دراسات في توثيق التراث الشعبي العربي

التراث الشعبي العربي

أحلام أبو زيد*

ارتبطت معظم الدراسات التى سنعرض لها بتوثيق التراث الشعبي في كافة المجالات، وقد آثرنا أن نعرض في هذا الإطار للملتقى الإقليمي للمنطقة العربية حول صون التراث غير المادي والذي جرت فعالياته في أبو ظبي، ونشر في كتاب العام الماضي. إلى جانب اختيارنا لدراسات متنوعة في التوثيق، فهناك موضوعات في توثيق الحكايات الشعبية، وأخرى في توثيق النقود، وثالثة في توثيق الأماكن، ورابعة في توثيق الحرف والمهن الشعبية. وينتهي جديد النشر بعرض لموضوعات مجلة الفنون الشعبية المصرية التي حملت بدورها موضوعات نرى أنها لم تبتعد عن مجال التوثيق في أبوابها المتنوعة.

توثيق التراث غير المادي والحفاظ عليه :

شغلت قضية الحفاظ على التراث غير المادي المجتمع الدولي والعربي، واهتمت اليونسكو بهذه القضية بشكل خاص منذ إعلانها عام 2003 لاتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي. وعقدت العديد من المؤتمرات والندوات الدولية حول هذه القضية، وقد ناقشت مجلتنا – الثقافة الشعبية – مصطلح «التراث غير المادي» ونشرت تفاصيل ما انتهت إليه في عددها الأول. وقد أصدرت هيئة أبو ظبى للثقافة والتراث عام 2008 كتاب «التراث غير المادي: كيفية الحفاظ عليه وإعداد قوائم الحصر.. تجارب عربية وعالمية»، والكتاب يقع فى 425 صفحة من الحجم المتوسط، ويحوي أعمال الملتقى الإقليمي للمنطقة العربية حول صون التراث غير المادي وإعداد قوائم الحصر، والذي جرت فعالياته فى الفترة من 31 مارس حتى 4 أبريل عام 2007 في أبو ظبي. وقام بعمليات التحرير والإشراف كل من: دكتور ناصر بن على الحميري، والأستاذ محاسن عبد الرحيم وقيع الله، ودكتور إسماعيل على الفحيل. وقد أشار الدكتور ناصر بن علي الحميري مدير إدارة التراث المعنوي بهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في تقديمه للكتاب إلى أن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث قد قامت باستضافة هذا الملتقى الإقليمي الأول للمنطقة العربية حول «اتفاقية صون التراث غير المادي» عام 2007 حيث عُرض على وفود الدول العربية التي لم توقع على اتفاقية 2003 لصون التراث غير المادي أهمية هذه الاتفاقية من حيث صون التراث غير المادي والمحافظة عليه من الانقراض والاندثار والضياع وكيفية تسجيله في «اليونسكو». وقد تجاوبت الوفود العربية مع هذا المطلب، فقد شاركت 18 دولة في هذا الملتقى بجانب خبراء عالميين وخبراء من دول أخرى. ويضيف الدكتور الحميري أن ثمار هذا الملتقى يبدو أنها قد بدأت تظهر، فقد ارتفع عدد الدول العربية التى وقعت على اتفاقية 2003م من ست دول – قبل انعقاد الملتقى – إلى إحدى عشر دولة، وهي: الجزائر، والإمارات، ومصر، وسلطنة عُمان، والمغرب، وسوريا، والأردن، ولبنان، وتونس، وموريتانيا، واليمن. واشتمل الكتاب – بعد التقديم على كلمات السادة الأساتذة: محمد عبد الله الشحى منسق معرض أبو ظبي للكتاب، ومحمد خلف المزروعي مدير عام هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وبلال ربيع البدور الوكيل المساعد للشئون الثقافية بوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، وأخيراً كلمة سيزار مورينو تريانا أخصائي برامج قسم الثقافة غير المادية ممثل اليونسكو بباريس. وقسمت موضوعات الكتاب لمجموعة من المحاور، الأول بعنوان «صون التراث غير المادي وقوائم الجرد» حيث قدم في هذا المحور السيد سيزار مورينو تريانا ورقة حول التحديات التي تواجه قوائم الحصر القومية في اتفاقية عام 2003، أعقبها موجز تمهيدي لعناصر جرد التراث غير المادي، ثم نص الاتفاقية. أما المحور الثاني فقد اشتمل على مجموعة تجارب عالمية في إطار صون التراث غير المادي، قدم فيه دكتور هايوكى ساتوري ورقة بعنوان «حفظ التراث الثقافي غير المادي: الأنظمة و الخطط و الأنشطة في اليابان». كما قدمت السيدة نجوين كيم دونج ورقة حول «حفظ التراث الثقافي غير المادي: إعداد قوائم الحصر في فيتنام». وأخيراً قدمت السيدة سانوجو كليسيجو ورقة حول «حفظ التراث الثقافي غير المادي في مالي». وخصص المحور الثالث للتجارب الإقليمية والعالمية  المرتبطة بتقنيات جمع وتوثيق ودراسة وترويج وإحياء التراث غير المادي، فقدم السيد عبد الحميد حواس ورقة حول «تطور مفهوم التراث المادي و غير المادي لدى «اليونسكو»: اعتبارات مفهومية وجهة نظر الثقافة الشعبية العربية (مصر). أما الدكتورة السعدية عزيزي فقد عرضت لورقة بعنوان «تقنيات جمع التراث الثقافي غير المادي المخطوط و الشفهي: قراءة في التجربة المغربية». وفي المحور الرابع ناقش المؤتمر موضوع «صون التراث غير المادي: التجارب العربية المشتركة ..الماضي والحاضر». فقدمت دكتورة ريتا عوض ورقة حول «جهود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) فى الحفاظ على التراث العربي (المؤتمرات والاجتماعات والبرامج). كما قدم الدكتور أحمد مرسي ورقة حول «حفظ التراث غير المادي و حمايته: المأثورات الشعبية المصرية نموذجاً». وفي المحور نفسه قدم  دكتور عبد الرحمن أيوب لقضايا و توصيات مؤتمر تونس. وقد غطت المحاور من الخامس حتى الثامن موضوع تبادل وتقييم التجارب الوطنية فى صون التراث غير المادي و قوائم الجرد، بدأت بورقة السيد إبراهيم سند حول «طرق وأساليب الجمع الميداني لعناصر التراث في البحرين»، ثم الدكتور عمر حلبلب الذي قدم ورقة حول دور التسجيل وقواعد البيانات في الحفاظ على المعارف التقليدية والفلكلور بلبنان. كما تناول السيد يوسف حسن مدني تجربة السودان في توثيق التراث الثقافي غير المادي. أما تجربة سلطنة عمان فقد قدمها السيد مسلم بن أحمد الكثيري من خلال ورقته حول جمع و توثيق التراث الموسيقي التقليدي. كما قدم السيد السالك ولد محمد مصطفى تجربة صون التراث الثقافي غير المادي في موريتانيا. وفي المحور السادس قدم السيد عبد العزيز المسلم تجربة دولة الإمارات في حفظ التراث الثقافي غير المادي، كما قدم دكتور سمير قفص ورقة حول التراث غير المادي في المغرب: الغنى و التنوع وإشكالية المحافظة. أما دكتور زعيم الخنشلاوي فقدم ورقة عرض فيها للنموذج الجزائري لحماية الكنوز البشرية، واختتم المحور بورقة الأستاذة أروى عثمان حول تجربة جمع وتوثيق التراث المعنوي في اليمن. وبدأ المحور السابع بالتجربة السورية في جمع و حفظ التراث الشعبي بعد اتفاقية 2003 والآفاق المستقبلية للدكتور كامل إسماعيل، أعقبتها ورقة دكتورة آسيا بنت ناصر حول «حفظ التراث غير المادي :الأدب الشعبي و سبل صونه في سلطنة عمان»، ثم ورقة دكتور علي برهانة حول «الإجراءات التشريعية و القانونية الخاصة بصون التراث من خلال تجربة المركز الوطني للمأثورات الشعبية في ليبيا». أما المحور الأخير فقد بدأ بعرض «التجربة الفلسطينية في جمع التراث غير المادي» للسيد نادر جلال ذياب، ثم ورقة دكتور علي القيم حول «السياحة الثقافية والتراث غير المادي بسوريا». وفى نفس المحور قدم الدكتور هاني العمد ورقة بعنوان «جهود الأردن فى جمع التراث غير المادي..رسمياً وفردياً». واختتم المحور الثامن بورقة السيد سعيد حمد الكعبي حول «دور هيئة أبو ظبي للثقافة و التراث في الحفاظ على الحرف والصناعات اليدوية». واختتم الكتاب بتسجيل مجموعة التوصيات التي اتفق عليها المشاركون والتي كان في مقدمتها إنشاء مؤسسات متعددة الاختصاصات تعنى بصون التراث الثقافي غير المادي، وضرورة الاعتماد على التجارب المنجزة في المجال العربي، مع الاستفادة من التجارب الدولية في عمليات الجمع والتسجيل والصون، كما دعا المشاركون هيئة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة إلى العمل على إنشاء مركز عربي للدراسات – أو «وحدة بحوث» – يعتمد الخبرات العربية وتوكل إليه مهمة التنسيق وتنظيم دورات تدريبية، وتقديم منح دراسية للمشتغلين في مجال التراث غير المادي العربي في الأقطار العربية.

