دفاعًا عن الأنثروبولوجيا: من أجل إعادة صياغة الأنثروبولوجيا

أ. عثمان لْكْعَشْمِي

لم يشهد مجال معرفي ما في عالمنا العربي من رفضٍ ونفيٍ ومعارضةٍ ونقدٍ، أكثر وأشد مما حصل مع الأنثروبولوجيا: الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية. لطالما كانت – وربما ما زالت – علاقتنا نحن العرب والمسلمين وما يُسمَّى بالعالم الثالث – بصفة عامَّة – بالأنثروبولوجيا المعنية علاقةً متوترةً على الدوام في مختلف المستويات: معرفيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

فإلى اليوم ما زالت الجامعات العربية بوجه عام، في معظم الأقطار العربية من المشارق إلى المغارب، وكليات الآداب والعلوم الإنسانية (أو كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية) بوجه خاص، ما زالت تفتقر إلى قسمٍ أو شعبةٍ خاصَّة بعلم الأنثروبولوجيا (الإناسة)، باستثناء تضمنها كوحداتٍ معزولة ويتيمة من وحدات شعبة الدراسات السوسيولوجية (علم الاجتماع). فبأي معنى هي كليات للآداب والعلوم الإنسانية/ كليات العلوم

الاجتماعية والإنسانية؟ بالمعنى الذي تُسقط فيه علم الإنسان من لائحة العلوم الإنسانية والاجتماعية.

“إن التساؤل اليوم عن حرفة الأنثروبولوجي، هو بمثابة تساؤل عن العالم الراهن”. مارك أوجي[1]

صحيح أن هناك اجتهاداتٍ ومحاولاتٍ تأسيسيةً لا يمكن  التغاضي عنها أو تجاهلها في المنطقة العربية في هذا الباب، خاصةً منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم إلى اليوم في المغارب والمشارق، وصحيح أيضًا أن هناك تزايدًا في الأبحاث والدراسات والإصدارات، من مقالاتٍ وكتبٍ في هذا الشأن، وإنْ كانت بوتيرة ضعيفة نسبيًّا. لكنها مع ذلك تبقى هامشية (ومهمَّشة)، لا ترقى إلى الأنثروبولوجيا المنشودة. هذا إذا كانت تستجيب فعلًا للمعايير العلمية كما هو متعارف عليها في المجال الإبيستيمولوجي للأنثروبولوجيا، سواء من حيث المواضيع المتقادمة المتناولة، أو من حيث المناهج المستعملة، أو من حيث تأويل النتائج. فمعظم الأعمال المندرجة في مجالنا المعني، لا تحمل أية مجهوداتٍ متميزة، باستثناءاتٍ محدودة، سواء على مستوى المناهج أو على مستوى التنظير. وهذا بالضبط ما أكَّدت عليه النتائج المختصَّة بإنتاجات الأنثروبولوجيا الصادرة باللغة العربية في العالم العربي، التي تضمَّنها التقرير الثاني للمرصد العربي للعلوم الاجتماعية[2].

مردُّ ذلك إلى جملةٍ من الشروط والاعتبارات، يتداخل فيها الإبيستيمولوجي بالسياسي والأيديولوجي. فعادةً ما يتحدَّد المستوى الأيديولوجي والسياسي في الفكرة التي تقول بأن الأنثروبولوجيا «علم استعماريٌّ» بامتياز. انطلاقًا مِن الرحلات الاستكشافية – ما قبل الاستعمارية، أي من اللحظة الاستشراقية الأولى – مرورًا باللحظة الاستعمارية، وصولًا إلى اللحظة ما بعد الاستعمارية. أما المستوى الإبيستيمولوجي، فهو يتجلَّى في كون العقل العربي لم يستوعب بعدُ أن المجال المعرفي المعنيَّ قد تجاوز موضوعه العتيق والكلاسيكي: المجتمعات والثقافات المسمَّاة بالبدائية، والتقليدية، والقروية، فالمستعمَرة، ثم المتغلَّبة.

