بيار كلاستر – ترجمة: محمّد الحاج سالم
تقديم المترجم:
يستنكر الأنّاس الفرنسي بيار كلاستر (Pierre Clastres) الرؤى القائلة ببُؤس اقتصاد الشعوب البدائيّة، ويُشير إلى ما بيّنه مارشال سالينز (Marshall Sahlins) من كون هذه المجتمعات هي الأولى، وربما الوحيدة التي كانت، أو ينبغي أن تكون مجتمعات وفرة، أي مجتمعات تُلبّى فيها احتياجات محدّدة اجتماعيًّا. وقد اهتمّ سالينز بمجتمعات الصيّادين وجامعي الثّمار، لكن دون أن يُهمل الاقتصاد القائم على نمط الإنتاج العائلي، وهو نمط لا يسعى إلى مراكمة الثروات، بل تقوده فكرة بذل أدنى حدّ من العمل يكفي لإنتاج ضروريّات العيش (في نظر هذه المجتمعات)، بحيث تُحقّق هذه المجتمعات، وكلّ وحدة من وحدات الإنتاج الأوليّة داخلها، اكتفاءها الذاتي من الأقوات دون حاجة إلى الغير. لكن إرادة الاكتفاء الذاتي هذه، لا تمنع من وجود تبادلات، لكن شرط أن تظلّ محدودة وأن تتعلّق فحسب بالسّلع أو بالخدمات النادرة التي لا يمكن الحصول عليها محلّيًا. وبما أنّ هذا النمط من الاقتصاد حسّاس جدًّا تجاه الحوادث (القحط، الأوبئة، الحروب، الخ) فإنّ العائلات تميل في مثل هذه الفترات البائسة إلى الانكفاء على نفسها في انتظار تغيّر الأحوال. ويُصوّر سالينز الزعيم في المجتمعات البدائيّة أو ما يُسمّيه “الرجل الكبير” (big man)، شخصًا مدفوعًا بطموح جامح للزعامة، وأنّ عليه لكي يكتسب السلطة والمكانة، أن يكون خطيبًا مفوّهًا وسخيًّا بأمواله، ممّا يعني ضمنًا أن يعمل بجدّ هو وعائلته لمراكمة ما سيعيد توزيعه بعد ذلك على الأهالي. لكن في الوقت نفسه، يمكن لهذه الثروة أن تُثير غيرة الآخرين وحسدهم، بحيث تغدو خطرة على “الرجل الكبير”، وقد يصل الأمر في أحيان كثيرة حدّ اغتياله. ويتخيّل سالينز وجود استمراريّة بين زعامة “الرجل الكبير” في المجتمعات البدائيّة وسلطة الملوك في بولينيزيا، وهي النقطة التي ينتقده كلاستر بشأنها موضّحًا أنّه يخلط، على غرار العديد من علماء النياسة الوصفيّة الآخرين، بين مفهومي “السلطة” و”الهيبة”. وهذا التمييز أساسي لأنّه يفصل، بالنّسبة لكلاستر، مجتمعات الدولة عن المجتمعات دون دولة. وإذ ترتكز الأطروحة الأساسيّة لعمل بيار كلاستر في مجال الإناسة السياسيّة على القول بأنّ كينونة الدولة لا يمكن أن تُوجد إلاّ من خلال وُجود تقسيم في المجتمع بين مُهيمِنين وخاضعين ومنع حدوث أيّ نِصَاب سُلطويّ مُستقلّ عن المجتمع، وأنّ المجتمعات البدائية استنبطت في سبيل ذلك إواليّات تُمكّنها من إجهاض كُلّ مُحاولة تهدف إلى قيام الدولة، وذلك بالعمل على إفراغ أيّ سُلطة سياسيّة حادثة فيها من مُحتواها، وعدم السماح مُطلقاً بانفصال السياسيّ عن الاجتماعيّ في صُلبها ([1])؛ فإنّ كلاستر يكون بهذا موافقًا لجانب كبير من أطروحة سالينز حول الاقتصاد البدائي ونقض الرؤى الاقتصاديّة والماركسيّة الكلاسيكيّة بشأنه، وهو ما لا يمنع معارضتها في بعض وجوهها، وخاصّة مسألة انبثاق دولة سلطويّة من رحم زعامة بدائيّة مفرغة من كلّ سلطة.