التأصيل العربى لكليلة ودمنة :

في مجال بحث وتوثيق الحكايات الشعبية العربية صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 2008 كتاب جديد ضمن سلسلة الدراسات الشعبية (رقم 118) للدكتور محمد رجب النجار، بعنوان «كليلة و دمنة تأليفاً لا ترجمة» صدر الكتاب بعد وفاة الدكتور النجار بعامين، ويقع في حوالي أربعمائة صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب يطرح قضية غاية في الأهمية مرتبطة بتأصيل نسب حكايات كليلة ودمنة، ويشير الأستاذ خيري شلبي في تقديمه للكتاب تحت عنوان «رد غربة كليلة ودمنة» إلى أنه من المستقر في جميع الأبحاث والدراسات أن مؤلف كتاب «كليلة ودمنة» هو الفيلسوف الهندى بيدبا، لكن عالم الفولكلور الرائد الدكتور محمد رجب النجار، صاحب الخبرة الموسوعية في فنون البحث والاستدلال، رفض الاقتناع بذلك، وألقى بنفسه فى خضم بحث عميق خلص منه إلى نتيجة مبهرة هي أن مؤلف كتاب «كليلة ودمنة» هو عبد الله بن المقفع. والنجار بذلك يعيد نسبة الكتاب إلى صاحبه ويؤكد مدى عبقرية القريحة العربية التى طالما اتُهمت بالجمود. ويشير رجب النجار إلى أن هذا البحث ينحو – في الاتجاه المعاكس – لإثبات ثلاث قضايا بشأن كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. الأولى: تأكيد نسبة الكتاب إلى ابن المقفع باعتباره مؤلفاً لا مترجماً. الثانية: إثبات عروبة الكتاب وأصالته، تأليفاً لاترجمة. الثالثة: منح الكتاب صك الانتماء إلى الثقافة القومية والأدب العربي، باعتباره نصاً إبداعياً أصيلاً من إنتاج الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. وعلى الرغم من أن بعض علماء الفولكلور والباحثين العرب يؤمنون بصدق هذه القضايا الثلاث، فإنهم لم يقدموا من الأدلة سوى ما يسمى في علم المنهجية بالأدلة السلبية التي تقدم نصف الحقيقة، بمعنى أنها أدلة تنفي فعل الترجمة. ويأتي هذا البحث، في خطوة أخرى لاكتمال الحقيقة، فيقدم من الأدلة ما يؤكد «فعل التأليف». متكئاً إلى ثلاثة محاور رئيسية: المحور التاريخي الذي يقدم الدليل التاريخي على أن ابن المقفع هو مؤلف الكتاب الحقيقي، لا مدعي الترجمة. ثم المحور  الفولكلوري الذي يؤكد انتماء الكتاب – نصاً عربياً أصيلاً – إلى الثقافة القومية، وابناً شرعيًا للتراث العربي. وأخيراً المحور الأدبي المقارن الذي يؤكد أن الكتاب العربي لابن المقفع مفارق تماماً لنسخة الشاهد الهندي (البنجاتنترا) من حيث البنية السردية، المورفولوجية والدلالية والوظيفية، مؤكداً وبما لايدع مجالاً للشك أن الكتاب العربي كان تأليفاً لا ترجمة. وعلى هذا النحو يتناول النجار في كتابه موضوع قصص الحيوان، ثم ينتقل لبحث كتاب كليلة ودمنة والنوع الأدبي، مختتماً كتابه بفصل حول عروبة الكتاب أو معضلة الانتماء والتأليف. أما الجزء الأكبر من الكتاب فقد خصصه المؤلف لدراسة نصية مقارنة بين حكايات البنجاتنترا (الأسفار الخمسة) التى ترجمها الدكتور عبد الحميد يونس مطلع الثمانينيات وكليلة ودمنة، ليخلص لما خطط له فى المقدمة بعد مقارنة النصوص لنقف في النهاية على التأصيل العربي لكتاب «كليلة ودمنة».