لا ريب في كون هذه المواقف والتصورات المضادة والمعارِضة عربيًّا للأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، لها ما يبرِّرها ويعلِّلها سياقيًّا: إبيستيمولوجيًّا وتاريخيًّا. إذا أخذنا بعين الاعتبار ذلك الارتباط الوثيق (المشبوه) فيما بين العلوم الاجتماعية بعامَّة والأنثروبولوجيا بخاصَّة (المتزامنة مع حركة الاستعمار) وأيديولوجيا الاستعمار. فضلًا عن النظرة التحقيرية للآخر (التمركز الإثني حول الذات) غير الغربي: كمتوحش أو إنسان من درجة أقلَّ. اعتبارًا في التقسيم العلمي للسوسيولوجيا، كما دعا إليه الفيلسوف الوضعي وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (Comte.A.) في دروسه الوضعية (دروس الفلسفة الوضعية، 1830). ذلك التقسيم العلمي بين سوسيولوجيا تدرس المجتمعات الصناعية-الوضعية، وسوسيولوجيا تدرس المجتمعات الأخرى، غير الغربية أو المجتمعات ما قبل الحالة الوضعية، التي ستشكِّل لاحقًا موضوعًا للاستعمار الأوروبي والغربي، أَلَا وهي الأنثروبولوجيا عينها، التي شكَّلت الأُسس الإبيستيمولوجية للعلوم الاجتماعية الاستعمارية، وحقلًا خصبًا للأيديولوجيا الاستعمارية. وبغضِّ النظر عن أسسها النظرية المشبوهة في النظر إلى الإنسان اللاغربي أو إلى خلفياتها الأيديولوجية الممتدَّة للاستشراق، فإنها لم تتجاوز – منهجيًّا – تزامنيتها القاتلة، في اقتصارها على الحاضر والتجربة الملموسة في مقابل تهميش التجارب التاريخية المتميزة للثقافات الشرقية، كما هو الشأن بالنسبة إلى ثقافتنا وحضارتنا العربية الإسلامية.

الأمر نفسه سيطرح على علمٍ اجتماعيٍّ آخر، ليس بعيدًا  كل البُعْد عن مجالنا المعرفي هذا، أتحدَّث هنا عن علم الاجتماع. إذ يصعب جدًّا أو بالأحرى يستعصي على المرء أن يميِّز – والحالة هذه – بين ما هو سوسيولوجي وما هو أنثروبولوجي في الدراسات الكولونيالية، خاصةً في حالة المغرب الكبير (المغرب العربي) بعامَّة، وحالة المغرب الأقصى بخاصَّة. لهذا فإن الاستقلال السياسي للمغرب قد طرح على المثقفين المغاربة – مفكِّرين وعلماء اجتماع وغيرهم – مسألة الخلفيات الأيديولوجية للتراث السوسيولوجي الكولونيالي. كيف ينبغي التعامل مع هذا التراث؟ بمعنى أدقَّ: كيف نصفي حسابنا معه، هل نكتفي برفضه المطلق، ونكون بذلك قد خسرنا تراثًا “علميًّا” غنيًّا يمكنه أن يشكِّل غنىً وتقعيدًا لسوسيولوجيا وطنية (لكي لا نقول مغربية)، أم نفتح حوارًا معه من خلال نقده وتفكيكه أولًا، ثم الاستفادة منه ثانيًا؟ لا يفوتنا في هذا الجانب أن نشير إلى دور كلٍّ من علماء الاجتماع: بول باسكون، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد جسوس…إلخ، في هذا النقاش. وما نجم عن ذلك من توطينٍ للسوسيولوجيا فكريًّا، معرفيًّا ومؤسسيًّا، رغم المضايقات السلطوية. لكن ما علاقة ذلك بالأنثروبولوجيا؟