*******
في المجتمعات دون دولة، تظلّ السلطة منتشرة، وتظلّ إمكانيّات مراكمة الثروات ضعيفة بفعل ممارسة السلطة ذاتها. فالمجموعات العائليّة هي التي تملك السّلطة، ومقارنة بـ”الرجل الكبير”، فإنّ استراتيجيّتها تتمثّل في “استغلاله” مع منعه من أن يتفوّق عليهم، حتّى أنّنا نجد الاغتيالات وسيلة شائعة الاستخدام في تلك المجتمعات لـ”ضبط” الرغبات الشديدة في السلطة. ويُقرّ أعضاء المجتمع هيبة “الرجل الكبير” شرط أن يستمرّ في توزيع الممتلكات وأن لا يسعى إلى استغلالها لفرض سطوة على سائر المجموعات العائليّة. كما يجب أن يكون “الرجل الكبير” ممتنًّا على الدّوام للجماعات العائليّة التي تسمح له بأن يكون الرجل الأكثر رفعة والأكثر كرمًا، الخ، فهي صاحبة الفضل عليه، وهو مدين لها بذلك.
وعلى العكس من ذلك، وفي المجتمعات التي تنشأ فيها الدّولة وتتطوّر، تنقلب علاقة هذا الدَّيْن رأسًا على عقب، إذ أنّ الزعيم هو من يتلقّى الإتاوة، والأفراد الخاضعون هم الذين يُقدّمونها. ولذلك فإنّ ظهور الإتاوة وانقلاب معنى علاقة الدَّيْن هو العلامة الحقيقيّة للانتقال إلى مجتمع الدولة. أمّا كيف يتمّ هذا الانتقال، فهو أحد الأسئلة المركزيّة التي تطرحها النياسة. وقد وجد الماركسيّون صعوبة في الإجابة على هذا السؤال لأنّهم يفكّرون من داخل نظام فكري يُمثّل فيه الاقتصاد مقولة مركزيّة في عمل المجتمعات، والحال انّ المجتمعات البدائيّة هي على وجه التحديد مجتمعات لا وجود فيها لاقتصاد بصفته تلك، إذ لا يمكن تصوّره مطلقًا خارج مقولات عائليّة ودينيّة وما إلى ذلك. وهذه السمة المميّزة للمجتمعات البدائيّة تُحبط كلّ محاولة لفهمها باعتماد أطر مفاهيميّة رأسماليّة أو ناقدة للرأسماليّة.
يبدأ سالينز الفصل الأوّل بتحليل إنتاج جماعات الصيّادين وجامعي الثمار للإشارة إلى أنّ هذه المسألة قد تمّ تناولها بشكل خاطئ من قبل العديد من المؤلّفين الذين لم يتمكّنوا من التخلّي عن معايير أحكامهم الأوروبيّة من أجل فهم طبيعة حاجات هؤلاء السكّان. ويوضّح سالينزز وجود مسارين للتقدّم، أحدهما يقوم على التوسّع اللامتناهي للحاجات والذي لا يُمكن، بحكم التعريف، أن تتحقّق فيه وفرة، ومسار “زهدي” يقوم فيه الأفراد بتكييف حاجاتهم مع امكانيّاتهم ويُقدّرون وفرتها بمقدار الجهد المطلوب لتلبية تلك الحاجات، وهنا فقط يُمكن الحديث عن وفرة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ الحكم المتشائم للغاية على نوعيّة حياة الشعوب التي تعيش على الصيد والقطف ينبع أيضًا من حقيقة أنّ ملاحظة تلك الشعوب تمّت في الغالب في ظروف لم تعد مماثلة مطلقًا لظروف عيشها قبل وصول المستعمرين. وعلى سبيل المثال، فقد أدّى التوسّع في الزراعة على النمط الأوروبّي إلى حرمانها في كثير من الأحيان من جزء متراوح الأهميّة من مواردهم المائيّة ومراعيهم وما إلى ذلك، وهو ما يفسّر تراجع هذه الاقتصاديّات. وبالمناسبة، فإنّ المراقبين الأوروبيّين الأوائل لسكّان أستراليا الأصليّين يختلفون مع هذا الرأي، إذ يشيرون، على العكس من ذلك، إلى أنّ هؤلاء السكّان كانوا يقضون وقتًا قصيرًا جدًّا في البحث عن لقمة العيش، وهو ما يُمكن تعميمه باطمئنان على معظم مجتمعات الصيد والقطف. وتخصّص هذه المجتمعات القليل من الوقت للبحث عن الطعام، لكنّها مضطرّة للانتقال بشكل متكرّر كي لا تنضب مصادر عيشها.
