont / Jupiter, 1989, p.112.
38 Ibid, pp.254-257.
39 Herber, J. « La main de Fatma », Revue Hespéris, Tome VII, 1927, Paris, p.211.
40 Ibid., p.311 .
41 Eliade, Mircéa, Traité d’histoire des religions, Paris, Petite bibliothèque Payot, 1977, p.320
42 Ibid., p.320.
43 دوران، جيلبير، مرجع مذكور، ص. 226
44 Bachelard, Gaston, La terre et la rêverie du repos, Tunis, Editions CERES, 1996, p.214.
45 Eliade, Mircéa, Traité d’histoire des religions, op.cit., p.321.
46 Ben Moussa, Mohamed, « Poétique d’un lieu et lieu poétique, L’Imaginaire de la Médina de Tunis », in Revue Mujtamaa wa umran, Tunis, N°26/27, Décembre 2000, p.49.
47 Eliade, Mircéa, Traité d’histoire des religions, op.cit., p.319.
48 Berardi, Roberto « Espace et ville en pays d’Islam », in L’Espace social de la ville arabe, Sous la direction de Dominique Chevalier, Paris G.-P.Maisonneuve et Larose, 1979, p.108.
49 Ibid., p.108.
50 Ibid., p.108.
51 Petonnet, Colette « Espace, distance et dimension dans une société musulmane », Revue l’Homme (Revue Française d’anthropologie), Avril / Juin 1972, Tome XII, p.54.
52 Ibid., p.53 .
53 لوبرتون، أنثروبولوجيا الجسد و الحداثة، ترجمة محمّد عرب صاصيلا، بيروت، المؤسّسة الجامعية للدراســات و النشر و التوزيع، 1997، ص.180.
54 وزيري، يحيى، مرجع مذكور، ص. 134
55 لوبورتون، دايفيد، مرجع مذكور، ص.107
56 Bachelard, Gaston, Poétique de l’espace, Quadrige, P.U.F., 1964, p. 35.
57 لوبرتون، دايفيد، مرجع مذكور، ص.107.
58 Silvano, Filomena, « Gérer la distance : Les sauts d’échelle dans les relations sociales », Revue Espaces et Sociétés, N° 79, 1994, Paris, Editions L’Harmattan, p.100.
المصدر: مجلة “إنسانيات” الصادرة عن المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية – الجزائر – العدد 52 – السنة 2005
شكرا جزيلا على هذا الموضوع الرائع
تقديري للكاتب وللناشر
والى كل من يقرا هذا الموضوع
مقالة علمية دسمة وراقية
كم نحن بحاجة لمثل هذه الدراسات المعمقة لفهم تراثنا فهما صحيحا
شكرا لصاحب الموقع على الجهود الجبارة في نشر هذه المقالات المفيدة
تمنياتي بمزيد من النجاح والتطور لموقع أرنتروبوس المميز