لعل التحرير المزعوم للسوسيولوجيا من النزعة الاستعمارية (la décolonisation de la sociologie)، قد أفضى – بطريقة أو بأخرى – إلى إسقاط الأنثروبولوجيا أو بالأحرى مقاومتها. بمعنى آخر: إن نقد الأسس الأيديولوجية للسوسيولوجيا الكولونيالية من جهة أولى، وتملك النزعة القومية للنُّخب العربية من جهة ثانية، قد أدى إلى نتيجة غير مباشرة هي: الخلط إن لم يكن التطابق بين الأنثروبولوجيا والأيديولوجيا الاستعمارية، أو أيديولوجيا الهيمنة الغربية عمومًا. ونتيجة لذلك، صار علم الأنثروبولوجيا (الإناسة) في العقل العربي الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية مرادفًا لأيديولوجيا التغلُّب

إن توطين السوسيولوجيا وتجذيرها في مجتمعاتنا العربية، خاصةً في حالة المغرب الكبير، كان على حساب تهميش الأنثروبولوجيا. ويكفي أن نشير بهذا الصدد – كأنموذجٍ – إلى إسقاط عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي للأنثروبولوجيا أو كل ما هو أنثروبولوجي من حصيلته الشهيرة عن العلوم الاجتماعية الكولولنيالية، من كتابه الموسوم بـ”حصيلة السوسيولوجيا الكولونيالية” (الصادر سنة 1967)، الذي عمل فيه على تصنيفٍ منهجيٍّ بين ما هو أيديولوجي وعلمي، مع إعراضٍ صريح عن الإثنولوجيين في الأبحاث السوسيولوجية، بُغية تحريرها من الأيديولوجيا الاستعمارية.

لماذا لم يقع الشيء نفسه مع الأنثروبولوجيا؟ ولماذا لم يتم العمل على تحريرها من النزعة الاستعمارية وتطويرها عوض الإعراض عنها وتهميشها؟ قد نجيب: لأنها ذات خلفياتٍ وحمولاتٍ أيديولوجية استعمارية أكثر، كما أسلفنا الذكر. والأمر نفسه ينطبق على الدراسات الأنكلوساكسونية اللاحقة، سواء تعلَّق الأمر بالنظرية التجزيئية (أو الانقسامية) أو بغيرها، فهي لم تتحرَّر من نزعتها الأيديولوجية، أيديولوجيا التمركز حول الذات الغربية، وإرادة الهيمنة (إرادة القوة والتغلُّب)، هيمنة القوى المتغلِّبة. هل نكون بهذا قد قدَّمنا جوابًا شافيًا عن سؤالنا هذا؟ طبعًا لا. رُبَّ سائلٍ يقول: قد تكون مسألة التعالق الأيديولوجي منطبقةً بالصورة نفسها على العلوم الاجتماعية عمومًا، لكن لماذا الأنثروبولوجيا بالذات؟ والحال أن الأنثروبولوجيا لم تتعرض إلى نقدٍ داخليٍّ فحسب، من طرف الباحثين في العلوم الاجتماعية بدعوى العلمية والأيديولوجية الاستعمارية، بل تعرضت إلى نقدٍ خارجيٍّ أيضًا، قد يكون أشدَّ من الأول. وقد تعرضت الأنثروبولوجيا عندنا أيضًا إلى نقدٍ جذريٍّ من طرف عدَّة مفكِّرين عرب، على رأسهم: إدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي.

لقد قيل الكثير عن الأنثروبولوجيا كحقلٍ معرفيٍّ بهذا الصدد. فهناك من قال بضرورة إقصائه نهائيًّا؛ نظرًا لارتباطه بالتغلغل الإمبريالي والكولونيالي. وهناك من ارتأى أن التاريخ – استنادًا إلى تاريخانية تتبنَّى الموضعة – هو وحده الكفيل بإنتاج معرفةٍ جديدةٍ تنير طريق المجتمعات المستقلة. وهناك من قال إن الأنثروبولوجيا متجاوزة كالقبيلة والسلالة، والعرف، والأمازيغيات، وما سُمي: “الفلكلور”، و”حكايات العجائز” حسب تعبير عبد الله العروي. وهناك من قال – عن صوابٍ في هذه النقطة – إنها اهتمَّت أساسًا بالتنقيب عن الفروقات: عرب/بربر، مدن/قبائل، ثقافة عالِمة/ثقافة شعبية، مخزن/سيبة… وغيرها من الفروقات، في نطاق سياسة “فرِّق تَسُد”، خدمةً للمستعمر، وتمزيقًا لوحدة الأمة والوحدة الوطنية النابعة منها. وهناك في الأخير من زعم أنها مجرَّد “متاهات” تلهي عن مشروعٍ ثقافيٍّ عربيٍّ متكاملٍ هو الوحيد الذي يضمن التقدُّم. وقد انتشر هذا الطرح الأخير الذي أتى به محمد عابد الجابري في أوساطٍ سياسية نافذة آنذاك، وتحوَّل إلى طرحٍ مسلَّم به عند الكثيرين[3].