جمع وتوثيق الحكايات الشعبية الليبية :

وفى إطار جمع وتوثيق الحكايات الشعبية الليبية صدر للباحثة الليبية فاطمة الغندور كتاب «يا حجاركم .. يا مجاركم» عام 2005 عن مجلة المؤتمر، ويقع الكتاب في حوالي مائة صفحة. وعلى الرغم من أن الكتاب صدر من أربع سنوات فإنه يحوي تجربة جديرة بعرضها في جديد النشر، فالمؤلفة اهتمت بجمع وتوثيق وتدوين مجموعة من الحكايات الشعبية الليبية متبعة المنهج العلمي في التعامل مع الحكاية كنص شعبي. فمادة الكتاب – كما تقول فاطمة الغندور – حكايات شعبية جمعت ووثقت من أفواه راوياتها كما هى دون حذف أو إضافة، بل وبلهجتها المحكية، تمنح سامعيها وقرائها إطلاعاً أو بحثاً ودراسة، صوراً جلية واضحة لملامح أماكنها وما ارتبط  بها من ظروف اجتماعية واقتصادية من خلال ثقافة الجماعة. وتعرض المؤلفة للعديد من القضايا في مقدمة كتابها من بينها تهميش الاهتمام بجمع الحكايات الشعبية، وعدم الاهتمام بالرواة. ويلاحظ من نصوص الحكايات أنها جمعت من راويات، بل إن إهداء الكتاب كان للراوية «نفيسة الزروق بوصوفة» ولكل راويات الحكايات الشعبية الليبية. وتشرح فاطمة الغندور معنى عبارة «يا حجاركم .. يا مجاركم» التى اختارتها عنواناً لكتابها، فتشير إلى أنها نموذج من نماذج الاستهلال في الحكاية الشعبية الليبية، شارة تنبيه وتهيئة نفسية يبثها مالك سلطة الحكي لمستمعيه طرفان متوازيان إنجذاباً وتشوقاً ممتثلان للقاعدة والقانون (إعلان البدء) بمجرد الاستئذان بما هو متعارف عليه. كما أن العبارة تستخدم أيضاً كمدخل للعبة شعبية تؤدى غناء بين مجموعة من اللاعبين – أو بفرد يقابله فرداً آخر – وتخاطبه: يا حجارك يا مجارك شن (ماذا) تعشى البارح حمارك؟ ويجيب الآخر (أو الآخرون) على السؤال المعنى عما قدموه بالأمس لدابتهم، فإذا ذكروا الخبز تصير الإجابة: خبزوك الخبازين ولطخو عيونك بالطين.. يا حجارك يا مجارك شن اتعشى امبارح حمارك؟ وهكذا يتم استعمال المفردة (الإجابة) وربما كانت هى افتتاح لبدء التسلية بخراف «السمى أو التسامى»، أى الأحاجى والألغاز المعروفة. واشتمل الكتاب على عشرين حكاية شعبية جمعتها المؤلفة من منطقة «براك الشاطى» من عشر راويات من حقهن أن نسجل أسمائهن، وهن: فاطمة مريعى، وعايشة يوسف، ومبروكة عبد الرحمن املوده، وجازية حميدة، وزمزم سعد، وفاطمة حمزة، وسليمة سطيل، وابنتها خديجة سالم، ومبروكة الكنى، وفاطمة حميده. وقامت المؤلفة بشرح المفردات التى قد تستغلق على القارئ، ليجتمع بين دفتي الكتاب الصغير نموذج لتوثيق الحكايات الشعبية الليبية. أما الحكايات التي قامت المؤلفة بجمعها فهي: أرنب، ديب، حمار – الدويك – العنزة المعتنزة اللى قرونها حد أورنزا – فجره ودهب – جرينه – عيشة بنت النجار – حليمة بنت النجار – شبيشبان هلّى طاح فى القدر ما بان – من درجه لدرجه لين ياتى الله بفرجه – رمان صرانداكه – إمحمد بن رخيص – جميل – يا عين الشابابه ما درتي فى البابا – طن وطنه – يا قاتل الروح وين تروح – ما راحن من عباير وحنا سكوت – معبيص – من خنب ومن كدب ومن إيديه فجره ودهب – سبع ولاد وسبع بنات – دحية الصل.