وتؤدّي هذه الحاجة إلى الانتقال إلى ازدهار حضارة يجب أن يكون فيها حمل معظم الممتلكات سهلاً ميسّرًا، ما يعني التقليل ما أمكن من الممتلكات الماديّة باستثناء ما خفّ وزنه وارتفعت قيمته، وعدم وجود مساكن دائمة، بما يُفضي إلى بذل القليل من العمل لصنعها، وعدم الانشغال بالحفاظ على أدوات وأشياء يُمكن صنعها عند الحاجة إليها وتعويضها بأقلّ جهد ممكن، الخ. وفي ظلّ أوقات عمل يُمكن تقديرها بثلاث أو أربع ساعات يوميًّا، يكون الكفاف مضمونًا بحيث لا تغدو مشكلة هذه المجتمعات هي البحث المستمرّ والمرهق عن الطعام، بل القدرة على تنظيم أنشطة ترفيهيّة ممتعة (ومن هنا أهميّة رواية القصص وحفلات الرقص، الخ)، وأن ننام كثيرًا ونرتاح كثيرًا (فيكون لدينا على سبيل المثال يوم للصّيد ثمّ يوم للراحة في المخيّم). ولذلك تستغرق الاحتفالات والرقصات والزيارات وما إلى ذلك وقتًا أطول من الوقت المخصّص للعمل، إن لم يكن أكثر (علينا مقارنة كلّ هذه الملاحظات مع ما نعرفه عن جدول نشاط المسنّين المتقاعدين في قرى الريف الفرنسي النائية أو استخدام الوقت من قبل العاطلين عن العمل لمدّة طويلة).
وتواجه هذه المجتمعات قيودًا ديموغرافيّة قاسية على الرّغم من أنّه يُمكنها في معظم الأحيان تحمّل عدد من السكّان يزيد عن عدد أفرادها بسهولة. وتتمثّل المشكلة بشكل أساسي في الأفراد غير القادرين على الحركة والانتقال (المرضى والطاعنون في السنّ) الذين يجب التخلّص منهم لاستحالة نقلهم. كما يساعد وأد البنات على ضبط زيادة السكّان كلّما هدّد الفائض الديموغرافي بإرباك الموارد المتاحة.
في الفصل الثاني، يبحث سالينز مسألة نمط الإنتاج العائلي من خلال أشكال أنشطة زراعيّة بسيطة، وعلى سبيل المثال، زراعة القطع والحرق التي تعمد حرق أجزاء من الغابة لزراعتها. وهو يعرض هذا النمط من الإنتاج العائلي على أنّه أسلوب يُنتج بنيويًا أقلّ ممّا يمكنه إنتاجه، وبالتّالي فإنّ المشكلة التي يجب تناولها هي مشكلة نقص الإنتاج البنيوي. ويتميّز نمط الإنتاج العائلي بنقص واضح في استخدام الموارد الإنتاجيّة: فالأراضي المزروعة أقلّ بما لا يُقاس من جملة الأراضي الصالحة للزّراعة، ولا يعمل فيها سوى عدد محدود من الأفراد القادرين على العمل (وعلى سبيل المثال، فإنّ مدّة الحياة العمليّة المطلوبة من الأفراد في المجموعات السكانيّة القريبة جغرافيًّا لا تتجاوز مع ذلك مدّة 25 إلى 40 عامًا)، كما أنّ حجم العمل المطبّق على المهامّ الإنتاجيّة بعيد كلّ البعد عن الحدّ الأقصى (خمس ساعات من العمل اليومي في المتوسّط كحدّ أقصى). أضف إلى ذلك أنّ الضبط الديموغرافي لهذه المجتمعات، وهو ضبط بالأساس ثقافي في حالة وجوده، يهدف أو هو يُسهم في تقليل عدد السكّان في الأراضي التي يقيمون عليها. وبشكل عامّ، تميل المقارنة بين مجتمعات زراعة القطع والحرق ومجتمعات الصيد والقطف إلى تفضيل الأخيرة إذا كان المعيار هو التنّاسب بين كمّية العمل والمنتج الذي تمّ الحصول عليه. ويمكن أن نستنتج ممّا سبق أنّ العمل في هذه المجتمعات، لا يُعدّ عاملاً في نُدرة الإنتاج، وأنّ غياب الندرة يُفسَّر قبل كل شيء بخصائص نمط الإنتاج العائلي. وبشكل عامّ، وخارج علاقات السوق، فإنّ الاهتمام بمراكمة البضائع يبدو غائبًا: فلمن نبيع الفائض إذا كان الجميع مكتفيًا تقريبًا بما لديه وإذا كانت علاقات التضامن كافية لتخفيف وطأة الأوقات الصعبة.