إننا إذن أمام حركتَيْن نقديتَيْن وَضَعتَا الأنثروبولوجيا مَوْضِعَ تساؤلٍ وريبة. فكانت النتيجة: إمَّا التهميش والإقصاء، وإمَّا استبدال الأنثروبولوجيا بميادين مستحدثة. هنا يحقُّ لنا أن نتساءل مع الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي[4]: ما العمل بالأنثروبولوجيا على إثر النقدين الآنفين؟ هذا من جانب. ومن جانب آخر: ما العمل بتلك المادة التي تكدَّست بالخزانات، وخصوصًا بالخزانة الأنثروبولوجية التي تكوَّنت في ظروف الاستعمار وبعده في ظلِّ الهيمنة المستغلة لظروف العولمة؟

بعيدًا عن أي دعوة تهميشية أو إقصائية، سواء كانت بخلفياتٍ أيديولوجية كالقومية العربية، أو بخلفياتٍ تاريخانية ضيقة، أو بخلفياتٍ فلسفية متعالية…إلخ، بعيدًا عن  كل ما من شأنه أن يُعرض عن مجالٍ خصبٍ كالأنثروبولوجيا، يدعونا صاحب “المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية” إلى تجاوز هذا الوضع المأزوم إلى ما يسميه بإعادة الصياغة.

إننا في حاجة إلى عملية إعادة الصياغة، قصد مواجهة مواقف نتجت عن الحركتين النقديتين المذكورتين. لهذا يدعونا حمودي إلى موضعة جديدة، موضعة مبنية على جمع النقيضَيْن: الذاتي والموضوعي، وإلى عملية صياغة تعتمد بشكل أساسيٍّ على نوعٍ من المسافة المنهجية التي نهتدي إليها بالخوض في تعميق المسافة المعرفية الكولونيالية. وقد يتمُّ بذلك استثمار الرصيد المعرفي الكولونيالي (بتأزيمه من الداخل) بدلًا من التهرب منه والسكوت عنه. وهذا التوجُّه نابع من التشبُّث بالانتماء إلى المجتمع المدروس مقرونًا بموضعة لا تنازل فيها[5].

هذا بالنسبة إلى علاقتنا نحن العرب المتوترة مع الأنثروبولوجيا وخلفياتها: من واقع التهميش والإقصاء، إلى محاولة إعادة الصياغة؛ إعادة صياغة أنثروبولوجيا عربية ممكنة. على أن ترنو تلك الصياغة إلى هدمٍ مزدوجٍ للخلفيات الأيديولوجية المشبوهة لعلم الأنثروبولوجيا (الإناسة) وهدم المواقف السلبية العربية وغير العربية من هذا العِلم الإنساني والاجتماعي الحيوي، وكذ العمل في اللحظة نفسها على إعادة بناء معرفة أنثروبولوجية عربية مستقلة نسبيًّا، بعيدًا عن أي قومية أو وطنية شوفينية ضيقة كما هو معهود. على أن تأخذ من اللغة العربية موطنًا فعليًّا لها من المشارق إلى المغارب، في حوار دائمٍ مع مكونات المعارف الأنثروبولوجيا العالمية ولغاتها المتعدِّدة، مع مواكبة دائمة للتطورات الجارية في هذا الميدان على بساط المعمورة، الكفيل بصياغة وتوطين خطاب أنثروبولوجي متميز، على أن يكون من إنجاز باحثي المجتمعات العربية وإليها، لعله يمكِّننا من مجاوزة  الاقتباس والتبعية. هذا هو البديل المعرفي الذي يقترحه الأنثروبولوجي العربي عبد الله حمودي. هذا بالنسبة إلينا. لكن ماذا عن الوضع الأنثروبولوجي العام؟

