رغم كون الحرب ظاهرة عالمية، فإنها تظهر عبر تنوع هائل من الأشكال لدرجة تجعلنا نشك في إمكانية أن تكون مقتصرة شرعياً على فئة معينة من التحليل الأنتروبولوجي. تتمثل هذه الصعوبة في حصر الموضوع عبر غائية الفرضيات المقدمة عموماً لعرض “دوافع” للحرب، وظيفية كانت هذه الأخيرة (تساعد الحرب في استمرار أشكال تنظيم مجتمع أو منظومة قيمة)، أو منفعية (تهدف الحرب، شعورياً أو لا شعورياً، إلى تحقيق فائدة قصوى)، أو طبيعية (إن ميل الناس للحرب هو غريزة موروثة من طبيعة النسل الحيواني).
تتميز الحرب عن سائر الأشكال الجماعية للحسم الدموي لصراع ما (ثأر من النوع المتواصل، تحكم مسلح بالسلم الأهلي) لكون من يتجابه فيها هي وحدات سياسية مستقلة ومحددة في المكان، يمكن أن يتفاوت تعدادها كثيراً (جماعات محلية، مجموعة مجزأة إلى سلالات، عشائر أو فئات سن، قبيلة، زعامة، مملكة، دولة – أمة)، لكن الميزة المشتركة بينها جميعاً هي قدرتها على التحكم، على الأقل مؤقتاً، باستخدام العنف داخلها من أجل تحويله نحو العدو الخارجي. إن الجوار المكاني والثقافي المتفاوت هو الآخر بين المتحاربين يعرّف طبيعة الحرب، التي ستكون “عرفية” – باستعمالنا كلمة من مصطلح الاستراتيجية المعاصرة – أو خارجة عن المألوف، حسبما يتشاطر الفرقاء المتصارعون، اولاً، تصوراً مشتركاً لرهانات وشكليات الصراع الذي يخوضونه.
تندرج الحروب “العرفية” للمجتمعات التقليدية في نمطين أساسيين لا ينفي أحدهما الآخر: الحرب كنمط حل لأزمة طرأت في مسيرة معاملات سلمية، أي كبديل، حسب منظار الجنرال كلاوسفيتش، والحرب كوسيلة إعادة تكوين رمزي للهيئة الاجتماعية أو للكون. هناك صراع من النوع الأول عندما يختل عن قصد توازن قائم بين الجماعات المتجاورة بسبب التحكم بالمكان، أو الوصول إلى الموارد، أو تداول النساء أو السلع أو الممتلكات الرمزية. عندئذ تعبر الحرب بشكل مختلف عن علاقات سياسية تتطور في زمن السلم لاسيما من خلال التجارة والتبادلات الزواجية. في صراعات النوع الثاني، تكون الحرب وسيلة للاستحواذ على مبادئ أو مواد ضرورية موجودة لدى عدو محدد بشكل واضح، من أجل الحفاظ على هوية الجماعة (صيد الرؤوس وأكل اللحم البشري في الأمازون)، وإما للحفاظ على التنظيم الجيد للعالم في كليته (“الحرب المزهرة” لشعب الأزتيك). على خلاف النوع الأول الذي يرجع إلى أوضاع يشكل فيها الحرب والسلم مراحل متعاقبة في دورة تفاعل بين الجماعات المتجاورة، لا مجال للسلم في النوع الثاني، بما أن جسد العدو مطلوب بشكل دائم من أجل تأمين التوليد الرمزي للمجتمع والعالم.
تخضع الحرب العرفية – أو حرب الجوار – لقوانين وأعراف واضحة التحديد، إذ تهيأ ساحتها بحيث لا تلحق أضراراً خطيرة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للجماعات المعنية. ينتج عن هذه الضرورة مثلاً تقسيم السنة إلى فترة لاستثمار الموارد وفترة مكرسة للحرب والتظاهرات الدينية، أو حتى الحفاظ على العلاقات التجارية بين الجماعات المتحاربة. ويمكن لأشكال السلوك الفعلي للحرب أن تراوح بين إنعاش دوري لصراعات لا نهاية لها بين “أعداء وراثيين”، وبين شكليات مواجهة قريبة من اللعب، يطيلها أحياناً نوع من التمثيل، كما في “الحرب الصغيرة” لهنود جنوب شرق الولايات المتحدة، أو في دورات المبارزة بين بعض القرى الإفريقية. إن التناوب المنتظم بين الحرب والسلم غالباً ما يكون ناتجاً عن الضغوطات الملازمة للتنظيم الاجتماعي للمتحاربين. هكذا تكون سرقة الماشية في بعض المجتمعات الرعوية لشرق أفريقيا هي السبب الرئيسي للحرب بين القبائل، لأنها الوسيلة الوحيدة لأي شاب كي يؤمن لنفسه عدداً من رؤوس المواشي لن يستطيع بدونها أن يتخذ زوجة؛ وإذ يشارك الشاب في عملية سرقة الماشية، فإنه يكتسب في الوقت نفسه وضعية المحارب الرمزية لفئة سنه. والقوانين المنظمة لمجرى الحرب تشكل عموماً موضوع إجماع بين أخصام فعليين أو احتماليين: إن مدة المجابهة (أحياناً يوم واحد) وكذلك مكانها يمكن أن يكونا محددين بالعرف؛ ومن الممكن تحديد سقف لعدد القتلى يعتبر مقبولاً من الجهات المتحاربة، مع توقف الحرب تلقائياً عندما يبلغ العدد الذي لا يجب تخطيه؛ وهناك قواعد صارمة يمكن أن تسهر على حماية المساكن والمحاصيل والمواشي والنساء ومن لا يشاركون بالحرب؛ كما ينطبق الأمر نفسه على الجرحى والأسرى في كلا الطرفين، الخ.