كما تُظهر الملاحظات الميدانيّة أيضًا اختلافات كبيرة بين الجماعات العائليّة في النجاح والفشل. فحيثما أمكن إجراء دراسات كميّة، يمكن إجمالاً تقدير أن ما بين ربع العائلات وثلثها كان في حالة معيشيّة سيّئة إلى حدّ ما، وأن 20٪ منها فقط كانت تحصل على أكثر ممّا تحتاجه من قوت. ولذلك توجد في نمط الإنتاج العائلي نسبة عالية نسبيًّا من العائلات التي لا تُلبّي حاجتها من الغذاء إلاّ بشكل سيّئ. وفي الوقت نفسه، يُمكن لجميع العائلات أن تجد نفسها، في وقت أو آخر، في مواجهة العوز، وذلك لأنّ نسبة العمّال النشطين الذين يمكن تعبئتهم تختلف بالضرورة باختلاف توزّع أعمار الأفراد الذين يشكّلون تلك الجماعات، وهو ما يُسمّيه سالينز “دورة النموّ العائلي“.
وانطلاقًا من جملة ملاحظاته، يُوضّح سالينز أنّه “في المجتمعات البدائيّة، يُمكن لجزء كبير من قوّة العمل المتاحة أن يغدو فائضًا عن الحاجة بسبب نمط الإنتاج ذاته“.
ولا يُمكن تصوّر تقسيم العمل خارج البيت حيث لا يتمّ تكليف الرجال والنساء، والصغار والكبار، الخ، بنفس المهامّ. ولكن، خارج هذا الشكل الأوّلي لتقسيم العمل، لا يميل نمط الإنتاج العائلي إلى تطوير أيّ شكل آخر.
وبالتأمّل في العلاقة بين الإنسان والأداة، يُلاحظ سالينز أنّه “حتّى وقت قريب جدًّا، كان تاريخ العمل بأكمله هو تاريخ العمل الذي أنتجته يد عاملة ماهرة. ووحده النظام الصناعي يُمكنه أن يأمل في البقاء مع نسبة من العمّال غير المهرة كما نعرفها اليوم؛ وفي حالة مماثلة، كان يمكن للعصر الحجري القديم أن ينهار… وإلى حين ظهور الثورة الصناعيّة بأتمّ معنى الكلمة، زاد ناتج العمل البشري بفضل مهارة العامل أكثر منه بفضل كمال أدواته“.
ويُعدّ نمط الإنتاج العائلي نظامًا معاديًا بشكل حاسم لتشكّل فائض في الإنتاج، إذ يُمكن للمنتجين العائليّين الاكتفاء تمامًا بإنتاج الضروري من أقواتهم. لذا، فإنّ مسألة تكثيف الإنتاج هي مسألة حاسمة يجب توضيحها. ومن المرجّح أن لا نجد الإجابة في عناصر اقتصاديّة، بل في الخصائص السياسيّة للمجتمعات. وبما أنّ نمط الإنتاج العائلي يُقاوم بشكل خاصّ ظهور أيّ سلطة أخرى غير سلطة الجماعات العائليّة، فسيكون من الضروري عندئذٍ فهم كيف يمكن لعمليّة تمايز سياسي بين هذه الجماعات العائليّة أن تتدخّل وأن تتجمّع بطريقة تسمح لبعضها بأن تعلو تدريجيًّا على الأخرى، ومن ثمّ إجبار هذه الأخيرة على مزيد من العمل لكي تُثري على حسابها.