باستدعائنا للإشكالية الأيديولوجية (والإبيستيمولجية) التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال، مع الأخذ في الحسبان الممارسة الأنثروبولوجيا الراهنة، يحقُّ لنا التساؤل: هل ينطبق ذلك على الأنثروبولوجيا اليوم؟ وهل ما زالت الأنثروبولوجيا اليوم مرتبطةً بالاستعمار وأيديولوجيته؟ وهل ما زالت تنظر إلى الآخر كماضٍ للثقافة الغربية؟ وهل ما زالت المعرفة الأنثروبولوجية تزامنيةً (Synchronique) صِرفة؟ وهل ما زالت تنظر إلى الإنسان غير الغربي كآخر متوحش، أو كإنسانٍ من درجة ثانية، أو كماضٍ-حاضر؟

إذا بحثنا في الأنثروبولوجيا الحالية، أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة، الأنثروبولوجيا الجديدة، سيكون الجواب عن تلك الأسئلة بالنفي. لماذا؟ لأن الاستقلال السياسي للمجتمعات المستعمَرة بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى التحولات المجتمعية الجذرية التي شهدتها المجتمعات الغربية وغير الغربية لاحقًا: من عولمة، وتعميم للحضريات الجديدة، وتطور لوسائل الاتصال، وتناسل للتكنولوجيات الجديدة، فضلًا عن ظهور أشكالٍ جديدةٍ من المجتمعات…إلخ؛ كل ذلك وضع مجالات العلوم الاجتماعية الاستعمارية – بشكلٍ عامٍّ – والأنثروبولوجيا الاستعمارية – بشكلٍ خاصٍّ – في أزمة؛ إذ وضعها موضعَ سؤال إبيستيمولوجيٍّ ونقديٍّ من الخارج والداخل، من داخل حقل الأنثروبولوجيا وخارجها، ومن داخل المجتمعات الغربية وخارجها؛ مما فرض عليها أن تُعيد النظر في ذاتها: موضوعًا ومنهجًا، تنظيرًا وممارسة.

وإن كانت العلوم لا تخلو من خلفياتٍ أيديولوجية، كيفما كانت طبيعتها، ومهما بلغت درجة علميتها وموضوعيتها، طبيعية ورياضية كانت أو إنسانية واجتماعية، وإن كانت العلوم الاجتماعية أكثر حميمية ونوستالجية  في علاقتها مع الأيديولوجيا من غيرها؛ فإن ذلك لا يمنعنا من طرح السؤال الآتي: ألم تتجاوز الأنثروبولوجيا المعاصرة – أنثروبولوجيا ما فوق الحداثة (surmodernité) – النزعةَ الأيديولوجية الغربية من إمبريالية واستعمارية، وتمركز حول الذات، وإرادة الهيمنة؟