الثقافة العربية موثقة على النقود :

وفى إطار توثيق الثقافة المادية صدر عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بالإمارات كتاب :النقود الإسلامية» عام 2008 لمؤلفه عبد الله بن جاسم المطيري. والكتاب يعرض لمجموعة مقتنيات وزارة الثقافة و الشباب و تنمية المجتمع، وهو مجلد فاخر يحوي حوالي ثلاثمائة صفحة، مع ترجمة بالإنجليزية للمقدمة البحثية التى تقع في حوالي خمسين صفحة، ويشير المؤلف فيها إلى أن النقود هي شاهد حي ووثيقة واقعية، ومصدر صاف لتطوير الكيان الحضاري في تاريخ الأمم والشعوب، فالنقد المالي مدلول كبير ومظهر يعكس قوة تلك الدولة أو ذلك المجتمع، أو هذه الحضارة بل إنها حالة يمكن من خلالها تلمس فنون تلك الأمة، والوقوف على عمق ثقافتها وشمول مجالات معارفها وإبداعاتها.. فمنذ بداية الخلافة الإسلامية بدا واضحاً الاهتمام بسك العملات والنقود لتكون شاهداً دائماً على هذا الكيان الحضاري. فقد عرفها الخلفاء الراشدون، وأبدع فيها الأمويون وتميز فيها العباسيون والمماليك، إلا أن من أشاعها هم العثمانيون. وجميعهم كانوا ينشدون فيها تاريخهم، وعمق حضارتهم، بدءاً بتعريبها وتصنيفها ثم إتقان سكها وجمال تصميمها، واختيار موادها الأولية والتقنية. ويمكننا تقسيم الكتاب لقسمين رئيسيين الأول نظري يعرض لتاريخ النقود في الدولة الإسلامية مشيراً للدراهم الساسانية المعربة، والدراهم العربية الإسلامية الصرفة في العهد الأموي، ثم الدراهم العربية الإسلامية في عهد الخلافة الأموية، ودراهم الثوار المضروبة على الطراز الأموي. ليتناول بعد ذلك نقود الدولة الأموية في الأندلس، ونقود الخلافة العباسية بداية من العصر العباسي الأول حتى الرابع. أما القسم الثاني الذي يحتل معظم صفحات الكتاب فيعرض فيه المؤلف لنماذج مصورة من النقود الإسلامية وتوثيق البيانات الموجودة على وجهي كل عملة. بدأها بالدراهم العربية الساسانية ومنها نماذج من دراهم سُكت في صدر الإسلام في عهد الخليفة عثمان بن عفان. ويبدأ توثيق العملة بذكر مصدر وتاريخ العملة ثم وزنها وقطرها، والصور والعبارات المسجلة على كل وجه. والنموذج الأول من هذه النماذج توثيق لدرهم سجستان سنة 31 هجرية، وزنه: 3.63 جم وقطره 29 ملم. ومسجل على الوجه الأول صورة جانبية للحاكم الفارسي يزدجرد الثالث بالتاج المجنح، وأمام الصورة اسمه بالخط الفهلوي، وخلف الصورة الدعاء بازدهار الملك بالخط الفهلوي. أما الوجه الثاني فمسكوك فى منتصفه النار المقدسة عند الفرس وحارساها، وعلى اليمين مدينة الضرب سجستان بالخط الفهلوي، وعلى اليسار تاريخ الضرب 20 يزدجرية بالخط الفهلوى أى 31 هجري. ويوازي هذا التوثيق ترجمة بالإنجليزية. وعلى هذا النحو يوثق المؤلف لما يقرب من 400 عملة في تاريخ الدولة الإسلامية في عهود مختلفة، شملت مسكوكات في عهد الخلفاء الراشدين ومسكوكات الخلافة الأموية في عهد معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان وغيرهم، ثم الخلفاء الأمويون في اسبانيا، ثم مسكوكات الخلافة العباسية التى بدأها بمحمد المهدي مروراً بهارون الرشيد ومحمد الأمين وعبد الله المأمون، وانتهاء بالمستعصم بالله. والكتاب على هذا النحو سجل مهم للباحثين في مجال التراث الشعبي العربي حيث تكشف البيانات الموجودة على كل عملة الكثير من المعلومات التي تفيد الباحث في مجال الثقافة العربية عامة. يبقى الإشارة إلى أن المؤلف حرص في مقدمة كتابه على تقديم ثبت موثق بأسماء الخلفاء والأعلام والمدن الواردة بالكتاب.