وعمليّة المراكمة هذه، عند حدوثها، يُمكنها دومًا أن تتراجع. وعلى سبيل المثال، فإنّ الغرب بعد خسارة منافذ البحر الأبيض المتوسّط إثر الانتصارات العربيّة، قد عاد في العصور الوسطى إلى حالة من السبات. ولم يعد المزارعون قادرين على بيع فائض إنتاجهم وعادوا إلى اقتصاد الكفاف القديم، ومن ثمّ زاد تباطؤ الإنتاج. وحين حصل اتّصال التجّار االغربيّين العاملين في الأسواق بأهالي الشعوب القديمة، فقد أدانوا باستمرار كسل السكّان الأصليّين وعدم تحمّسهم للعمل، وما إلى ذلك من هذا القبيل. ويمكننا أيضًا أن نلاحظ ظواهر شاذّة في الظاهر: فحين يرتفع سعر الموادّ المنتجة في المزارع، يتّجه المزارعون من الأهالي إلى التقليل من نشاطهم، بينما نراهم يُكثّفون من إنتاجهم في حالة انخفاض الأسعار. في الواقع، هؤلاء المنتجون حريصون فحسب على الحصول، من خلال العمل المملّ، على سلع استهلاكيّة مثل “قدور الألمنيوم، مواقد الغاز، الخ“. إنّهم يعملون حتى يصلوا إلى تحقيق هدفهم، وليس أكثر من ذلك (تنسحب نفس الملاحظة على دوران العمّال في أمريكا الوسطى في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، حيث كان المقاولون الأمريكيّون يرفعون قيمة الأجور لإبطاء تجدّد اليد العاملة ومن ثمّ يصلون بالعكس إلى رفعه، لأنّ العمّال يحتاجون إلى وقت أقلّ للحصول على المبلغ الذي حدّدوه في البداية).
وقد درس ألكسندر تشايانوف (Alexander Chayanov)، وهو عالم نياسة (إثنولوجي) روسي في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، الإنتاج الزراعي لعائلات الفلاّحين قبل ثورة عام 1917. وقد أوضح أنّه “كلّما زادت قدرة أفراد الأسرة نسبيًّا على العمل، قلّ عمل أفرادها الفعلي“. وهذه النتيجة منطقيّة في نظام نمط الإنتاج العائلي. وعلاوة على ذلك، يمكننا ربط هذه الظاهرة بخطاب “التحديثيّين” الشيوعيّين حول صغار الفلاّحين الرّوس، حيث يُمكن للمرء أن يجد فيه بسهولة نفس الأفكار القديمة للمستعمرين حول الكسل الفطري للسكّان الأصليّين. وفي هذا الصدد، فإنّ سياسة المزارع الجماعيّة في روسيا الشيوعيّة هي أيضًا محاولة لزيادة الإنتاجيّة والانضباط في العمل من خلال أساليب سياسيّة أكثر منها اقتصاديّة.
يقول سالينز عن المِلْكيّة: “اخترعت الشعوب البدائيّة طرقًا عديدة لرفع مقام إنسان ما فوق مقام الآخرين. لكن سيطرة المنتج على موارده الاقتصاديّة الخاصّة، يمنع بروز أشدّ نوع من السيطرة عرفه التاريخ، وهو السيطرة الحصريّة على الموارد الاقتصاديّة من قبل قلّة، وبالتالي، وقوع الآخرين جميعًا تحت رحمتهم. في المجتمعات البدائيّة، تُمارس اللّعبة السياسيّة بعيدًا عن الإنتاج وعلى مستوى أعلى، بتقديم ضمانات مثل الطعام أو مصنوعات أخرى؛ وفي هذه الحالة، فإنّ البادرة الأذكى، وكذلك أكثر حقّ مرغوب في الملكيّة، هو الإنفاق دون حساب“.
وهكذا يتمّ تعويض الفوضى الاجتماعيّة المتأصّلة في نمط الإنتاج العائلي عن طريق قوى سياسيّة تميل إلى هيكلة المجتمع بطريقة أوسع من مجرّد تجميع العائلات. وتتمثّل هذه القوى في الدّين، وفي تصوّر نوع من الوحدة في مواجهة مجموعات مختلفة أخرى من العائلات، الخ. وبشكل عامّ، كلّ ما من شأنه أن يُجبر هذه السلالات العائليّة المستقلّة على التعاون.
ولمّا كان الأمر كذلك، فإنّ خصائص نمط الإنتاج العائلي تميل بشكل دائم إلى إضعاف جميع أشكال التجمّعات السياسيّة التي تتجاوز خطوط النَّسَب ولو قليلاً. ويُؤدّي ضعف أسباب إجبار السلالات على التعاون حتمًا إلى ميل الأنساب إلى التشتّت، وإلى الانقسام، بمجرّد ظهور مشاكل كبيرة بين عائلات من سلالات مختلفة، وربما كان هذا هو السبب الذي يُبقي التجمّعات (في القرى، الخ) في حجم محدود دائمًا. فقبل أن يصل أعداد أفرادها حدّه الأقصى (اعتمادًا على الإمكانيات الغذائيّة العائليّة)، تنقسم مجتمعات النَّسَب هذه وتتوزّع، كي تتجنّب الوصول إلى نهايات أشدّ قسوة.