إن كل علمٍ من حيث هو حقل معرفي، كيفما كانت طبيعته وشكله، وكيفما كان مجاله الإبيستيمولوجي، كما هو معروف في الإبيستيمولوجيا؛ لا يكون علمًا إلا بتحديدٍ مزدوجٍ للموضوع والمنهج، أي إن لكل علمٍ موضوعًا ومنهجًا محدَّدين. ولمَّا كان الموضوع الكلاسيكي للأنثروبولوجيا هو المجتمعات والثقافات المسماة بدائية، مرورًا بالتقليدية والمستعمَرة فالقروية، ثم البحث عن الملامح التقليدية في المجتمعات الحديثة؛ فإنها وجدت نفسها أمام موضوعٍ في طور التلاشي والاندثار شيئًا فشيئًا، وجدت نفسها أمام موضوعٍ مفقود. والشيء نفسه ينطبق على المنهج؛ إذ يُعَدُّ المنهج الأنثروبولوجي قادرًا على الإمساك بموضوعه المفقود. ونتيجة لذلك، أصبحنا أمام علمٍ مغتربٍ يعيش نوعًا من الاغتراب، نتيجة هجر موضوعه ومنهجه في ظلِّ التغيُّرات المتناسلة والمتسارعة للمعاصرة، مما ولَّد أزمةً وجوديةً للحقل المعني. وأصبحت الأسئلة تلو الأخرى تتناسل وتتوالد وتتكاثف: ما الجدوى من هذا الحقل المعرفي؟ وهل نحن في حاجة إلى علمٍ فقَدَ موضوعه ومنهجه معًا، وتجاوزه موضوعه الإيتيمولوجي: الإنسان ((Anthropos؟

هذه الأسئلة وغيرها ولَّدت نقاشًا إبيستيمولوجيًّا وأنثروبولوجيًّا حامي الوطيس حول الهوية المعرفية للأنثروبولوجيا ذاتها، موضوعًا ومنهجًا. كيف ينبغي التعامل مع هذه الوضعية والحالة هذه؟ وهل نتخلَّى بكل بساطة عن مجالٍ معرفيٍّ صار متجاوزًا، أم أنه حان الوقت لكي يُعيد الأنثروبولوجيون النظر في تراثهم المعرفي، محاولين بذلك مجاوزة الكلاسيكيات الأنثروبولوجية، من خلال – أولًا وقبل كل شيء – فتح حوار نقديٍّ معه، وإعادة النظر الفعلية في الأسس التي يقوم عليها، ومنها إلى إحداث قطائع إبيستيمولوجية فعلية والانفتاح على الأفق الإنساني المعاصر؟

لا شكَّ في أن الاختيار الأول كان مستبعدًا تمامًا؛ لأنه لا يمكننا اليوم – في ضوء ما تشهده عوالمنا من التشعبات والتعقيدات المتشابكة والمنشبكة – أن نستغني عن الأنثروبولوجيا؛ نظرًا لمكانتها المركزية في العلوم الاجتماعية من جهة أولى، ولِما يمكن أن تقدِّمه من فهمٍ وتأويلٍ يُمكنه أن يساهم في توسيع مجال تفكيرنا حول الوجود البشري برمته، من التفاصيل اليومية لحياة الأفراد (le quotidien) إلى الأفق الإنساني الكوني، من جهة ثانية.

[inlinetweet prefix=”” tweeter=”” suffix=””]”لمّّ تعد الأنثروبولوجيا اليومَ تدرس المجتمعات التقليدية أو القروية أو تبحث في إمكانية ظهورها واندثارها، بل غدت تدرس الإنسان”[/inlinetweet]

لم تعد الأنثروبولوجيا اليومَ تدرس المجتمعات التقليدية أو القروية أو تبحث في إمكانية ظهورها واندثارها، بل غدت تدرس الإنسان، أو بمعنى أدقَّ تبحث في ثقافي الإنسان، في أي سياقٍ كان. ومن مفعولات القطيعة التي أحدثتها الأنثروبولوجيا مع ذاتها، أنها أعادت تعريف نفسها من خلال تجسيد ما تعنيه إيتيمولوجيا: الأنثروبولوجيا: علم الإنسان. وبما أن إنسان اليوم هو إنسانُ المعاصرة، فإنها لا تعمل إلَّا على رصد هذه المعاصرة محليًّا وكونيًّا: رهان الأنثروبولوجيا المعاصرة. فبعدما كان الأنثروبولوجي (l’anthropologue) – مُمارس الأنثروبولوجيا – يَدرس ساكنةً بعينها، صار اليوم يدرس موضوعات، يبني موضوعاته باستمرار.