توثيق المواضع بالإمارات :

صدر أيضاً فى عام 2008 عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع كتاب جديد لأحمد محمد عبيد بعنوان «أصول أسماء المواضع التاريخية في الإمارات». والكتاب يقع في حوالي مائة صفحة، ويحوي معلومات مهمة وجديدة للقارئ العربي، وربما يكون مقدمة لتوثيق الأماكن والمواضع العربية على اختلافها. ويقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول ضم المواضع التي ذكرت المصادر وجودها في عمان (الإمارات قديماً)، وهذه المواضع هي: بينونة – تؤام – جرفار/جلفار – جوف الخميلة – الجو – الحت – حتى – حبرير – حفيت – خت – خورفكان – الخيل – دبا – رجام – السبخة – الصير– طريف – القرية – كلباء. أما القسم الثاني فقد خصصه المؤلف للمواضع التي ذكرتها المصادر دون تحديد أنها في عمان (الإمارات) قديماً. لكنها وردت برواية العالم اللغوي محمد بن الحسن بن دريد، الذى عاش فى عمان فترة مكنته من معرفة الكثير من أماكنها، وهذه المواضع لم يجد لها المؤلف نظائر في أماكن اخرى من بلاد العرب، والتى يرجح المؤلف أنها هى الموجودة في الإمارات حالياً، خاصة وأن بن دريد يذكر أن بعضاً منها ترجع تسميته إلى لهجات اليمن، وهو ما يعني به لهجة أزد عمان. وهذه المواضع هى: البدية – الحلاة – الرمص/الرمس – زكت – ضدنى -ضوت/ الظيت – العوير – غلفة/غلفا – الفجيرة – ذو النار/أم النار – الهجر /الهير. أما القسم الثالث والأخير من الكتاب فقد ضم مواضع من الإمارات لها نظائر فى بلاد العرب، لكن لم يرد لها ذكر فى المصادر، وهى: أذُن/أذَن – البثنة – الجواء – حبحب – الحديباء/الحديبه – الحومانة – حِيَاوة/حيَاوَة – الحيرة – الحيل – خزام – أم خَنور – دُبى – الدخول – رأس الخيمة – السلع – سمنان – الشارقة – أبو ظبى – الغوير – القراين – أم القيوين – المدام – مليحة – الولية. والكتاب اتخذ الشكل المعجمى فى عرض المادة وتصنيفها، واعتمد في توثيق القسمين الأولين على المصادر العربية الأصيلة مثل معجم البلدان ولسان العرب ومعجم ما استعجم ورحلة ابن بطوطة..إلخ، أما القسم الثالث والخاص بمواضع الإمارات التى لها نظائر فى بلاد العرب، فقد اعتمد في معظمه على مصدرين أساسيين هما «معجم البلدان» و»أصول المواضع التاريخية في الإمارات». ومن أمثلة ما ورد في هذا القسم منطقة «مليحة» التى جاء فيها أنها «بلدة في المنطقة الوسطى لدولة الإمارات، صحراوية المكان، معروفة بما اكتشف من آثار قديمة، يرجح أنها ملتقى للقوافل في العصور القديمة، لها نظائرها فى مواضع أخرى من بلاد العرب. قال ياقوت الحموى: «مليحة: اسم جبل فى غربى سلمى، أحد جبلي طي، وبه آبار كبيرة وملح، وقيل مليحة موضع فى بلاد تميم». ويلفظ هذا الموضع فى اللهجة المتداولة مليحة، بسكون الميم ثم لام ممدودة بالياء تنطق بالإمالة». وإلى جانب التصنيف الثلاثي الذي اختاره المؤلف لتوثيق المواضع، فقد قام بترتيب هجائي لها على المنهج العجمي.