يبحث الفصل الثالث في الظروف التي يمكن أن يُؤدّي فيها نمط الإنتاج العائلي إلى تكثيف الإنتاج. وقد يكون السبب الأوّل في ذلك أنّه إذا كانت هناك عائلات تُعاني باستمرار من نقص في الإنتاج مقارنة باحتياجاتها، فإنّ هذا لا ينفي وجود عائلات أخرى يفيض إنتاجها عن الحاجة. أمّا عن عائلة “الرجل الكبير” الميلانيزي، فيجب عليها أن تعمل بجدّ من أجل تلبية كلّ المطالب التي تُواجهها بسبب كرمها. ذلك أنّ حيازة الهيبة تفترض أن يكون المرء قادرًا على إعطاء الكثير. هذا إضافة إلى إنّ الالتزامات المتعلّقة بالقرابة البعيدة تستلزم القدرة على تقديم العديد من الهدايا من اللّحوم والأطعمة وما إلى ذلك. غير أنّ العائلات تميل في أوقات المجاعة أو صعوبات الحصول على الغذاء، إلى الانكفاء على نفسها تهرّبًا من واجبات التضامن. وظاهرة الانكفاء هذه، وهي من ميزات اقتصاد نمط الإنتاج العائلي، تعني ضمناً وجود سلطة مضادّة تتجاوزها. ولذلك يتوافق ظهور الزعامات مع هذه الحاجة في تجاوز حدود نمط الإنتاج العائلي، لأنّه “على الرغم من أنّ الزعيم مدفوع بطموح شخصي، إلاّ أنّه يُجسّد هدفًا جماعيًّا، أي مبدأً اقتصاديًّا عامًّا يتعارض مع المصالح الخاصّة والمصالح المحدودة الضيّقة للاقتصاد العائلي“. وبهذا، فإنّ سخاء الزعماء يميل إلى تحفيز الإنتاج، أي إلى أن تُنتج عائلته ما يتجاوز الضروري لتحقيق الكفاف. لكن ضرورة الردّ على الهدايا بما يُوازيها، والتنافس بين الساعين لاكتساب الشرف والهيبة، يدفعان المجتمعات البدائيّة عمومًا إلى إنتاج أكثر ممّا هو كافٍ.
وحين تكون الدولة في طور التشكّل، تتكثّف هذه العمليّة بشكل أكبر، ثمّ وبالخصوص تنقلب. ففيما يجب على “الرجل الكبير” عند قبيلة الماوري في بداية عمله من أجل تولّي الزعامة أن يعمل بجدّ لتقديم الهدايا إلى الأهالي، فإنّ الأمر يصل في نهاية المسار، إلى أن يتلقّى ملك تاهيتي الإتاوة من الرعايا. لقد استخدم الزعيم هنا هيبته لاكتساب سلطة على الآخرين، ومن ثمّ وفي نهاية المطاف استعبدهم. وحين تبدأ دورة جديدة من السلطة، يقوم الزعيم وخلفاؤه بالعمل على اكتساب المزيد من النفوذ وتأليف قلوب “الأنصار”، ثمّ وببلوغ حدّ معيّن من التوسّع، يبدأ بعض الأتباع في الشعور بالاستياء، ويميل بعض الخاضعين الجدد إلى التحرّر، ومن ثمّ تبرز الحاجة إلى زيادة حجم الضرائب في شكل إتاوات حتّى يُمكن توزيع المزيد من الأموال على الساخطين، لينتهي الأمر إلى إثقال كاهل الجماهير. وحينها يغدو الوضع مهيّأً لأحد الطامحين إلى السلطة كي يحشد الساخطين حوله، وتبدأ دورة جديدة أكثر ملاءمة “للصّغار”، على الأقلّ في البداية (وهذا مشابه جدًّا لما يصفه جورج دوبي (Georges Duby) عن أسباب النموّ الاقتصادي في أوائل العصور الوسطى حين يُفسّر النموّ بقدرة الملوك الجدد وكبار الإقطاعيّين على زيادة جباية الضرائب من الفلاحين، ممّا يدفعهم إلى مزيد العمل لاستعادة مستوى معيشتهم السابق).