لكن ممارسة الحرب العرفية لا تنفي إمكانية قيام أشكال أخرى للحرب، لاسيما عندما ينتمي الأعداء لنظامين ثقافيين متباينين بوضوح: إن ساحة تضم أراضي دول متجاورة تحيط بها تجمعات لا وجود للدولة عندها يمكن أن تقدم صورة عن ذلك. وهكذا فإن ممالك متجاورة تتشابه سلالاتها الحاكمة – وتقدم أفريقيا أمثلة عديدة عن ذلك – تمارس حروباً أرستقراطية فيما بينها، فيما تشن حروباً دون قانون ضد “البرابرة” أو “الهمجيين” الذين يعيشون على حدودها. على عكس ذلك، تمارس جماعات مستقلة محدودة العدد حرباً “اعتيادية” فيما بينها، ولكنها تعرف كيف تتصدى سوية لتطلعات الهيمنة من قبل عدو خارجي، على غرار قبائل السهول الأمازونية المتحالفة ضد إمبراطورية الإنكا. وبينما تفترض الحرب “الداخلية” في الغالب اتفاق الأخصام على اختيار الأسلحة – مثلاً، استبعاد الأسلحة النارية -، فإن الحرب “الخارجية” تجهل ترتيبات كهذه، إن الانتقال من الشكل السائد للحرب إلى شكل جديد يفترض تغيراً في معطيات الصراع ويواكبه تحول في التكنولوجيا العسكرية وفي سير المعارك. إن ظروف التفاوت التكنولوجي والاستراتيجي بين الأخصام هي مؤقتة دائماً، إذ ينتج عن الممارسة المستمرة للحرب تطوير لوسائل وأساليب شن الحرب، مما قد يحمل إمكانية كبيرة في انقلاب موازين القوى السائدة.
إن الرجال هم الذين يحاربون. فالعمل الحربي هو ذكوري مثل الصيد وحراسة الماشية في المجتمعات الرعوية. في كل مجتمع، هناك قسم هام من السكان الذكور في حالة تأهب دائم من أجل ضمان الدفاع عن الجماعة. يكون المتحاربون فتياناً بالغين أو ذوي بأس، ويجب أن يتميزوا بخصائص جسدية وأخلاقية، ليس من النادر أن يحدد النظام الاجتماعي مؤسسياً فريق المحاربين، إذ يمكن أن يتزامن هذا الأخير مع أجيال محددة جيداً في المجتمعات بفئات السن (شرق أفريقيا مثلاً) أو أن يتطابق مع واحدة أو أكثر من “جماعات” المحاربين التي يمكن تشبيهها بجماعات المسارة، مع كون المشاركة الأولى في المعركة أو قتل العدو الأول يمثل إعلاناً عن الدخول إلى عالم الراشدين، ومع كون وجود فرق مؤسسية كهذه من المحاربين يكون متواكباً في الغالب مع ممارسات منافسة بين أعضائها تؤدي إلى تعقيد إضافي لأشكال المعركة وإلى البحث عن المآثر الفردية (مثلاً هنود السهول من بين آخرين).
إن التمايز بين المجتمعات “السلمية” والمجتمعات “الحربية” هو اعتيادي ويبدو أنه يستند إلى أمثلة مؤكدة ومعروفة: هناك في أمريكا الشمالية، حالات متطرفة تمثلها مجتمعات المرتفعات التي كانت تنفر من الحرب، وشعوب إيروكوا التي بثت الرعب في جيرانها طيلة قرنين. إلا أن هذا التقابل يبدو صعب التأسيس، وقد لا يعني ذلك أن غالبية المجتمعات التي تعتبر عادة سلمية – وهي قليلة – لا تمارس ضد جيرانها حروباً “غير منظورة” أقل، بل حقيقة ودراماتيكية بقدر الحروب المفتوحة، حروبا توكل قيادتها إلى الأخصائيين في استعمال الأسلحة السحرية – الدينية: شامان، سحرة، كهنة متنوعون. وعندما يصبح نصيب الحرب في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية ونظام القيم سائداً بالمطلق، يمكننا التحدث عن مجتمعات “عسكرية” ولكن في سياق المجتمعات التي لا تعرف الدولة، وفي الواقع، فإن ظهور الدول ينعكس عادة في “نزع أسلحة” المجتمع وتخصيص بعض الأشخاص في مهنة الأسلحة؛ وإن استقلالية الجيوش تزيد القطيعة بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية، وهذا ما يشهده العديد من المجتمعات الفاقدة الدولة. إذا كان الجندي صورة من مجتمعاتنا، فإن المحارب هو صورة من الأصول يتعرف فيها المجتمع إلى خلاصة باهرة لميزات خارجة عن المألوف، ولكنها صورة غالباً ما تكون مثيرة للقلق، لأن الإنسان القوي يمثل دائماً تهديداً للتوازن الداخلي للجماعة.
إن الحرب هي أحد أبرز عوامل تغير تاريخ المجتمعات كما تظهره الدراسات الحالية عن كيفية قيام الدولة، بشكل خاص في إفريقيا السوداء، ذلك لأن الحرب هي منعطف نحو ممارسة العنف الجماعي، ولأنها تنتج صوراً فردية مجيدة، حية كانت أو ميتة، كان في مصدر قيام العديد من الممالك الأفريقية أشخاص متحدرون من مجتمعات دون دولة كانت ممارسة الحرب قد وضعتهم بادئ الأمر على هامشها. وكانت الحروب الهادئة بين السلالات قد صنعت من بعض المزارعين محاربين، ثم أصبح هؤلاء المحاربون غزاة، ثم أخذوا يقيمون الدول.