توثيق الحرف والمهن الشعبية :

وفي مجال توثيق الحرف والمهن الشعبية صدر كتاب جديد بعنوان « توثيق الحرف والمهن الشعبيـة: الجزء الأول حرف ومهن مدينة القاهرة» إعداد وتحرير مصطفى جاد وأحلام أبو زيد – كاتبة السطور – وإشراف عام لأيمن خوري. والكتاب صدر عن مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي بمكتبة الأسكندرية عام 2009، ويقع في حوالى 160 صفحة اشتمل على نماذج موثقة بالشرح والصورة لمراحل وأدوات عشر حرف شعبية هى: أشغال النحاس – الخيامية – صناعة الشموع – فانوس رمضان – تشكيل الرخام – النجارة البلدي – عروسة المولد – الفخـار – تجليد الكتب – التطعيم بالصدف. ويشير الدكتور فتحي صالح مدير المركز في تقديمه للكتاب إلى أن مادة هذا الكتاب تقوم في منهجها الأساسي على التوثيق العلمي مما يتيح الفرصة للباحثين والمبدعين لعمليات الفرز والتحليل والاستلهام، ومن ثم فإننا نأمل أن يكون هذا العمل – في المستقبل – بمثابة الدليل لأجيال الحرفيين للوقوف على ما كان يصنعه الأجداد، والتعرف على طرق إنتاج كل حرفة، والعادات الخاصة بها، وأسباب التغير ونظام التعامل بين الأسطى والصبي، وآداب الورشة وتقاليدها..إلخ. أما المادة الميدانية للكتاب فقد بدأ العمل بها منذ عام 2001 ولا تزال عمليات الجمع والتوثيق مستمرة حتى الآن في باقي المهن والحرف كالذهب والفضة والطرابيش والتنجيد والباعة الجائلون ..إلخ. وتهدف الدراسة على هذا النحو إلى رصد وتوثيق الحرف الشعبية المصرية، وإعداد قاعدة معلومات متخصصة في هذا المجال، من أجل الحفاظ على هذا المأثور الشعبي المهم في حياتنا الثقافية. وارتبط منهج توثيق الحرف برصد الأدوات المستخدمة في كل حرفة ووظيفة كل منها، ثم الخامات والمواد المستخدمة، ثم مراحل العمل في الحرفة حتى المنتج النهائي لها، ثم يعرض الكتاب للمأثورات المتداولة حول كل حرفة من أمثال وحكايات وعادات ومعتقدات. ولما كانت الحرف الشعبية بالقاهرة عديدة ومتنوعة وشديدة الثراء، فقد ارتبط منهج الاختيار بالتنوع في الخامات قدر الإمكان، بحيث اشتمل على نماذج من الحرف المرتبطة بالمعادن كالنحاس، أو الطين كالفخار، أو الخشب كالنجارة البلدي، أو القماش كالخيامية، أو الجلود كعمليات تجليد الكتب، إلى جانب بعض الحرف المرتبطة بالمناسبات كالفوانيس وعروسة المولد. والكتاب لا يسعى لتقديم تحليلات أو تفسيرات، بقدر سعيه لتقديم مادة موثقة تفيد الباحثين في مراحل التحليل، ومن ثم فقد ارتبط منهج الجمع بتقديم نموذج جاهز للأرشيف يمكن الاعتماد عليه في عمليات جمع مستقبلية أو تحليل منهجي للمادة. وقد عكف على توثيق مادة الكتاب فريق عمل متميز في عدة مجالات : التصوير – الجمع الميداني – التوثيق – تحرير المادة – العرض والتقديم. وتمثل الصورة الفوتوغرافية في الكتاب عنصراً أساسياً في توثيق الحرف إلى جانب النص المدون، وهو ما يساير الاتجاه الحديث في مجال الأنثروبولوجيا البصرية الذي يتضمن بعض جوانب دراسة الأبعاد البصرية للسلوك الإنساني. وعلى هذا النحو يعد الكتاب مقدمة لإعداد أرشيف وطني للحرف الشعبية قائم على توثيق علمي وميداني.

 

*كاتبة من مصر

ahlamrizk@hotmail.com

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.