في الفصل الرابع، يُحلّل سالينز روح الهبة انطلاقًا من المقطع الشهير لمارسيل موس حول “الهاو” (Hau)، أي روح الواهب التي تسكن الشيء الموهوب وتجعل ذاك الشيء يُريد العودة إلى صاحبه الأصلي. وهو يُقدّم تفسيرًا آخر في هذا الخصوص، حيث يُلاحظ أنّ “الهاو” لا يتدخّل إلاّ في حالة وجود أكثر من شريكين في مجمل التبادلات. وقد فسّر موس “الهاو” على أنّه روح الشيء الموهوب الذي يريد أن يعود إلى مالكه الأصلي، ممّا يستوجب الردّ على وهب هذا الشيء بهبة معادلة له تُهدّئ “الهاو”، ويُظهر سالينز أنّ الأمر هنا يتعلّق بالفعل بحالة خاصّة من التّبادل. ذلك أنّ السلعة حين تنتقل من زيد إلى عمرو، ومن عمرو إلى عُبيْد، فإنّ عُبيْد يُحقّق ربحًا (لفظ “هاو” يعني الزيادة والنموّ) بفضل هذه “الهبة”، وبالتّالي فمن المنطقي أن تنتقل حصيلة هذا الربح إلى زيد، أي إلى الشّخص الذي كان في أصل التبادل. وهذا يعني في عقليّة الماوري، أنّه لا يُمكن التفكير في كسب شيء على حساب الآخرين. فتكاثر قطيع مثلاً يجب أن يعود الفضل فيه منطقيًّا إلى القطيع الأوّل الذي أنتج أولى الحيوانات في الأصل.
ثمّ ينتقل سالينز إلى الفلسفة السياسيّة في كتاب موس مقالة في الهبة، ويُقارنها بفلسفة توماس هوبز (Thomas Hobbes) في كتابه اللفياثان (Leviathan)، ليؤكّد أنّ الهبة هي الطريقة التي يضمن بها الأوائل السلام الذي تضمنه الدولة في المجتمعات غير الانقساميّة. ففي المجتمع البدائي، يُؤدّي رسوخ المجموعات العائليّة إلى تقسيم المجتمع إلى عشائر يمكن أن تقوم بينها حروب دائمة. وإذ لا تكفي سلطة الرؤساء لضمان سلام دائم، فإنّ الهبة تحلّ، في هذه الحالة، جزئيًّا محلّ الدّولة في إقامة السلم الأهلي. فالهبة تنبع أهميّتها من ضعف الدولة أو من غيابها، وهذا ما يُفسّر رؤيتنا للكرم في المجتمعات البدائيّة نوعًا من جنون البذخ لأنّ البدائيّين يُواجهون خيارات متناقضة أشدّ التناقض، حيث لا يُمكن للعلاقات بين المجموعات البشريّة إلاّ أن تكون متطرّفة فعلاً، فإمّا أن يتجنّب بعضنا البعض، أو أن نشنّ الحرب ضدّ بعضنا البعض، أو أن نُعطي ونتلقّى ونردّ. ولا مكان في المجتمعات البدائيّة لحلّ وسطٍ، في حين نجد في مجتمعات الدولة، أنّ احتكار استخدام القوّة من قبل الدولة، هو ما يسمح للمواطنين بالحصول على علاقات أكثر أمانًا وبالتالي أكثر استقرارًا، ولكن أيضًا أقلّ كثافة بالضرورة، طالما أنّ الانتظام الاجتماعي لا يحدث إلاّ من خلال اتّصالات مباشرة بين أفراد ينتمون إلى مجموعات عائليّة مستقلّة وليس بين مجموعات عائليّة بأكملها. وفي المجتمعات البدائيّة، فإنّ “عدم البذل أو التّهاون في الإكرام هو مثيل الامتناع عن الأخذ، وهو ما يعدل إعلان الحرب، إذ سيكون معنى ذلك رفض التّحالف والقربان الجماعيّ” (موس، مقالة في الهبة، ص 45). وفي هذا الصدد، يمكن فهم طقس “البوتلاتش” (Potlatch)(*) على أنّه نوع من الحرب المتسامية. كما يمكن فهم تطوّر الهبة والردّ عليها على أنّه نوع من الخضوع المتبادل بين أفراد ينتمون إلى عشائر عائليّة، لمبدأ أساسي للسلم الاجتماعي وبروز الثقافة، ذلك أنّ “الأسوأ هو عدم تقديم هدايا. إذا كان الناس لا يحبّ بعضهم بعضًا وقدّم أحدهم هديّة، فيجب على الآخر قبولها، وهذا يجلب السلام بينهما. أن نُعطي ما لدينا، بهذا نعيش معًا” (اقتباس من حديث لأحد أفراد قبيلة البوشمن، قدّمه مارشال سالينز).