صحيح أننا اليوم أمام أنثروبولوجيا مختلفة، مغايرة تمامًا لما كانت عليه كلاسيكياتها؛ لكن هل يعني ذلك أنها قطعت بشكل قطعيٍّ ومطلقٍ مع ما قبلياتها الكلاسيكية؟ سيكون الجواب بنعم، إذا ما انزلقنا في المعنى الوضعاني (Positivisme) لمفهوم القطيعة. والحال أننا بعيدون كل البُعْد عن هذا المفهوم. فما نقصده هنا بالقطيعة بوصفها انفصالًا بالدرجة الأولى، ليس فصلًا بين لحظتَيْن، يجبُّ اللاحق منها السابق، بل يتعلَّق الأمر بسيرورة لا تنفكُّ عن الانفصال. فالأنثروبولوجيا الجديدة لم  تفقد حِسَّها الأنثروبولوجي، أتحدَّث هنا عن حسِّها الثقافي (الرهان الثقافي)، نهجها الاستقرائي ومنهجها الإثنواغرافي، لكنها نفخت فيه روحًا جديدة، إنها روح المعاصرة.

إذن، هناك اليوم حاجة ملحَّة للأنثروبولوجيا. في حاجة إلى أي أنثروبولوجيا؟ إننا في حاجة إلى أنثروبولوجيا جديدة: أنثروبولوجيا للعوالم المعاصرة. بالمعنى الذي نجدها عند الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجي (Marc Augé )، على سبيل المثال لا الحصر.

يميز مارك أوجي في كتابه “من أجل أنثروبولوجيا للعوالم المعاصرة” [Pour une anthropologie des mondes contemporains) [6]، بين ثلاثة عوالم أساسية، تخصها الأنثروبولوجيا اليوم بالدراسة والتفكيك والتأويل، وتشكِّل العالم المعاصر، أَلَا وهي: الفرد، والظواهر الدينية الخاصَّة بالمستعمرات السابقة، والمدينة. إذ تقع هذه العوالم بين الوحدة والتعدُّد. ولفهمها، يقترح علينا زوجَيْن من المفاهيم: الأمكنة/اللاأمكنة (Lieux /Non-Lieux)، والحداثة/ما فوق الحداثة(Modernité/Surmodernité) . وهو الزوج الذي يحاول به الأنثروبولوجي اليوم تفكيك مفارقة المعاصرة: التفرُّد والكونية. لكن ما موقع المدينة في هذه المفارقة؟ إنها مجالها الواقعي: “تلتئم العوالم الجديدة في الواقع المجالي للمدينة، التي تشملهم جميعًا بكيفية إمبريقية، وتلك هي الصعوبة الجوهرية في كل تفكيرٍ حول المدينة؛ لأنها تفضي بالضرورة إلى تساؤلٍ يكون موضوعه العالم برمته كواقع معاصر تمامًا في حدِّ ذاته”[7].

وعلى هذا الأساس، فإن أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة هي أنثروبولوجيا المدينة. فمع أنثروبولوجيا المدينة لم يعد بإمكاننا التسليم بتعميم نماذج غربية للمدينة كمفهومٍ على مختلف المدن الأخرى: مدننا، مدن العالم الثالث.

