دفاعاً عن الأنثروبولوجيا
ساري حنفي*
يعتبر كتاب “حقل علمي واحد وأربع مدارس: أنثروبولوجيا بريطانية وألمانية وفرنسية وأميركية” لمؤلفيه بارث وآخرون (والذي سوف ينشره قريباً بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) أهم وثيقة تاريخية عن نشوء وتطور الأنثروبولوجيا في العالم الغربي. فهذا الكتاب يجبر الأكاديميين والعامة من الخروج عن الفكرة النمطية التي تربط بشكل تبسيطي بظهور وتطور الأنثروبولوجيا وظهور النزعة الاستعمارية الأوروبية. وفعلاً عمل بعض الأنثروبولوجيين كمديرين استعماريين وبطرق تعزز من قوة الاستعمار، وساهمت بعض التنظيرات بشكل نشط في العنصرية وممارسة القمع الاستعماري. ولكن، على الرغم من أن كثيراً من الأنثروبولوجيين قد استفادوا من الحملات الاستعمارية والتبشيرية والمصالح الاقتصادية في بعثاتهم الاستكشافية، إلا أن الأغلبية الساحقة لهذه الكتابات لم تخدم أي أغراض استعمارية أو تبشيرية آنية أو قصيرة المدى.
بل إن الفضل لهذا العلم، أنه نظر لوحدة النفس البشرية، كما رأى بارنت تايلور، منذ القرن التاسع عشر في الوقت الذي كان يعتقد كثيرون، أن هناك أعراقاً طبيعية (أي تتأثر بالطبيعة) وأخرى تتأثر بالثقافة. وقام فرانس بواز، والذي يعتبر أب الأنثروبولوجيا الأميركية، باستخدام الثقافة بوصفها مفهومًا أساسيًا في مقابل التركيز المجتمعي وعلى البنية الاجتماعية للأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، وفي مقابل الإثنولوجيا ذات الإدراك الاحتقاري عند رادكليف- براون، وخصوصاً التفسيرات المبنية على العرق والبيولوجيا. تميز هذا البراديغم بتحول في مفهوم الثقافة. فقد عرف بواز الثقافة بشكل شامل لتشمل الحقول المادية والاجتماعية والرمزية. هذا التعريف ظاهريًا يشبه تعريف تايلور، لكن بواز يقصد شيئًا مختلفًا تمامًا. فنموذجه لم يستخدم الثقافة كمرادف للحضارة، كما فعل تايلور. لكن الآن بمعنى الجمع، التأكيد على اختلاف الثقافات والنظر إليها كسياقات للسلوك الإنساني المكتسب بالتعلم. (وهذا يختلف مع علم النفس في ذلك الوقت الذي كان يؤكد على الغريزة). وهكذا تم تطوير مدرسة النسبية الثقافية.
كما قامت المدرسة الألمانية بالاهتمام باللغات المحلية من خلال تعلم لغات الشعوب غير أوروبية ونشر دراسات فيلولوجية ونصوصية لثقافاتهم.
إذاً يشبه تاريخ الأنثروبولوجيا، تاريخ كثيرٍ من العلوم وتاريخ المعرفة الدينية التي تتأثر بالعلاقة بالممول والسلطان والسلطة، إلا أننا شاهدنا أدبيات ناتجة عن هذه الحقول لا يمكن فهمها بالتركيز فقط على هذه التأثيرات. لذا يجب دراسة كل حقل بشكل يدان فيه ماهو استعماري وعنصري وسلطوي ويبرز ماهو إنساني منفتح.
ولفهم تطور الأنثروبولوجيا، خلال القرنيين الماضيين، علينا فهم هذا الحقل بصفته يتمتع باستقلالية نسبية، ولكن أيضاً مرتبط ارتباطاً عضوياً بتطور الحقول المعرفية الأخرى. لقد بدأ التحليل الأنثروبولوجي بالتركيز على أسئلة عن الأصل والتاريخ الى أن جاء رادكليف-بروان (1881-1935) الذي أسس لمفهوم الوظيفة على أنها الأداة التي عن طريقها يتم السؤال عن البنية وعن ارتباطاتها المتداخلة. وطور ليفي شتراوس هذه البنيوية. ولكن برز صخب بين الأنثروبولوجيين البريطانيين وغيرهم حول عجز النظرية الأنثروبولوجية وعدم قدرتها على معالجة أسئلة التغير الاجتماعي. ففي براديغم مالينوسكي الثقافي كانت القضية يُفكر فيها باعتبارها موضوع عقد ثقافي بشكل أساس، بسبب تأثيرات الأفكار وضعف الاندماج الثقافي الناتج عن تدخل قوى خارجية. وفي براديغم رادكليف- بروان البنائي، فإن مجرد وصف التغير الاجتماعي كان يفترض أن البناء الاجتماعي هو بالتعريف شيء مستمر، مع ارتباطات وظيفية داخلية. لهذا فإن التحليلات الأنثروبولوجية دائمًا ما بدت على أنها تتحول لأن تكون محافظة وفي صالح البنى القائمة.
لقد تطورت الأنثروبولوجيا بالاستفادة من العلوم الاجتماعية الأخرى، وخاصة علم الاجتماع وعلم النفس واستقت كثيراً من المدرسة الماركسية لتطوير اهتمامها بالاقتصاد السياسي بدل الاقتصار على دراسة الثقافة. وانخرط حالياً كثيرٌ من الأنثروبولوجيين بنشاط يقوم على الأخلاق التي تتطلب كفاحًا ضد الظلم والقمع، وكان آخرها تبني الجمعية الأميركية للأنثروبولوجيا حملة المقاطعة الأكاديمية للمؤسسات الإسرائيلية (BDS).
*أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت
المصدر: حريدة العربي الجديد https://goo.gl/yIDJ71