يتناول الفصل الخامس سوسيولوجيا التبادل البدائي. ويُميّز سالينز بين نمطين رئيسيّين من التبادل: تبادل الأخذ والعطاء وتبادل إعادة التوزيع. لا يتم معادلة التبادلات على المدى القصير ولكن على المدى الطويل جدًا. وفي الواقع، فإنّ “أفق تلقّي الردّ غير محدّد زمنيًّا“.
في الفصل السادس والأخير، يُحاول سالينز تأسيس نظريّة لقيمة التبادل في التجارة البدائيّة. وهو يُوضّح أنّ اتّجاهات العرض والطلب ليست منعدمة في هذا النمط من الاقتصاد، لكن لا يمكننا أن نستنتج من ذلك وجود أسواق بالمعنى الذي نُعطيه حاليًّا لهذا المصطلح لأنّ البائعين والمشترين لا يتصرّفون فيه بشكل فردي بل ضمن جماعات منظّمة. فلا مجال خلال رحلة تجاريّة لأن يسرق أحدهم الشريك التجاري المعتاد لشخص آخر، أو الدّخول معه في معاملات تجاريّة بكلّ حرّية، الخ. وبعبارة أخرى، فإنّ التجارة نشاط غير “حرّ” بمعنى حريّة المعاملات التي نعرفها في مجتمعاتنا، وشركاء طقس “الكولا” (Kula) (**) الذين وصفهم برنزلاو مالينوفسكي (Bronisław Malinowski) ثابتون ولا يتغيّرون، ولا يُمكن لأيّ كان أن يُشاركهم في تجارة رحلة الكولا. فالتجارة، مثلها مثل الإنتاج، جزء من كلٍّ اجتماعي يتجاوزها، وهو كلّ مهيكَل من خلال علاقات قرابة أو شبيهة بعلاقات القرابة.
[1] – لتفاصيل أكثر حول أطروحة كلاستر، راجع: “مجتمع بلا دولة أم مجتمع ضدّ الدّولة؟ حوار مع بيار كلاستر”، في: في الدين والسياسة والمجتمع، حوارات إناسيّة، تعريب وتقديم: محمّد الحاج سالم، دار الوسيطي للنّشر، تونس، 2014، ص 8-54.
البوتلاتش: تُستخدم كلمة “البوتلاتش” في علم الإناسة بوصفها مصطلحًا ينطبق على نوع من التصرّف الإنسانيّ الكونيّ إزاء الممتلكات والثّروات عند كلّ المجتمعات الغابرة تقريباً، حيث يقوم زعماء القبائل أو أصحاب الثّروات فيها بتقديم هدايا إلى منافسٍ بغاية إهانته أو إرغامه على ردّ الهدايا بما يفوق قيمتها. وبما أنّ متلقّي الهديّة لا يستطيع رفضها بحسب ما تقتضيه الأعراف القبليّة، فإنّه يجد نفسه في مأزق، فهو إمّا يعترف بهزيمته فيفقد بالتّالي وإلى الأبد كلّ حظوة وامتياز عند عشيرته لعجزه عن تقديم هديّة مماثلة لتلك الّتي تلقّاها، أو إنّه يقوم على العكس من ذلك بدخول غمار المنافسة ورفع التحدّي بتقديم هديّة إلى المنافس أكبر ممّا تلقّاه منه. وبالطّبع فإنّ للبوتلاتش أبعادًا دينيّة واقتصاديّة وسياسيّة هي ما درسها موس في مقالته عن الهبة. لتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، انظر:
موس (مارسيل)، مقالة في الهبة: أشكال التبادل في المجتمعات الأرخيّة وأسبابه، ترجمة وتحقيق وتعليق: محمّد الحاج سالم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2014.
الكولا: نظام تبادل احتفالي في غينيا الجديدة. وقد تناول عمل مالينوفسكي الرائد “مغامرو غرب المحيط الهادي“(1922) شبكة تبادل الأساور والقلائد عبر جزر تروبرياند (Trobriand)، وأثبت أنها كانت جزءًا من هذا النظام التبادلي (حلقة الكولا) وارتباطها بوضوح بالسلطة السياسية. فبالإضافة إلى التجارة على أساس مبادئ السوق للحصول على الضروريّات اليوميّة، يقوم الناس في هذا النظام بتبادل الهدايا، وهو ما يجعله يلعب دورًا ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا في إقامة علاقات اجتماعيّة بين الأفراد والجماعات وبالتالي تكريس السلام بينهم.
المصدر: Bibliothèque Universitaire de Toamasina – Université de Toamasina – Madagascar
مثدر النسخة العربية:
موقع معنى
الرابط: “https://mana.net/14957/”