لا يفوتنا في هذا الباب أن نشير إلى دور الأنثروبولوجيا الحضرية، بل إلى دور علماء اجتماع جامعة شيكاغو (ما سُمي لاحقًا بمدرسة شيكاغو)، في مجاوزة الأنثروبولوجيا لذاتها، من خلال تجديد مناهج الأنثروبولوجيا ومفاهيمها وموضوعها وميدانها سوسيولوجيًّا، والتي ما زالت أنثروبولوجيا المدينة اليوم تدين لهم بها، كيف لا، وهي التي قد أسَّست بدراسات السوسيولوجيا الحضرية وأبحاثها في مدينة شيكاغو الأمريكية الميراثَ الأول لأنثروبولوجيا المدينة[8]. كما لا ينبغي أن يفوتنا أيضًا الإشارة إلى دور النقد الفلسفي والثقافي للمفكِّر إدوارد سعيد على الخصوص، باعتراف مارك أوجي نفسه. وكذا إلى دور فكر الاختلاف في إعادة صياغة الأنثروبولوجيا، أنثربولوجيا العوالم المعاصرة، من حيث هي أنثروبولوجيا للمدينة بالدرجة الأولى: “المدينة عالم؛ لأنها من العالم، ولأنها تحمل جميع خصائص العالم الحالي… في المدينة تستشعر – إذن وبشكلٍ خاصٍّ – تعدُّدية العوالم التي تصنع العالم المعاصر: عالم الفرد قبل كل شيء”[9]. إننا إذن أمام أنثروبولوجيا جديدة لعالمٍ جديد، عالم المدينة، عالم التفردات والكونية، والوحدة والتعدُّد، والأمكنة واللاأمكنة، والحداثة وما فوق الحداثة، والهوية والاختلاف، والمحلي والكوني… عالم المعنى والحرية. إنه عالم المفارقات. وعلى هذا النحو، فإن مهمَّة الأنثروبولوجي اليوم – أنثروبولوجي المعاصرة – تقع فيما بين المعنى والحرية، بين المعنى الاجتماعي والحرية الفردية[10].

مجمل القول: لم يعد اليوم مقبولًا لدى مثقفينا العرب وغير العرب النظر إلى الأنثروبولوجيا نظرة كلاسيكية، عتيقة ومتقادمة، أي كعلمٍ يدرس المجتمعات التقليدية والمستعمرة، أو كعلمٍ مشبوه أيديولوجيًّا؛ لأن أنثروبولوجيا اليوم تجاوزت ذاتها إلى أنثروبولوجيا مغايرة؛ تقوم على أسسٍ إبيستيمولوجية جديدة، ورهاناتٍ ثقافية جديدة: رهانات إنسانية أكثر منها أيديولوجيةً. هذه هي الأنثروبولوجيا التي ندافع عنها. حرفة تجعل مهمتها الأساسية: التحليل النقدي للتمركز الإثني حول الذات الثقافية المحلية[11]، بما فيها الثقافة الغربية في حدِّ ذاتها، وتتيح إمكانية صياغة أنثروبولوجيات قُطرية تنافسية كما هو شأن صياغة أنثروبولوجيا عربية قادرة على التنافس المعرفي والعلمي محليًّا وجهويًّا، إقليميًّا ودوليًّا. إن الأنثروبولوجيا في جوهرها: “إمَّا أن تكون إنسانيةً أو لا تكون”.

الهوامش:

[1]   Augé, Marc.(2006), Le Métier d’anthropologue.. Sens et liberté. Paris: Editions Galilée. P. 09.
[2]  للتوسُّع أكثر في واقع الإنتاجات الأنثروبولوجية في العالم العربي، يمكن العودة إلى التقرير الآتي:
– حمودي، عبد الله. العلوم الاجتماعية في العالم العربي: مقاربة الإنتاجات الصادرة باللغة العربية (2000- 2016). بيروت – لبنان: المرصد العربي للعلوم الاجتماعية – المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، 2018، ص52- 74.
[3]  حمودي، عبد الله. المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2019، ص27.
[4]  نفسه، ص25.
[5]  نفسه، ص47.
[6]  راجع: – أوجي، م.  أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة، ترجمة: طواهري ميلود. الجزائر: دار الروافد الثقافية، 2016 – Augé, Marc. (1994). Pour une Anthropologie des mondes contemporains. Paris: Éditions Aubier.
– Augé, Marc.(1992). Non-lieux Introduction à une anthropologie de la surmodernité. Paris: Seuil.
[7] أوجي، م. مرجع سابق، ص135.
[8]  يمكن الرجوع في هذا الإطار إلى المرجع الآتي:
– Agier, Michel. (2015). Anthropologie de la ville. Paris: PUF.
[9]  أوجي، م. مرجع سابق، ص141.
[10]  Le Métier d’anthropologue. P. 65
[11]  نفسه.

 

المصدر: مركز نهوض للدراسات والأبحاث

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.